زمن الشعر وزمن المأساة
I
تكاد موضوعة الشعر والزمن تكون واحدةً من الموضوعات الأكثر جوهرية المطروحة على العقل المبدع. فالزمن، في نظر الشاعر، قبل أن يكون زمناً شعرياً، هو بالضرورة زمن كوني، لا يخضع لحواجز وضعية طارئة عليه تقسيمه بين ماضٍ وحاضرٍ ومستقبلٍ. هناك حاضر فقط في كون أضخم من كل قياس تندمج فيه الحركات والسكنات، الأجرام والكواكب في زمان مديد. كوكب الأرض أحدها وهو جزء من كلٍّ، زمنه حاضر مديد يشمل تصورنا عمّا نعتبره حدثاً وقع من قبل، وآخر من المنتظر أن يقع لاحقاً وقد يمتد هذا اللاحق، أو الما بعد إلى ما نسمّيه غداً لأننا نمنا واستيقظنا، وقلنا ها نحن في يوم جديد، يوم آخر.
ولكن، ما الغد بالنسبة إلى شخص لم ينم لثلاثة أيام مثلاً، شخص يجلس ويراقب من النافذة ظواهر الوجود بين ضوء وعتمة، بين شمس تسطع ثم تغيب ثم مساء يأتي ويعقبه شيء نسمّيه الليل، والوقت يمرّ متصلاً هكذا بلا توقف؟ فالجالس في جوار النافذة يرقب الطبيعة وتحوّلاتها في زمن متّصل، ولم يأت أحد ليقول إن شروق الشمس يعني مجيء نهار جديد، وغروبها يعني أن النهار انتهى وجاء الليل. وبما أن الليل جاء لا بد أن تنام لكي نسمّي هذه الدورة يوماً وليلةً، ونعتبر ذلك زمناً يأتي ويذهب ولا بد أن نسمّي ما مضى من زمن زمناً مضى، وما سوف يأتي سيكون الغد.
الشاعر هو ذلك المستيقظ الأبدي في مكان من الكوكب والكون، هو كل الكوكب والكون كله. وكما أن الكون أزمنة هي الزمن كله، فإن زمن القصيدة هو حاضر يمكن أن يجمع كل ما اعتبر ماضياً ليكون ممكناً في جوار حاضر هو كل غد سيأتي ليصبح حاضراً. ومن ثم لينضم إلى ما جاء من قبل، ليكون جزءاً من حاضر كلي يكبر ويكبر وتتداخل عناصره، ليعيش في قصيدة الشاعر بكل من عاش فيه.
هو ذا الزمن الشعري زمن كل ما كان وما سوف يكون بوصفه حاضر الشعر ومادته الخالدة العصية على الفناء.
الشعر زمكان خاص. ولو تأملت في صنيعي كشاعر، فلا مناص من أن ألاحظ كيف تتعايش في شعري الحكايات والأساطير والوقائع الجميلة والمؤلمة والمدهشة معاً وقد حدثت وجرى تخيّلها في أوقات مختلفة. ومهما تباعدت المسافات في ما بينها، واختلفت لغاتها، ثمة دائماً ما يجعلها تتجاور، إنه الجوهر الذي يجمع في ما بينها، البعد الإنساني في أعمق ما يصدر عنه وما تشترك فيه الكائنات والظواهر على اختلافها.
كيف يمكن للشعر أن يحيط بالكينونة كلها لو لم يمتلك قوة السحر والسحري الذي هو أسطوري بالضرورة، لو لم يغامر الشاعر في مجهول الشعور ومجهول العالم؟
لذلك يبدو لي العبث بالشعر في مدن الحداثة وما بعد الحداثة، بوصفه كائناً يمكن إخضاعه وتوظيفه في ألاعيب يومية صغيرة تصلح للتواصل الطريف بين الأشخاص، أو للإدهاش العابر، أو لإنتاج المفارقة الاجتماعية، أو للغناء الطفيف والخطابة السياسية المتحذلقة (كما يحدث اليوم للشعر في أكثر من لغة وثقافة شعرية) لهو ضرب من العبث والتسطيح. الشعر مغامرة وجودية شرسة، بحث كوني متطرف للشاعر في مجهول الذات والعالم، وانتماء لا يساوم على حرية الإنسان وكرامته، فعل ثوري لكونه فردياً ومضاداً للطغيان ولأخلاق القطيع معاً. وهو إذ يتسامى على الصغائر والتفاهات والنفاق الاجتماعي إنما يعبّر عن إمعان وثيق الصلة باستشراف الجوهري والأبدي في الأشياء، وهو ما يجعله سؤالاً وجودياً وميتافيزيقياً.
الشعر يأنس بالضرورة كل ما له صلة بالميثولوجيا والأساطير. ولكونه مغامرة في الذات والعالم عبر اللغة، على نحو غير مطروق قبلاً، واستشراف رؤيوي في الحواس والمخيلة عبر صيغ لغوية مبتكرة، فهو محاولة خلاقة لارتياد دروب بكر تنفتح على كل ما هو مدهش وغريب وصادم أحياناً، ولكنه خلّاق جمالي، سحري ومضيء، وغالباً ما يكون جمالاً ملغزاً عصياً على الشرح والتفسير.
الشعر حصان جامح. هل يمكن ترجمة صهيل الحصان أو تفسيره؟ هكذا هو الشعر.
II
“بعد أوشفيتز لن يكون هناك شعر”. لو انتزعنا مقولة أدورنو المشهورة هذه من سياقها كما يفعل الجميع، لن نخلص إلى ما هو أقل من أنها تكشف عن تفكير يقرّ بحق الضحية اليهودية احتكار صورة الضحية في العالم والتاريخ لهوية محددة وقصرها عليها، وهو ما يحيل ألماً إنسانياً باهظاً كألم ضحايا أوشفيتز إلى ألم خرافي، ألم أسطوري، ما دام لا يشبهه ولا يدانيه أيّ ألم إنساني آخر، وما دام أيضاً سوف يتسبب بانهيار اللغة، ونهاية إمكان التعبير، وموت الشعر، كما يريد أدورنو. هذا شيء يبدو لي مروّعاً! إنه يجعلني أتساءل: هل يمكن لأيّ درجة من درجات الألم في التجارب الناجمة عن الجرائم ضد الإنسانية أن تحوّل صاحبها إلى نوع من شخصية عصابية متمركزة على ذاتها، ومحتكرة للألم ولا تسمح لضحية أخرى سواها أن تتألم؟
ومن ثم يتاح لهذه الشخصية/الضحية في ما بعد أن تسوّغ لنفسها ارتكاب الجريمة وتدمير الآخر، من دون أن تحاسب ولا أن تشعر بالذنب أو تعترف لهذا الآخر حتى بحقه في أن يكون ضحية، وأن يكون في وسعه أن يدافع عن نفسه، أو أن يصف آلامه شعراً، أو نثراً، أو بواسطة أيّ نوع فنيّ أو غير فنيّ من أنواع التظلم والاعتراض.
ألا يفسر لنا اقتراح أدورنو هذا ما حاق بالفلسطيني من ظلم على يدي الضحية اليهودية التي حوّلها “العصاب الصهيوني” في احتكار اسم الضحية إلى جلاد يريد لضحيته أن تبقى مجهولة، وغير معترف بها أبداً وعلى الإطلاق، من دون أدنى احتكام لضمير؟!
أنا ضد من يقفلون الأفق أمام طائر الشعر، طغاة كانوا أم فلاسفة!
قبل أوشفيتز وبعد أوشفيتز، الحروب لم تتوقف والمآسي الإنسانية لم تكفّ عن الحدوث. وما دامت هناك مآس سيكون هناك شعر. خصوصاً عندما يقص لسان الضحية، ولا تجد المأساة صوتاً لها يواجه الطغيان سوى صوت الشاعر.
هل تعلّم العالم من الدرس السوري شيئاً جديداً؟ شيئاً غير ذاك الذي فشل أدورنو في التعبير عنه؟
من موقع الشاعر أقول إن الآلام السورية التي تسبب بها طاغية دموي افتتح في جغرافية بلاده معتقلات وقعت فيها جرائم لا تقل فظاعةً عن تلك التي ارتكبت في أوشفيتز، بما في ذلك استعمال الغاز في إبادة السوريين، إنما تقول لشعراء العالم إن الشعر لا بدّ أن يكتب بعد أوشفيتز وإن على ضمائر الشعراء أن لا تنام أبداً، وإن على عيونهم أن تنظر اليوم جهة سوريا.
لو أقررنا مع أدورنو باستحالة أن يكون هناك شعر بعد أوشفيتز فهذا يعني أن لا ضحية أخرى بعد ضحية أوشفيتز، وأن على العالم أن يغض النظر عن أيّ جريمة لاحقة تقع في مكان ما من العالم. أليس في هذه المعادلة المرعبة موت كل معنى. وأخيراً ألا يعني ذلك أن النازية انتصرت على ضحيتها بتأبيد فعل القتل بلا نهاية ومن دون حساب. (مرة أخرى: أنظر وثائق الهولوكوست السوري).
والآن أطرح السؤال الأصعب، لماذا لم يكترث شعراء العالم، ومعهم الشعراء العرب بالهولوكوست السوري؟ كيف أمكنهم أن يستمرّوا في الحديث عن جمال الأزهار بينما الإنسان السوري يموت في غرف الغاز الجديدة؟ كيف استطاعوا أن ينظروا في صور قيصر التي عرضت في الأمم المتحدة ويبقوا هادئين (55 ألف صورة لـ13 ألف ضحية تحت التعذيب عرضت أمام العالم) هل كان هناك نقص في المعلومات عن وقائع الموت في المسلخ السوري؟ كلا.. لأن كل الأفعال المشينة التي ارتكبت هناك جرت تحت سمع العالم وبصره؟ ومادام الشعراء، أيا كانت لغاتهم ومرجعياتهم الثقافية، هم أسرة الحرية، لسان الوجدان الإنساني، وصوت الضحية في الأرض، فإن سؤالي الأخير لإخوتي الشعراء الصامتين هو: متى ستشعرون بالعار أيها الشعراء لأن صرخات الضحايا في سوريا لم تحرّك ضمائركم، ولأن كلماتكم اقتدت بأدورنو وأصيبت بالخرس؟
هل يتمتع الشاعر بقوة روحية هائلة حتى يمكنه أن يأتي بما يدهش ويسحر الألباب؟ لو كان يجوز لشاعر أن يستقبل مثل هذا السؤال فجوابي الأكيد أنني لا أعرف إلى أيّ حد أنا قويّ.. بل إنني أشعر أحياناً بأنني هش وقابل للكسر. والأرجح أنني يتملكني شعور باليتم، اليتم الاجتماعي، واليتم الوجودي، حالات متفاقمة من اليتم متعدد الأوجه لازمتني حتى في أكثر اللحظات التي عشتها سعادةً وجمالاً. ربما إن كل ما قدمه المنفى لي هو البرهان على أن الشاعر، مهما كان محبوباً ومرغوباً ومنظوراً، (ربما ينطبق هذا على كل إنسان مرهف الشعور) هو من المهد إلى اللحد وبالضرورة كائن يتيم، ولا أمل في شفائه من هذا اليتم.
هل هذه إجابة شخص يمكن وصفه بأنه قوي؟
III
هل يكتب الشعراء قصائدهم ليتكاملوا في ما بينهم، ومن ثم هل يكتبون نصاً كونياً يتقاسمونه في ما بينهم؟ لو كان الجواب نعم، ولو صح هذا التصور، فإن الشعراء ربما يتكاملون في ما بينهم عندما يتناقضون ويختلفون وتتباعد طرائقهم، وليس عندما ينسخون بعضهم، أو يقلّدون بعضهم بعضاً، أو يتهافتون على الأشياء نفسها. وهو ما يحصل كثيرا اليوم حتى بات قراء الشعر لا يميزون أحياناً البصمة الخاصة للشاعر.
IV
مهما كان السبب مغرياً لا يليق بالشاعر أن يكافئ نفسه بامتداح عمله، أو بالإنصات إلى المديح لمجرد أنه كتب قصيدة. وظيفة الشاعر في العالم أن يكتب القصيدة، وما دام الشاعر منشغلاً بخلق شيء جديد، فهذا دليل على أن ثمة شيئاً ناقصاً في الوجود، وأن على الشاعر أن يجعله موجوداً. وفي هذا اعتراف من نوع ما بأن القصيدة التي سبقت لم تتمكن من القبض على المعنى، أو الشعور، أو الجمال الذي غامر الشاعر وراءه. لا بد، إذن، من قصيدة جديدة. لنتذكر ذلك السطر في قصيدة ناظم حكمت عن القصيدة التي لم تكتب بعد. أظن أن المكافأة الكبرى للشاعر هي مغامرة البحث عن تلك القصيدة. تلك هي الهدية.
لندن في 1 حزيران/يونيو2021