زهرة خزامى في صحراء
من ميونيخ إلى لوس أنجلس، طيران يتواصل على امتداد اثنتي عشرة ساعة بالتّمام والكمال، وفي ضوء نهار لم ينقطع أبدا حتى وصولنا في الساعة السابعة مساء بالتوقيت المحلّي.هذه أطول رحلة لي بالطائرة منذ أن بدأت أجوب العالم قبل نحو أربعين عاما.. آه.. نحن نشيخ بسرعة ومن دون أن نتفطّن إلى ذلك غالب الأحيان.
فارق الوقت بين القارّة العجوز والعالم الجديد تسع ساعات. غير أنّ الأحاسيس والمشاعر التي انتابتني والتي ظلّت تهزّني مثل عاصفة داخليّة بسبب أوّل رحلة لي إلى بلاد «العم سام” حرمتني من النوم ولو لوقت قصير. ألم يقل ماكبث في مسرحية شكسبير الشهيرة بأن أميركا «تقتل النوم”.
بعد بحر الشمال، حلّقت الطائرة فوق «غرينلاند”. عبوره استمرّ أزيد من أربع ساعات. سماء زرقاء وأرض بيضاء من جليد. فقط بقع زرقاء هنا وهناك. ثم «خليج الهيدسون” وعبوره استمرّ أزيد من ساعتين ونصف الساعة. وها نحن فوق جبال كندا المغطاة بالثلوج. مناظر ساحرة في ضوء مبهر. بعدها قطعنا «صحراء العبيد”. لا شيء غير أراض قاحلة نحاسيّة اللون، وجبال جرداء تلفّها وحشة قاتمة تعود إلى أزمنة موغلة في القدم. تذكّرت قوافل المغامرين الكبار وهم يعبرون هذه المساحات الشاسعة والمتوحّشة باتجاه الغرب الأميركي بحثا عن الذهب والثروة. وعادت بي الذاكرة إلى أفلام سارجيو ليوني البديعة. والحقيقة أنّي أمقت الدّم وجرائم القتل والانتقام، غير أن كاميرا سارجيو ليوني تضفي على كل هذا مسحة فنية وإستيتيقية عالية فتجعله مغريا وجذابا ومحبّبا للمشاهدة. مرّ بذهني أيضا السويسري سوتر بطل رواية «الذهب” لبليز ساندرارس والذي يغادر بلاده فقيرا معدما ليحصل على ثروة طائلة في كاليفورنيا. غير أنه لا يلبث أن يفقد ثروته تلك ليموت في النهاية أمام المحاكم وهو يهذي مثل مجنون.
حطّت بنا الطّائرة في مطار لوس أنجلس. وأنا أجرّ حقيبتي الغاصّة بالكتب والوثائق باتّجاه شبابيك شرطة الحدود، قطعت بذهني في رمشة عين المسافة المديدة التي تفصلني عن القرية الصّغيرة التي شهدت مولدي قبل أزيد من ستّين عاما. الآن السّاعة هناك الثّالثة صباحا. أراها هاجعة بعبادها وزيتونها ولوزها ودوابّها وهضابها وأوديتها الجافّة الموحشة. بعد قليل ستطلق الدّيكة صياحها، وسيشرع المتقدّمون في السّنّ في التّململ تحت الأغطية استعدادا للنّهوض. وها أنا طفل في الثالثة عشرة من عمري أستيقظ وعيناي مثقلتان بالنّوم، غير أنّ أمّي التي تخشى دائما وصولي إلى المدرسة متأخّرا، تدسّ في محفظتي كسرة الخبز والبيضتين وربّما قطعة لحم إن كان اللّه رحيما ثمّ تطلقني فأمضي في العتمة التي لا تزال باسطة نفوذها شاهرا العصا التي تحميني من كلاب البادية الشّرسة.. لكن الآن أنا بعيد جدّا عن المكان الذي فيه ولدت، وعن طفولتي.. فلماذا تحضر هذه الذّكريات فجأة في أروقة مطار لوس أنجلس؟ ولكن هل كنت أظنّ وأنا أخوض في الرّمل كما لو أنني أخوض في الطّين أني سأبتعد إلى هذا الحدّ في المسافة وفي العمر؟
غفلتي عن تقديم المعلومات اللازمة في استمارة الدّخول كلّفتني غاليا. فقد أصابني ارتباك شديد حتى أنّني لم أعد أعرف ما أفعل ولا ما أقول. ورجال الشّرطة الذين كانوا جميعا من أصول مكسيكيّة، وجنوب أفريقيّة، وآسيويّة وجدوا في شخصي الضّحيّة المبتغاة فراحوا يتقاذفونني مثل الكرة، وأنا ألهث من شّباك إلى آخر والعرق يتصبّب منّي بغزارة وأمامي شيء كأنه الضّباب، لكن دونما جدوى «المعلومات لا تزال غير كافية” ذاك كان جوابهم الدّائم رغم ما أفعل وما أقول.. وأنا حائر، مروّع، وهم يتسلّون بحالتي، ويتبادلون النّظرات المتآمرة عليّ وأنا كالورقة في مهبّ الرّيح.. اللّعنة عليّ! اللّعنة عليّ! فأنا دائما أرتكب مثل هذه الأخطاء فقط لأنّي أنفر من الأوراق الإداريّة بل لا أعيرها اهتماما. وفي النّهاية أجد نفسي في الفخّ مثل «الضّبع» كما يقول النّاس في قريتي.. أوف.. متى ينتهي هذا العذاب.. متى؟ وروحي تكاد تصعد إلى خالقها وقفت أمامي امرأة بيضاء في منتصف العمر، باسمة، أخذت منّي الاستمارة. ألقت عليّ بعض الأسئلة المختصرة جدّا لإضافة المعلومات النّاقصة ثم أطلقت سراحي لأجد نفسي خارج المطار في أقلّ من عشر دقائق.
سائق لطيف وأنيق من أصول كوريّة كان في انتظاري. في سيّارة فخمة سوداء أخذني إلى «فيلا أورورا” حيث سأقيم حتى نهاية العام. وهي تقع على مرتفع يطلّ على المحيط الهادئ. صاحبها، ليون فلويختنفانغر، الكاتب الثريّ و”البورجوازي الأحمر” كما كان يسمّيه البعض بسبب ميوله الشيوعيّة، أوصى بعد وفاته عام 1958 بأن تتحوّل الفيلا إلى إقامة لاستضافة الكتاب والفنّانين الرّاغبين في استكمال مشاريعهم أو الإعداد لها. آه.. لقد فعل خيرا، وبي أنا بالخصوص إذ لم يعد باستطاعتي أن أعمل في بيتي في الحمّامات بسبب صخب المسجد القريب منّي والذي تحوّل إلى عمليّة تعذيب يوميّة بالنّسبة إليّ. فقد رفعوا في درجات مكبّر الصّوت، ومددّوا في أوقات الصّلوات الخمس. وبعد صلاة العشاء يفرضون على سكّان الحيّ الاستماع إلى الدّروس الدّينيّة. وعند الفجر يقتلعني الآذان من النّوم فأستيقظ مقطوع الأنفاس، وقلبي دقّات عنيفة مضطربة. ويوم الجمعة أجد نفسي مجبرا على مغادرة بيتي طوال الظهيرة.. لكن ما باليد حيلة كما يقول عربنا القدماء. فلو شكوت حالي لأحدهم لمزّقت تمزيقا لأني «كافر” و”زنديق” ووو.. لذا لا بدّ من عقابي في الدّنيا قبل أن يسلّط عليّ عقاب الآخرة. والمؤذّن يصرخ، يصرخ عاليا.. عاليا جدّا لأنه يعتقد أن الله يطرب لذلك، لذا سيجازيه يوم القيامة جزاء عظيما، بل لعلّه سيجد نفسه في الجنّة جنبا إلى جنب مع الزّنجيّ بلال، مؤذن الرسول.
لوحة: سعاد مردم بيك
نعم لقد فعل ليون فلويختنفانغر خيرا حقّا. أمّا أغنياؤنا فيسخرون من أعمال كهذه. وبالنّسبة إليهم هي لا يمكن أن تصدر إلا عن مجنون أو غبيّ لا يحسن تدبير شؤون حياته. نعم هكذا هم يفكرون وبن لادن فضّل أن يبددّ مبالغ طائلة في عمليّات لم تكن نتيجتها في النّهاية غير تشويه صورة العرب والمسلمين في العالم. أمّا أطفال فلسطين الذين كان يبكي على حالهم بدموع التّماسيح فلم يبن لهم مدرسة تنقذهم من الجهل أو ملجأ يقيهم شرّ التشرّد.
ولكن لم أشغل ذهني به وبمن شابهه.. ها أنا أخيرا في «فيلا أورورا”، أمامي صورة بالأبيض والأسود لليون فلويختنفانغر، يبدو فيها سعيدا وفي كامل الصحّة والحيويّة. وفي صورة أخرى هو واقف بجانب زوجته الجميلة مارتا لوفر التي قاسمته مرّ الحياة وحلوها حتى اللّحظة الأخيرة من حياته. حياته التي كانت سلسلة من المغامرات المثيرة عكست تقلّبات عصره المتعدّدة والكثيرة والعجيبة. وهو ينتمي إلى عائلة من البورجوازيّة الصّناعيّة. وفي سنوات شبابه، ترك ميونيخ حيث ولد عام 1884 لينتقل إلى برلين لدراسة الفلسفة. وفي تلك الفترة اختلط بالحركات الطلائعيّة وأصدر مجلة «دير شبيغل” (المرآة) التي ستحتضن كلّ ما هو جديد في الفنّ والأدب والفكر. وفي عام 1912 تزوّج من مارتا لوفر وانطلق معها في رحلة طويلة إلى فرنسا وإيطاليا. وفي صيف 1914 اجتازا البحر إلى تونس ففاجأتهما الحرب الكونية هناك. وبسبب جنسيّتهما الألمانية، قامت السّلطات الفرنسيّة باعتقالهما غير أنهما تمكّنا من الفرار.
خلال تلك السنوات المجنونة والمحمومة التي عاشتها برلين بعد الحرب الكونيّة،عاد ليون إلى ممارسة النّشاط الأدبي والفنّي والفكري، وهو الذي كان يتقن لغات عديدة مثل الفرنسيّة والإيطالية والأسبانيّة إلى جانب اليونانية القديمة واللاتينيّة، وكان واسع الثقافة ملمّا بآداب العالم القديمة والحديثة، أصبح بمثابة القطب الذي يتحرّك من حوله الطّلائعيّون المتطلّعون إلى حياة ينتصر فيها الحب والسّلام والصّداقة والوئام على الضغائن والأحقاد ونزعات الانتقام. وفي هذه الفترة، تعرّف ليون على رموز الطليعة الجديدة من أمثال برتولد برخت وفالتر بنيامين، ذلك البرليني اللاّمع الذي لن يقوى في ما بعد على تحمّل مشاقّ المنفى فينتحر يأسا على الحدود الفاصلة بين فرنسا وأسبانيا.
وكانت تلك الفترة غنيّة أيضا بالإنتاج الأدبي. فقد أصدر ليون العديد من الروايات والقصص التي نالت شهرة واسعة لا في ألمانيا وحدها وإنّما في العديد من البلدان الأوروبيّة الأخرى. وبذلك أصبح ليون نجما ساطعا في المشهد الثقافي في برلين الخارجة للتّوّ من حرب مدمّرة والتي لم تكن تعلم أنها ستجبر بعد سنوات قليلة على دخول حرب أخرى أشدّ دمارا من سابقتها.
منذ البداية، أي عندما كان هتلر لا يزال يجمع الأنصار من حوله في شارع «شيلينغ” بميونيخ مقتصرا على شرب بيرّة واحدة في اليوم تاركا الآخرين يعبّونها كما يريدون ويشتهون حتى يتمكّن من السّيطرة على عقولهم وعلى قلوبهم.
نبّه ليون إلى مخاطر النّازيّة وكتب محذّرا من صعودها. وفي ما بعد لن يغفر له النّازيّون ذلك حال صعودهم إلى السّلطة، حيث أمر غوبلس بتخريب بيته «جحر الأفاعي” كما وصفه، وبحرق كتبه وبمصادرة ممتلكاته. أمّا هو ففرّ إلى فرنسا ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة مختارا الإقامة في جنوب كاليفونيا. وفي هذه الفترة سيصبح بيته أيضا مفتوحا لكبار المفكّرين والفلاسفة والمبدعين والفنّانين الفارّين من النّازيّة ومن الحرب وأهوالها من أمثال توماس مان وأخيه هاينريش مان وبرتولد برخت وفريتز لانج وأدورنو وآخرين كثيرين. وفي حفل عيد ميلاده الستين الذي انتظم في مدينة «سانتا مونيكا”، كان أينشتاين من بين الحضور إلى جانب العديد من الوجوه البارزة الأخرى.
بعد أن طفت في مكتبته العامرة بأمّهات الكتب، طالعتني صور أخرى له وهو يمارس الرّياضة في الحديقة أو في الجبل القريب. «سأفعل مثله” قلت ثم دخلت الجناح المخصّص لي في «فيلا أورورا”. من النّظرة الأولى لاحظت أن هناك كلّ ما أحتاجه للعمل والتّفكير في كامل الهدوء. لكن لا رغبة لي في النّوم.بل إنّ الحيويّة التي أتمتّع بها تشبه حيويّتي حين أستيقظ بعد نوم مريح وطويل. ماذا عليّ أن أفعل إذن؟ أفرغت الحقائب. رتّبت الثياب في الخزانة والكتب في الرّفّ المخصّص لها. وضعت الوثائق على مكتب العمل. فعلت كلّ هذا مستمتعا بالاستماع إلى موسيقى هادئة وبشرب كأس من «الجيفاز». بعدها أردت أن أتجوّل في الحديقة غير أنّ بردا لاذعا صدّني فعدت بسرعة من حيث أتيت. دائما لا رغبة لي في النّوم، ماذا عليّ أن أفعل إذن؟ تناولت كتاب الإيطالي بياترو شيتاتي عن كافكا. تمدّدت على الفراش وواصلت القراءة. وها أنا أجول في عالم بديع، فما قرأت من قبل كتابا عن صاحب «أميركا” بمثل هذا العمق، وبمثل هذه المتعة التي تجعلك مشدودا إليه حتى أنك تكون راغبا في إنهائه دفعة واحدة. سحر بياترو شيتاتي وقدرته الفائقة على توليد الأفكار وابتكارها واللّعب بها مثلما يلعب السّاحر بالنّار، وثقافته الواسعة التي تجعل القارئ يشعر وهو يقرؤه كما لو أنه يتجوّل في بستان فيه من كل ّثمار الأرض ما يغني ويبهج.. كلّ هذا حاضر في هذا الكتاب!
النّهاية مؤثّرة للغاية: كافكا يحتضر وهو يكابد آلاما شنيعة. طلب مورفينا وقال للطبيب روبرت كلوبستوك «لقد وعدتني به دائما ومنذ أربع سنوات. أنت تعذّبني ودائما كنت تعذّبني. أنا لا أريد أن أتحدّث إليك. هكذا أنا أموت بعد حقنتين”، ثم قال «أنتم تسخرون مني. أنتم أعطيتموني سمّا. اقتلوني وإلا فإنها جريمة”. وعندما أعطوه المورفين فرح بذلك «نعم هذا شيء جيّد.. لكن أريد المزيد لأنه بلا أيّ مفعول إلى حدّ الآن”. ثم ببطء أخلد إلى النّوم، ليستيقظ وهو في حالة اضطراب. وعندما سند كلوبستوك رأسه حسبه أخته «إيللي” فصاح: «ابتعدي يا إيللي.. ابتعدي.. لا تكوني قريبة منّي..”، ثم بحركة فجئيّة وغير عاديّة نزع محجاجه بعنف ملقيا به وسط الغرفة «يكفي من هذا العذاب. لماذا تواصلونه؟”. ولمّا ابتعد كلوبستوك ليغسل المحقنة، قال له كافكا «لا تذهب”. «لا لن أذهب” ردّ كلوبستوك.بصوت عميق. أضاف كافكا قائلا «لكن أنا الذي سأذهب!”.
إنها السّاعة الثانية صباحا بتوقيت لوس أنجلس، النّوم أثقل جفوني فاستسلمت له إلا أنّي لم أنم غير ثلاث ساعات فقط. حلمت فرأيت نفسي أمسي في شاطئ فارغ. البحر هائج، والبرد شديد. اعتراني خوف أسود فأخذ قلبي يدقّ دقّات متسارعة وعنيفة. أردتّ أن أهرب غير أن قدميّ كانتا ثقيلتين كأنّهما من حديد. فجأة برزت خلف الضّباب الكثيف فتيات جميلات شبه عاريات. فورا انخرطن في الرّقص والغناء. مفتونا بهنّ استعدت هدوئي. غير أنّ رجلا ضخما فارع الطّول انبثق من الضّباب، وبخطوات سريعة راح يتقدّم نحوي مطلقا شتائم مقذعة بالدّارجة التّونسيّة، استبد بي الخوف من جديد. ولمّا لم تعد تفصلني عن الرّجل الضّخم إلا بضع خطوات استيقظت..
صخب وهدير في الخارج. فتحت الباب ووقفت أمام الحديقة. المطر يتهاطل بغزارة والبرد ينفذ إلى العظام. بسرعة عدت إلى الفراش. «مرحبا بك في لوس أنجلس» قلت لنفسي ثم غرقت هذه المرّة في نوم سيكون عميقا ولذيذا.
1
بابتهاج وغبطة رحت أصعد الجبل المعطر بروائح الإكليل والزعتر والأزهار البرية. الطقس بارد قليلا والسّماء مغّيمة. وهناك في الأسفل المحيط الهادئ بلون رمادي غامق. ولا موجة بيضاء على سطحه. واصلت الصعود مستمعا إلى هدير غضبي تجاه ما يحدث في بلادي من أعمال عنف وتخريب وتكفير. لكن فجأة خفت الهدير ولم أعد أسمع غير الصمت الذي من حولي. صمت تعودت عليه وتعوّد عليّ حتى بتّ أحاوره وبات يحاورني أنا الذي خبرت الوحدة إلى أن باتت عشيقتي الوحيدة، إليها أأنس وإليّ تأنس أيضا. توقّفت فوق قمة الجبل لأستعيد أنفاسي التي أرهقها الصّعود.
أمامي مشاهد بديعة: لوس أنجلس بكل تلك المدن المكوّنة لها وهي ماليبو الصغيرة السّاكنة كأنّها خلت من أهلها، وسانتا مونيكا مدينة الأغنياء الذين لا يتناولون غير الأطعمة والفواكه البيولوجية، وداون تاون الصّاخبة الملتهبة، وواشنطن فاكس حيث المهاجرون المكسيكيون وفقراء الزّنوج وبقايا الهنود الذين دمّرتهم المخدرات والكحول، وهناك بعيدا جبال مكسوّة بالثلوج وأخرى يغلّفها الضّباب.
في طريق عودتي لاحظت أن الحيوانات البرية لا تفرّ هاربة مثلما هو الحال في بلادنا، حتى الأرانب تظلّ تنظر إليك أنت الغريب القادم من بعيد وكأنها تقول لك «مرحبا بك في غابتنا الجميلة”. قطفت أزهارا برّية وعدت إلى «فيلا أورورا” حيث أقيم. وضعت باقة الزهور على طاولة المطبخ. طبخت حساء خضار. ومستمعا إلى موسيقى الجاز التي أعشقها، رحت أشرب نبيذا كاليفورنيا أحمر وأنا في أسعد حال. أليست السعادة الحقيقية في كلّ ما هو بسيط وطبيعيّ ومفيد للحواسّ الخمس؟
2
رأيت نفسي بين أهلي، وأمّي على قيد الحياة منشغلة بإعداد حقيبتي بعد أن علمت أنّي مسافر إلى أميركا وأني سأمكث هناك فترة طويلة. بدت شديدة الابتهاج برحلتي. ثم دعاني قريب لم أره منذ سنوات المراهقة، ولست أدري إن كان حيّا أم ميّتا، إلى بيته فلبّيت الدّعوة تاركا أمّي منهمكة في إعداد الحقيبة «لا تتأخر كثيرا”، قالت لي. سرنا مسافة طويلة. بدأت أتعب وأتضايق. لم أخف ذلك عن قريبي فأبتسم وقال مشيرا إلى هضبة جرداء بعيدة «بيتي هناك”. ازداد ضيقي فتوقّفت عن السير وقلت له «ليس بإمكاني أن أواصل”. ابتسم من جديد وقال «ها هو بيتي”، نظرت فإذا بي أرى كوخا من طوب وأطفالا حفاة وشبه عراة. ثم برزت كلاب سود راحت تنبح غاضبة. قلت لقريبي «لا بدّ أن أعود فغدا سأسافر باكرا وأمي تنتظرني”. «لا تخف” قال قريبي، ثم أشار إلى الكلاب فكفّت عن النّباح واختفت، بينما أخذ الأطفال يبكون.
شعرت بكراهية حادّة تجاه قريبي الذي ظلّ يبتسم غير عابئ ببكاء الأطفال. وفي لحظة ما تغيّر المشهد ورأيت نفسي في مدينة حزينة لم أرها من قبل أبدا. معي صديقي إدموند الرسام التيرولي الذي يعيش في ميونيخ. دعاني إلى شرب كأس وكان عالما بسفري إلى أميركا. قلت له بأنه عليّ ألا أتأخر لأن أمي تنتظرني فطمأنني. دخلنا محلا موحشا على أرضيته القذرة أناس جالسون أو نائمون. تراجعت أرغب في الفرار غير أن صديقي إدموند أمسك بي من ذراعي قائلا «لا تهتم.. كل شيء سيكون على ما يرام”. تعجّبت من جوابه. فأنا أعلم أنه ينفر من الأماكن المشبوهة ولا يحتمل البقاء فيها ولو لبضع لحظات. تمدّد على الأرضيّة وأغمض عينيه راغبا في النوم. منزعجا اقتربت منه، وهامسا في أذنه أعلمته أني لا أحتمل المكان ولا رغبة لي في النوم. ومن دون أن يفتح عينيه أجابني «لا تكثر من الكلام ودعني أنام قليلا”.
لوحة: سعاد مردم بيك
واقفا عند باب الخروج، رجل طويل ضخم يراقبني مثل شرطي اشتبه في أمري. بدأت أفكّر في الهروب غير أن الرجل الطويل الضّخم صفّق بيديه وصاح «هيّا انهضوا.. سأغلق المحلّ”. خرجنا إلى الشارع، أعلمني صديقي إدموند أنه جائع جدّا. بحثنا عن مطعم لكن دون جدوى. اقتربنا من كوخ حقير. ثمّة حيوان غريب يشبه الثعلب نائم على التبن. أخرج إدموند سكيّنا ضخما وبحركة واحدة قطع جزءا منه فسال الدم غزيرا وأخذ الحيوان المسكين يحتجّ بلغة ألمانية سليمة فردّ عليه إدموند بهدوء وكأنهّ يخاطب صديقا قديما «لا يهم.. نحن جائعان”. صمت الحيوان وراح يلحس جرحه بينما الدم يسيل غزيرا منه. أراد إدموند أن يوقد نارا ليشوي لحم الحيوان الغريب غير أنه فشل في ذلك. عندئذ اغتاظ غيظا شديدا وراح يشتم المدينة وأهلها. ثم التفت إليّ وقال «سوف تكون سعيدا في أميركا”. لا بدّ أن أعود”.. قلت له. «هيّا اذهب إلى الجحيم”.. قال. بحثت عن تاكسي وطال بحثي حتى أني شعرت أني لن أستطيع العودة إلى البيت أبدا. ركضت مثل مجنون في الشوارع الفارغة. ظللت أركض وأركض وأركض إلى أن استيقظت.
3
جولة أخرى في الغابة. روائح الزّعتر والشّيح والإكليل والأزهار البرّية أكثر فوحانا من قبل بسبب الأمطار الغزيرة التي تهاطلت فجر اليوم. الضّباب يصعد من أسفل، أي من المحيط ليغطّي قمم الهضاب والجبال. لم يقع بصري على أكياس بلاستيك أو على علب أو على أيّ شيء من تلك الأشياء التي تشوّه الطبيعة والشّواطئ والغابات والحدائق والشوارع والساحات في بلادنا. كل شيء نظيف ومرتب كما لو أن هناك كائنات خفيّة تعنى بذلك. أثناء العودة، دست خطأ على خنفس أسود فمات في الحين. تألمت جدا فكما لو أنني قتلت نفسا بشرية. أي نعم.. فذلك الخنفس كان مثلي يتجوّل هانئا مطمئنا وها أنا أنهي حياته في رمشة عين. لوقت طويل ظل ضميري يخزني وظلت روحي تتعذب جراء فعلتي الشّنيعة.
4
طقس متقلّب. سماء مغيّمة. تنقشع السحب لبضع دقائق ثم لا تلبث أن تعود. تجوّلت على الشاطئ باتجاه «ماليبو”. ليس هناك غير المشرّدين الذين تعوّدت على رؤيتهم يوميا تقريبا خصوصا تلك الشقراء المصحوبة دائما بكلب أسود ضخم والتي تؤكد ملامحها أنها كانت جميلة جدا في يوم من الأيام. لعلّ الكحول والمخدّرات فعلت فعلها فباتت شبحا لما كانت عليه في سنوات شبابها. كما شاهدت تلك الزّنجيّة العجوز الفاتحة فمها الأدرد طوال الوقت والسّاكنة دائما كما لو أنها ميّتة منذ أمد بعيد. سرت عكس اتجاه الريح. فكرت في المجتمعات التي تكثر فيها المحرّمات والمقدّسات إلى حدّ أنها تصبح شرائع وقوانين صارمة يعاقب كل من خالفها، أو رفض الانصياع لها، أو أظهر لامبالاة تجاهها، تنعدم الحريات العامة والخاصّة فيجد الفرد نفسه مجبرا على أن يكون منجذبا طوال الوقت للعالم الخارجي الذي يفرض مشاهده على الجميع من دون استثناء مجبرا إيّاهم على أن يكونوا مطيعين له طاعة عمياء، ومحذّرا إيّاهم من مخاطر اجتياز الخطوط الحمراء. لذلك يظل العالم الداخلي يضمر ويضمر إلى أن ينتفي تماما ويصبح شبيها ببئر مهجورة.
في المجتمعات الإسلامية المحرّمات والمقدّسات أشدّ عنفا وقسوة تجاه الحرّيات العامّة والفرديّة بالخصوص. فهي ليست سياسيّة فقط وإنما أخلاقيّة ودينية أيضا. وتقول المقدسات إن الحياة مؤجلة. بل إنها وهم ووساخة. لذا فإن الإقبال عليها وعلى ملذّاتها والافتنان والتعّلق بها من الكبائر ورجس من عمل الشيطان. ومرتكبها يحاسب حسابا عسيرا يوم القيامة ويحشر في جهنّم الحمراء. أما الذي ينأى بنفسه عن مثل هذه الكبائر ويتجنّبها ويترفّع عن الحياة الدنيا وأوساخها، فإنه يفوز بالجنة وبرضا الله ورسوله وصحابته أجمعين. يفوز بهذا كله حتى ولو اكتوى بالعذاب وعرف الجوع والشقاء على وجه الأرض. من هنا نفهم غربة الفنّان في مجتمعات كهذه، والعذاب الأليم الذي يقاسيه للحفاظ ولو على القليل من حرّيته الشّخصية ومن عالمه الداخلي. وحتى وإن اختار الصّمت والعزلة فإن العالم الخارجي يظلّ يلاحقه ويراقب حركاته وسكناته ويطالبه بالإفصاح عن أفكاره وعن مشاعره والذوبان في القطيع الهائل الصامت الخاضع خضوعا مطلقا للمقدسات والمحرمات. فإن لم يستجب لذلك، دفع الثمن غاليا كأن يقتل أو يسجن أو يفرّ إلى المنافي وليس معه غير جرح الوطن الذي هجره والى الأبد. كما نفهم شقاء المرأة وغربتها وعذابها في مثل هذه المجتمعات.فالمقدسات تصفها بالعورة. وتشتد القسوة عليها إن هي حاولت إثبات وجودها والتعبير عن مشاعرها، أو أظهرت رفضها للمظالم التي تسلط عليها، وتمرّدها على القهر الذي تعانيه.
مؤخّرا قرأت تحقيقا مدهشا في «النيويورك تايمز» عنوانه «صوتي هو الذي سيبقى إذا ما هم أعدموني”، ويتحدث كاتبه عن أوضاع نساء شابات أو متزوجات في أفغانستان تحدّين المقدّسات وكتبن الشعر غير أن المجتمع سلّط عليهنّ عقابا شديدا، بل أجبر البعض منهنّ على الانتحار حرقا. وليس ذلك بالأمر الغريب، فالمقدّسات تعتبر مثل هذا الأمر ذنبا عظيما، إذ لا يكفي أن تكون المرأة عورة بل وتسعى أن تكون شاعرة أيضا. والشعر كما هو معلوم محرّم حتى على الرجال القوّامين عليهن. وهو من أعمال الشياطين. والشعراء لا يتبعهم إلاّ الغاوون. ومينا موسكا البالغة من العمر سبعة عشرة عاما، واحدة من اللاتي تجرّأن على ارتكاب هذه الجريمة البشعة التي هي كتابة الشعر. فعلت ذلك بعد أن قتل خطيبها جرّاء انفجار لغم. وبحسب التقاليد المتبعة في قبيلتها، فرض عليها الزواج من أحد إخوة خطيبها الراحل والذي لم تكن تكنّ له أيّ عاطفة. وأمام عجزها عن الاحتجاج، لجأت إلى كتابة الشعر للتعبير عن اختلاجات نفسها الجريحة المعذبة. وهي تفعل ذلك خفية عن الجميع بمن في ذلك أقرب الناس إليها إذ أنها سمعت أخاها يقول ذات يوم «المرأة التي تكتب الشعر عاهرة تستحقّ الرّجم بالحجارة.. والتي تغنّي يسلّط عليها نفس العقاب أيضا.. ” في واحدة من قصائدها تقول مينا موسكا:
«أنا مثل زهرة الخزامى في الصحراء
أذبل قبل أن تتفتّح براعمي”.
وفي قصيدة أخرى تقول:
«يكبر شقائي بنفس النسق الذي تقصر به حياتي يوما بعد آخر
لكني سأموت بقلب مفعم بالأمل…”.
أما زرمينا التي كانت تمضي قصائدها باسم مستعار هو «راحلة” فقد دفعت حياتها ثمنا جراء تحديها لعائلتها ووسطها الاجتماعي مصرّة على كتابة شعر فيه تتغنّى بالحبّ والحياة. ولما اشتدت عليها الضغوط وباتت على وشك الاختناق من فرط الحصار المضروب عليها أحرقت نفسها أمام البيت العائلي.
في واحدة من قصائدها تقول زرمينا:
«في يوم محاكمتي، سأصيح عاليا لأقول،
أنا قادمة إلى العالم بقلب مليء بالأمل…”.
وفي قصيدة أخرى تقول:
«مضاجعة رجل عجوز
مثل مضاجعة جذع ذرة سوّدته الحشرات…”.
ويقول شاعر أفغاني كان على صلة بها قبل انتحارها، إن زرمينا كانت تسأل دائما «لماذا لست موجودة في عالم يعيش فيه أناس يفهمون مشاعري، ويستمعون إلى صوتي؟”. وكانت تسأل ملتاعة «الله يحب الجمال فلماذا يكرهه الناس في بلادي؟”. ثم تضيف قائلة «كان الله يحبّ محمّدا. غير أن الناس في بلادي يعشقون الجريمة. وإذا كنا مسلمين حقا فلماذا نحن أعداء للحب؟”.
5
جولتي اليومية. سماء معتمة وطقس بارد قليلا. الشاطئ شبه مقفر إلا من بعض النّساء. مصحوبا بعجوز قد تكون جدّته، طفل في حوالي الثالثة أو الرابعة يرتدي شورت بنّي وتي شورت رمادي مخطط بالبنفسجي والأصفر على الصدر والكتفين، يمشي حافيا على الرّمل. مبتسما ومبتهجا حيّاني بحرارة كما لو أنه يعرفني منذ زمن بعيد. وتلك الابتسامة البريئة أزاحت في رمشة عين الآلام المتراكمة في القلب والروح جرّاء ما يحدث في بلادي، معيدة إليّ إشراقة الأمل. وكانت أجمل هدية لي في يوم عيد العمال.