سؤال الحرية
ما إن تنتهي من قراءة كتاب “الكاتب والمنفى” الذي يشتمل على مجموعة دراسات وحوارات، أجريت مع الروائي المرموق عبدالرحمن منيف (1933 – 2004)، حتى تدرك أن السؤال الأول الذي كان يشغله طَوال حياته، هو سؤال الحريّة. وليس من الغريب أن يقوده هذا السؤال إلى إثارة قضايا بالغة الأهمية، لاسيما تلك التي فلتت من شبكة النقد، ولم تُطرق إلا في حدود ضيقة، بدءاً من الأدب والتاريخ، مروراً بالقمع والديمقراطية والحداثة – في العالم العربي -، وصولا إلى المنفى والنفط ومصير الإنسان وتحدياته.. وسوى ذلك من القضايا التي تسترعي النظر. يبدو لنا أن الصيت الواسع الذي حظي به عبدالرحمن منيف بوصفه روائياً قد تسبب في طمس ما كتبه في مجالات معرفية أخرى تستحق الالتفات والاهتمام، ومن بينها الكتاب الذي بين أيدينا، الصادر في طبعته الأولى عام 1991 والذي أُعيد نشره في طبعات أخرى، ليظلّ بما يضيئه من مسائل وإشكالات، وما يطرحه من أسئلة شديدة الحساسية؛ مفتاحاً مهمّاً لفهم الخلفيّات المعرفيّة ووجهات النظر المتنوعة التي انطلق منها منيف في أعماله، سواء أتعلّق الأمر برواياته أم بباقي كتابته التي توزّعت إلى: السياسة والنقد والصحافة والفنون والاقتصاد.
في الكتاب، إذن، ما يحيل على هويّة عبدالرحمن منيف الإبداعية والفكرية، بل ويتضمّن أيضا مواقفه السياسية والثقافية. وبما يحتويه من مادة غزيرة قُدّمت بجرأة دونما تكتّم أو إلغاز؛ فإنه يضعنا – بوضوح – وجهاً لوجه أمام واقع الإنسان العربي ومآزقه. ويفتح وبشكل خاص، للمشتغلين على منجزه نافذة واسعة يمكن من خلالها استبصار مسيرته، وتلّمس طرائق تفكيره، وكذا الوقوف على تحولاته وآرائه. ونظراً لغزارة الكتاب وتنوع مواضيعه، فحسبنا أن نشير إلى بعض ما جاء فيه، وأن نلقي الضوء على القضايا المركزية التي نوقشت عبره.
احتوى الجزء الأول من الكتاب أربع دراسات، أجمل فيها الكاتب طريقته في الفكر والأدب والتاريخ والسياسة.. وهي كالآتي:
1 – الرواية العربية: تاريخ من لا تاريخ لهم.
2 – ملاحظات حول الرواية العربية والحداثة.
3 – الكاتب والمنفى.
4 – اللغة، ولغة الرواية.
يشرع منيف في المقالة الأولى الموسومة “الرواية العربية: تاريخ من لا تاريخ لهم” في التأكيد على أن “العصر العربي الذي نعيشه الآن، وربما سيأتي غداً، هو في الجانب الفني، عصر الرواية” (الكتاب، ص 41) وتكمن أهمية الرواية بالنسبة إليه في كونها “مفتوحة ومتواصلة مع الأدوات الأخرى، خاصة وأنها أداة بسيطة، عكس السينما والمسرح، من حيث إمكانية الانتقال والوصول” (ص 42) إلّا أن الأهم من هذا وذلك، هو اعتبار الرواية “تاريخ الذين لا تاريخ لهم، تاريخ الفقراء والمسحوقين، والذين يحلمون بعالم أفضل. ستكون حافلة بأسماء الذين لا أسماء كبيرة أو لامعة لهم، سوف تقول كيف عاشوا وكيف ماتوا وهم يحلمون. وسوف تتكلّم أيضا وبجرأة، عن الطغاة والذين باعوا أوطانهم وشعوبهم وتفضح الجلادين والقتلة والسماسرة والمخربة نفوسهم” (ص 44) وعلى هذا النحو ليست الرواية مجرد أداة جميلة وممتعة، وإنّما هي في الأساس، مرآة تجسد الواقع الإنساني في أبعاده المختلفة، ومن شأنها أن تلقي أضواء كاشفة على هوامشه وتعالج مآزقه، فهي تطمح على الدوام إلى تغييره، وبالتالي لا ينبغي الانفصال التام عن هذا الواقع ولا الاكتفاء بالنظر إليه، وذلك ما عمل عليه منيف فعلا في رواياته.
آمن عبدالرحمن منيف بأن الرواية بكل طاقاتها وأشكالها منوطة بتحريض أنبل ما في الإنسان، من أجل أن يتجاوز مآسيه وأوجاعه، ومن هنا، راح يركز على دورها في مساءلة التاريخ وإعادة كتابته من زوايا ظلّت مهمّشة ومغيبة، وشدد على ما تسميه الدراسات ما بعد الكولونيالية بـ”التابع” «subaltern» إذ يرى أنه قد آن الأوان لكتابة تاريخ البسطاء والمغيبين والمهمّشين، يقول “يجب أن ترتاد الرواية العربية أفقاً جديداً بأن تركّز كلّ اهتمامها على الناس العاديين، وإعطاء هؤلاء الناس الفرصة لأن يقولوا همومهم وأحلامهم، إذ بعد أن غيبوا عمدا.. فقد حان الوقت لأن يحتلّوا مكانهم الطبيعي والحقيقي” (ص 71).
ومن العلاقات القائمة بين التاريخ والرواية، ينتقل منيف في دراسته “ملاحظات حول الرواية العربية والحداثة” إلى معالجة فكرة الحداثة في السياق العربي، ويركّز النظر في الالتباسات التي طالت هذا المفهوم في أذهان الكثيرين، ويؤكّد أن الحداثة “ليست شكلاً أو شيئاً، وإنّما هي روح وحالة أبرز صفاتها التجدّد المستمرّ” (ص 60) وعليه يكون ما لدينا من حداثة هو في الواقع مجرد مظهر من مظاهرها، يقول “إنَّ ما وصل إلينا هو الصدى، وبعض صور مراحل الحداثة، أو في مجال دون المجالات الأخرى” (ص 55).
ورغم إقرار الكاتب بتأزم الوضع الحضاري في الوطن العربي وانسداده، وإدراكه شدة تعقيداته، إلّا أنه لا يبحث في أسباب التقهقر والتردّي ولا في جذورها ومعوّقاتها، بقدر ما يوجه اهتمامه إلى مناقشة سبل التطور والخروج عبر إيجاد حلول من شأنها استنهاض الإنسان العربي، وأول هذه الحلول حسب رأيه “أن نختار بوعي وأن نتحمل مسؤولية الاختيار، ولا بدَّ أن نسهم في بلورة مواقف وخيارات تساعد على الانتقال الحقيقي، فكراً وممارسة، من الوضع المتخلف الحائر إلى وضع يجعلنا مساهمين في بناء حضارة المستقبل” (ص 60)، هكذا نظر منيف إلى قضية التحديث الحضاري.
في الدراسة الثالثة يخوض الكاتب في قضية المنفى، ويمكن أن نتساءل ههنا: ما المنفى في نظره؟ وكيف يمكن ألا يعتبر سوى وضع سلبي محض؟
لئن كان المنفى لدى الكثيرين يعني حالة الطرد من فضاء جغرافي إلى آخر، ومن شأنه أن يجلب للمنفي بعض الامتيازات، فإن للروائي عبدالرحمن منيف رأيا آخر في القضية، مفاده أن المنفي رغم بحثه عن شروط حياة أفضل، إلا أنه لا يحصل على ذلك، ووضعه لا يتغيّر سواء في البلد الذي يغادره أو في البلد المضيف، بل لعلّه غالبا ما يؤول إلى وضع أسوأ، ويعود ذلك إلى جملة عوامل متضافرة منها:
1 – إن المنفى يشكل تهمة، فبالنسبة إلى صاحب مدن الملح “أن تكون منفياً يعني أنك، منذ البداية، إنسان متّهم” (ص 79)، وينبع هذا الاتهام من وضعه المتوتر في البلد المضيف، ومن النظرة المريبة التي يرمقه الآخر بها لكونه – في الغالب – غير مرغوب فيه، وبالتالي لا ينعم بالاندماج، ويصعب تكيفه مع وضعه الجديد.
2 – قسوة العيش في المنفى، يقول منيف «وأيّاً كان المنفى، فإنه، على الأقل خلال فترة معينة، وهذه الفترة قد تطول، مكان قاس وموحش” (ص 80).
3 – يُلاحق المنفي خطر التصفية والاغتيال “دماء المنفيين التي سالت في المنافي، وعمليات الخطف أو حوادث السيارات المتعمدة، والتي يتذكرها الكثيرون، دليل على أن المنفي يصبح صيدا سهلا” (ص 84).
4 – ارتباك الذات في ظل توترات اللغة: “اللغة إحدى شراك المنفى، إذ تبدو الخلاص أو وهم الخلاص، لأنها، في الحالة الجديدة، تصبح أكثر من لغة، وأكثر من مجرد جسر بين ثقافتين وحضارتين” (ص 90).
ويُرجع منيف حركة المنفى إلى اعتبارين؛ الأول هو القمع السياسي، وأما الثاني فهو الضيق الاقتصادي، والملاحظ عموما أن القضايا السالفة التي ناقشها منيف تنطوي في أغلبها على أبعاد اجتماعية ونضالية، فكتاباته النقدية بهذه الاعتبارات، لا تنفصل عن الهموم الإنسانية والحضارية.
وأما في الدراسة الرابعة والأخيرة “اللغة ولغة الرواية” يطرح الناقد أسئلة متعلقة باللغة ويرى أنها إحدى المشكلات التي لم تعط الأهمية الكافية، ويلفت النظر إلى خطورتها نظراً لكونها كالكائن الحي تماماً فهي “تولد، تنمو، تكبر، تضمر” (ص 98)، وما إن انتهى من مناقشة آراء بعض المفكرين والنقاد في هذه المسألة، ونادى باجتراح لغة وسطى مرنة، حتى راح يعرض موقفه من اللغة الروائية.
يعتقد منيف أن الرواية تواجه مشكلات كثيرة، من بينها مشكلة التعبير عن الشخصيات الهامشية والشعبية والتي غالبا ما يصعب على الروائي أن يصور دواخلها النفسية، أو يعكس شيئا من بيئتها، يقول “إن الشخص الشعبي كان من المشكلات التي تضع حاجزاً أو مسافة بيني وبينه” (ص 105) ويتساءل: “كيف يفكر؟ وإذا تكلم كيف يتكلم؟ وبأي لغة؟ وكيف يمكن التعبير عن هذا الشخص بدقة وأمانة؟” (ص 105).
لقد ناقش المؤلف اجتهادات بعض الروائيين – على اختلاف منطلقاتهم ومواقفهم – من الذين كانت لهم آراء وتجارب في هذه المسألة، مثل لويس عوض، وغائب طعمه فرمان ويوسف إدريس، وإدوارد الخراط، وبعين نقدية سعى لرصد الإضافات والفجوات التي تميزت بها أعمالهم. وعن رأيه يقول “المطلوب الوصول إلى لغة جديدة، لغة معاصرة” (ص 108) تواكب الواقع وتجعله أكثر وضوحاً وجمالاً.
أما الشِّق الثاني من الكتاب الموسوم “حوارات في فن الرواية” فقد تضمن الآتي:
1 – عن شخصيات التيه وما قبلها شخصيات كالفخ.. تورط غيره (أجرته: سلوى النعيمي).
2 – في فن الرواية ومسألة السرد (أجرته: يمنى العيد)
3 – مدن الملح افترضت الشكل الذي كتبت به (أجراه: هاشم قاسم).
4 – الشخصية الروائية بين الحب والكراهية (أجراه: جميل حتميل).
5 – الواقع والمثقف والرواية (أجراه: فيصل دراج).
6 – الفكر الاشتراكي هو فكر المستقبل مدن الملح رواية مرحلة اجتماعية وليست موضوعا تاريخيا (أجراه: جمعة الحلفي).
7 – الديمقراطية طريق المستقبل- من قضايا رواية (الآن.. هنا.. أو شرق المتوسط مرة أخرى) ( أجراه: إسكندر حبش).
8 – شهادة روائية: أجوبة عن أسئلة حليم بركات.
ومن خلال هذه الحوارات أجاب منيف عن أسئلة ذكيه طرحها محاوروه، وجلّى رؤيته إزاء قضايا لم تختلف كثيرا عما عرضه في دراساته ومقالاته بالجزء الأول من الكتاب، والملاحظ أن أجزاء الكتاب رغم ما قد يبدو من تباعد بينها، إلّا أنها تشترك في سمات أبرزها النزوع نحو الحرية واستنكار الاستبداد والظلم في الحياة وفي الإبداع.
أخيراً، يمكن لنا القول، إن الكتابة النقدية عند عبدالرحمن منيف صدرت عن معرفة حية وممتلئة، امتزجت بتجربة إبداعية خصبة، ولم تكن أبداً بمعزل عن شؤون اجتماعية وسياسية وأخلاقية، ولعلّ هذا النوع من الكتابة يصعب أن ندرجه ضمن خانة ما، فالأمر لا يتعلق فقط بما يسمى النقد الأدبي، ولا يكفي أن يوصف بالشهادة أو الحوار أو الرأي، فما يكتبه منيف يتضمن كل ما أسلفنا ذكره وأكثر.
* الكتاب المعتمد: عبدالرحمن منيف: الكاتب والمنفى، ط 3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر – المركز الثقافي العربي للنشر، بيروت، 2001.