سؤال الذات والجموع
يقال “حشر مع الناس عيد”. توصيف مخيف لانعدام الخيارات والمعالم الشخصية. الإنسان بمركزيته الغريزية مجبول ضد هذا التوصيف. أشك أن الإنسان الطبيعي يتقبل أن يجري عليه ما يجري على الآخرين. كل يوم نرى أنواعا من التأكيد على عدم الخضوع لهذا التوصيف. كل مهاجر يعبر الحدود أو يلقي بنفسه في البحر للوصول إلى ضفة أفضل، هو عمليا يسجل احتجاجه على “حشره” مع آخرين لأسباب جغرافية أو وطنية أو اجتماعية. كل كاتب يكتب خارج نسق التغريد التقليدي للأسراب السياسية والدينية هو شخص محتج. كل مثقف يفكر بحثا عن خيارات خارج هذا الحشر الافتراضي إنما يؤكد أن الخيارات تبقى مفتوحة مهما كان الواقع سوداويا. كل سياسي يعاند الواقع في بلده أو في إقليمه ليدفع نحو البديل والتغيير هو ضد استلاب المجموع.
هؤلاء ليسوا متمردين، على الأقل ليسوا كذلك بالمعنى التقليدي للتمرد. إنهم تذكير بخيارات الإنسان. إن مثل هذه الخيارات هو ما دفع الإنسانية للارتقاء والوصول إلى ما وصلت إليه. في كل منعطف تاريخي غيّر من مسيرة البشرية كان هناك فرد يقول شيئا مختلفا. هذا المختلف هو ما صاغ التاريخ وليس ترديد المعتاد والمألوف.
سؤال الذات والجموع هنا لا يصح. الجموع مواصفات عامة لكتل بشرية. بعضها متدين، الآخر يفضل أكل الرز، والآخر يستمتع بالموسيقى الكلاسيكية. في المجتمعات الأكثر بساطة، يمكن التعميم. تعريف الجموع سهل. تعريفات طائفية أو عرقية مثلا. هنا تبدو الخيارات شحيحة، وفي بعض الأحيان خانقة. في المجتمعات المأزومة تصبح هذه الخيارات إجبارية أو تفرض الطاعة. عندما تشتعل الحروب الأهلية يحتمي الناس بجموعهم المتشابهة. يتوقف منطق العقل وتشتغل غريزة البقاء. في أفضل الحالات يكون الصمت من ذهب. في أسوئها، يجد المعني نفسه عتادا في الحرب. تكون الورطة في الخيارات السابقة كبيرة إلى درجة أن البعض يجد الحاجة إلى إعادة كتابة تاريخه الشخصي ليغيره من إحساس وطني مثلا أو قومي، إلى تبني الطائفي والعرقي والعنصري. ما هي خيارات مسيحي محاط ببيئة إسلامية تكفّره؟ ما هي خيارات سني في بيئة تحكمها ميليشيات شيعية؟ ما هي خيارات شيعي أمام حكم داعشي؟ النتيجة مسيحي مهاجر أو سني يغير اسمه أو شيعي يسب رموزه السابقة. أين العيد في مثل هذا الحشر؟
التعامل مع الجموع الفكرية ربما أسهل. نعرف سياسيين تبدلوا بين البعث والشيوعية والماوية والليبرالية والإسلاموية، تبدلات بلا حد أدنى من الإحساس بالذنب. نعرف مثقفين غيروا جلودهم حسب المواسم. نفس الشاعر يمدح ثم يهجو. نفس الكاتب الذي يشيد ثم يسخر. أشباه المثقفين يمكن أن يتقلبوا خلال جلسة حوار واحدة.
لشخص عاصر الخمسينات وفكر الاستقلال والتحرر من الاستعمار الغربي، تبدو خيارات الهجرة وترك البلاد العربية نحو الغرب كارثة. لآخر عاصر المد القومي في الستينات، يبدو الحديث عن المد الديني الذي ابتلع المنطقة كابوسا. لثالث اعتبر أن العقلانية في السبعينات هي المنظومة الفكرية الأقل عاطفية والأكثر اعتدالا لتحقيق الأهداف الوطنية، يصير نسق التشظي على أسس غيبية وطائفية نوعا مبكرا من نهاية العالم. لرابع شهد الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، تكون صور القادة الإيرانيين في بغداد اليوم فانتازيا عصية على التصديق. لا شك أن الأمثلة كثيرة وتمتد تاريخيا وسياسيا واجتماعيا. لكن هذا دليل على أن الجموع الفكرية فكرة مائعة رغم ما تبدو عليه من قوة لحظية توحي بأنها وجدت لتبقى. دوام الحال من المحال.
اليوم نعيش عصرا بين بين. التطبيقات للتواصل الاجتماعي غيرت المعادلة تماما. شعبوية فكرية أطاحت بمفهوم المثقف والسياسي، وجموع تتشكل حول هاشتاغ في تغريدة على تويتر أو تدوينة في فيسبوك ثم تتفرق، لتتشكل من جديد. لا أعرف كيف يمكن تعريف الذات أو الجموع الآن. لعل المفكرين (وهم الأقدر على الصمود في هذا الواقع المتميع) هم من سيرد على هذه التساؤلات المتجددة. لا أعرف إن كان يحق لنا أن نسهم في هذا الجدل الفكري، ولكننا نشير إلى ما نراه ونحاول أن نكون مادة البحث هذه بوصفنا من الحائرين بين الذات والجموع. العجز عن العثور على أجوبة الآن هو في صلب التغير. ولعل هذا هو التوصيف الأصح لما يحدث. ولعل المفكرين سيردون بالقول أن اللاجواب هو التشخيص المنطقي لأن الأجوبة تحيلنا إلى مشهد التناقضات الذي نعيشه ونقف عاجزين عن فهمه.