سؤال في الموروث والوافد
تثير قضية الوافد والموروث شجوناً عديدة حول راهنية ومستقبل الفلسفة في مصر والعالم العربي. وهو واقع ومستقبل ينذر بتحديات جسام ومهام ملقاة على مسؤولية الفيلسوف العربي، فالفلسفة مهددة ليس فقط من حذر العامة ولا تهديد السلطة ووعيدها، بل من أصحابها أنفسهم، ذلك أنهم لم يعرفوا طريق السؤال والأشكال والقضايا الحقيقية المناط بنا اليوم طرحها على بساط النقاش الجاد والدقيق والصريح، التي تميزها عن القضايا الزائفة. ومن هنا فإن علينا تفكيك هذه الأطروحة المثارة هنا بقصد اختبار وفحص أهميتها الفلسفية وما يمكن أن تسهم به في تأكيد حضور الفلسفة في ربوع بلادنا.دانماركي من القرن التاسع عشر يدعى هانس كريستيان أندرسن، هي في الحقيقة حكاية مغربية ترجمت من العربية إلى اللاتينية في القرن الحادي عشر.
وحين أتوقف عند العنوان «الموروث والوافد في الثقافة العربية» يبدو وكأنه بعيد تماماً عن الفلسفة، ولا يحمل أشكالا ولا يثرى فكرا؛ ذلك أنه يفترض مواقف محددة سلفا مثل أن يكون للموروث كما يظهر من أولويته في العنوان أكثر قيمة وأهمية وأفضلية من الوافد أو العكس أن يكون الوافد هاماً في إثراء وإخصاب الموروث بحيث يجعله أكثر انفتاحاً على ثقافات أخرى أو أن يكون هناك تأثير متبادل بينها في فترات التاريخ المختلفة، مثلما نجد في كثير مما طرح خلال العقود الأخيرة من كتابات حول التراث والثورة والتجديد.
وإذا ما تأملنا دلالة الموروث والوافد والتقابل بينهما فقد نشعر بالضدية والتناقض من جهة أو الانتقال من المستوى النظري الإبيستمولوجي إلى المستوى المعياري الأخلاقي. ومن هنا نحن نتوقف عند هذين المفهومين الوافد والموروث كما قد نتشكك في العنصر الثالث في العنوان «الثقافة العربية» باعتبارهم ينقلوننا من مجال الفلسفة بمعناها الدقيق إلى مجالات أخرى. وكما سيتضح لنا في سياق البحث أن الموروث قد يكون وافداً والوافد موروثا. وقد يكون ضرر أحدهما أكثر من عونه في مراحل معينة في الثقافة العربية. كما أن مفهوم الثقافة مفهومٌ حديثٌ له دلالته الاصطلاحية الدقيقة التي تنقلنا مما هو معروف عن الثقافة بالمعنى العقلي إلى الثقافة بمعناها الاجتماعي المحدد.
يضاف إلى ذلك إحساس بابتعاد دراستنا الحالية عن النقد الذي نحن في أشد الحاجة إليه اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، خاصة مع حرص المعاصرين على تقديم بناءات نظرية في مشاريع فكرية نرى من جانبنا أنا تتأرجح في منزلة بين المنزلتين، التفلسف من جهة والثقافة الوطنية من جهة ثانية. ويقتضى النظر الفلسفي عدم الخلط بينهما، فإذا كان الجمع بينهما جائزاً في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، فإن الإخلاص لأحدهما في المرحلة الحالية مطلب فلسفي هام وملحّ.
قضيتنا إذن تفكيك هذه الأطروحة ونقد عناصرها المختلفة وبيان أهمية السؤال الفلسفي البعيد عن أيّ تهويمات من قبيل أدلجة الفلسفة وأسلمتها لأغراض وقتية لا تفيد الفلسفة بل تفيد مدعيها.
علينا إذن أن نوضح المقصود بالعنوان والذي جعلناه يحمل تساؤلا مؤكدين أهمية السؤال في الفلسفة، فالفلسفة هي السؤال. ولأننا هنا في مقام فلسفي فإن السؤال هو مقصدنا. ونحن ندرك أن هناك أسئلة حقيقية وأسئلة زائفة وأن كثيرا من الأسئلة زائفة، والأسئلة الزائفة هي تلك الأسئلة المعروفة إجابتها مسبقاً، إنها إجابات أكثر من كونها أسئلة.
وسؤالنا هو «لمَ التساؤل اليوم عن الموروث والوافد في الثقافة العربية؟ وإلى أيّ مدى كان الموروث والوافد عاملاً مساعداً أو معيقاً للإبداع؟ وإلى أيّ الجوانب أسهم بنصيب في الثقافة العربية؟ ومدى استمراره أو انقطاعه في التأثير؟ ويلزم في البداية التساؤل عن العناصر الثلاثة المكونة للعنوان المقترح: الموروث والوافد والثقافة العربية، وما بين كل منها، وأعتقد أن تحليل هذه العناصر هو السبيل لبيان طبيعة تلك المشكلة وإلى أيّ مدى هي قضية فلسفية.
تحليل عناصر القضية وبيان دلالتها
-1 الموروث: يعنى الموروث الأصل، أو الأنا أو الهوية، الداخل مقابل الخارج، القريب مقابل البعيد، المطابق مقابل المخالف، الدائم مقابل العابر المقيم مقابل الرحال أو ما نملكه وما يملكنا. فهو البداية والتكوين والذاتية. والموروث المقصود هنا هو الموروث العربي الذي وجد في الجزيرة العربية أولاً وأوضحته الحضارة الإسلامية، وهي حضارة سبقتها حضارات أقدم فالموروث عنصر يحتوى عناصر أسبق. فالموروث أو الجين هو البداية والتكوين والنشأة ومنه الجينالوجيا، واستجواب تاريخ الفلسفة خاصة لدى نيتشه ودريدا يفصح لنا عن دلالة مخالفة للموروث والجين، وأن الأصل لا أصل له والحاضر إذا حللناه وصولاً لأصول نجده الحاضر الغائب.
-2 الوافد: الوافد قد يعنى الدخيل، مقابل الأصيل، القادم، الغازى، المخالف، الغير، الآخر، الخارج، هو ما يقتحمنا، يغزونا، مخالفنا، هو الغرب صانع الحضارة، المتقدم، الذي سبقنا وتجاوزنا ثم عاد إلينا ليجعلنا جزءا منه تابعين له. وقد منعت وضعية الغرب المتقدم الشرق المتخلف من أن ينظر إليه كضيف أو صديق أو ند مشارك، وجعلت نتاجه الحضاري وإنجازه العلمي هو الهيمنة والسيطرة. فالحداثة أوروبية ولها مخاطرها. لذا ظهرت الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية وانطلقت من تجارب العالم الثالث من فرانز فانون وادوارد سعيد وغيرهما.
-3 الثقافة العربية: الحديث عن ثقافة عربية هو تقوقع داخل الذاتية والاحتماء بالهوية والاكتفاء بالخصوصية. هل نتحدث عن الثقافة بمعناها العام، الثقافة مقابل الطبيعة، الثقافة كمرادف للحضارة؟ نتحدث عن المعنى العقلي أم الاجتماعي للثقافة؟ ولم لا نستخدم الفلسفة وهي المصطلح الأدق. والثقافة العربية مسمى عام عند المواطن والمثقف العربي وهو يحتوي على ثقافات مختلفة البابلية والفينيقية والفرعونية. والسؤال هل استطعت الثقافة العربية استيعاب هذه الحضارات والثقافات؟ أيهما الوافد والموروث؟ هل الثقافة العربية في هذه الحالة موروث أم وافد؟ والحديث عن الثقافة العربية وتأكيد خصوصيتها يطرح تساؤل التعدد والتنوع الثقافي ليس فقط بالنسبة إلى الحضارات السابقة بل أيضا بالنسبة إلى الثقافات الحالية مثل القبطية والأمازيغية في المشرق والمغرب.
دعوني أقول إنها عناصر ملغومة. تتبادل الأدوار الموروث نفسه نتاج الوافد واستقراء تاريخ الحضارات والثقافات يظهر لنا أن موروث الثقافة العربية إذا كان لها موروث هل الوافد من الحضارات والثقافات المجاورة الحاضرة معها والسابقة عليها، فالوافد القديم صار موروثا بالنسبة إلينا. ونحن بدورنا صرنا وافداً بالنسبة إلى الآخر، فالموروث الغربي الحديث تكونت عناصره من موروثنا الذي يعد وافداً بالنسبة إليه.
علينا أن نحدد الموروث والوافد بالنسبة إلى من وفي أيّ مرحلة تاريخية؟
والسؤال هل وفدت إلينا الموروثات اليونانية أم نحن الذين ذهبنا إليها وسعينا لها وجعلناها مطلبا لنا؟ وإذا ما اتجهنا صوب مصر على امتداد عصورها التاريخية المختلفة فما هو الموروث والوافد بالنسبة إليها؟ هل الموروث هو الفرعونية أم القبطية أم الهلنستية أم العربية؟ إن الموروث والوافد هنا يتوقفان على وجهة النظر التي ننطلق منها وهل تفضل أم تجمع بينهما. ومن هنا فإن البحث في الموروث والوافد عليه تحديد منهجية التعامل معها وهل تنطلق من نظرة إثنية أم دينية؟
النظرة الفلسفية هي الكفيلة بإدراك التداخل بينهما وتبصر المتفق والمختلف، الداخل والخارج، القار والقادم.
تكرّس مقولة الموروث والوافد جانب التمايز والاختلاف والانفصال بين الثقافات وتستبعد النظر التاريخي إليها وتتناسى أن وافد الأمس يصبح موروث اليوم، وموروث الأمس يصبح وافد اليوم. بينما يطرح علينا عالم اليوم قضايا التثاقف والعيش المشترك. ويمكننا أن ندرك بين ما يسمّى بالموروث والوافد درجات كثيرة. فالتعامل بين الأنا والآخر يتم عبر وسائط متعددة أهمها الترجمة والقراءة والتأويل وهي عناصر للتثاقف والتقارب بين الأنا والآخر بحثاً عن المشترك في التنوع والوحدة في التعدد.
فتاريخ المجتمعات وخاصة في عصرنا الحالي يؤكد تحول الإنسانية من المجتمعات الصغيرة إلى الدولة بمعناها الحديث إلى الأشكال الحديثة من الوحدة والاتحاد وصولا إلى ما يسميه الفارابي اجتماع المعمورة أو ما تسعى لإيجاده الكيانات الاقتصادية الكبرى والتكنولوجيا الدقيقة للاتصالات تحت اسم العولمة والكوكبية لكن بعد أن يضاف إليها البعد القيمي الإنساني.
قمنا حتى الآن بتفكيك عناصر القضية. ونعود إلى سؤالنا الأول لمَ السؤال عن الموروث والوافد في الثقافة العربية اليوم؟
يبدو لنا أن أيّ إجابة لا تستطيع أن تستبعد الظرفية التاريخية الراهنة التي يولد داخلها السؤال وهي ظرفية هزيمة وتردّ وتخلّف وتبعية. هي إذن اختلال في التوازن بين الداخل والخارج، بين الأنا والآخر، بين ما نملكه وما يملكنا. بين تخلّف الموروث وتبعيته وتقدم الوافد وريادته. وهذه الظرفية تقتضى استدعاء الموروث بوصفه الأصل والهوية والذاتية القديمة المتقدمة التي قادت العالم في القرون السابع حتى الحادي عشر والثاني عشر الميلادي أو القرون الهجرية الأربعة الأولى. السؤال ينحو بنا نحو العودة للعصر الذهبي السابق للتغني بإنجازاته وإظهار مدى تقدمه بالقياس للحاضر المتردي ومقابل الوافد الغازي المتقدم المستعمر، في ظرفية محكومة بوضعية متأزمة وواقع متخلف. هنا وحيث غياب النقد نقوم بالدفاع عن اتهام لم يوجه لنا بالتأكيد على أننا إذا كنا قد أخذنا عن الوافد فإن الوافد بدوره أخذ عنا، هنا نحن نقدم إجابة ولا نطرح إشكالا يقتضى إجابة.
الموروث والوافد إذن تأكيد للذات، لكن ليس الذات الواقعية الحاضرة بما يكتنفها من ضعف وتخلف وتبعية، بل هو الذات الأساسية والأصل، إنها دعوى أصولية تسعى لأسلمة الثقافة وأدلجتها وتحجيم الوافد ومنازعته وبيان الاختلاف والتمايز عنه. ونحن في حاجة إلى سعى آخر لبيان ما للوافد وللموروث لبيان الندبة وبيان الشراكة في الحضارة الإنسانية الواحدة، والإعلان من الأنا الحاضرة بممارسته الشراكة لتوازن نظرتنا للآخر فلا نشعر بالدونية ويظل الوافد يشعر بالتعالي. فقد كان الموروث وافدا في عصر الترجمة من العربية إلى اللاتينية مثلما كان الآخر وافدا للموروث في عصر الترجمة من اليونانية.
هناك وافد يوناني في الحضارة العربية وكما أن هناك وافدا يونانيا أثرى الموروث العربي فإن هناك موروثا عربيا في الحضارة اللاتينية. نتحمس للثاني ونقلل من أثر الأول.
وأعتقد أن معظم الدراسات حول هذه القضية لا تخرج عن هذا التصنيف المحدد سلفاً. نحن إذن لسنا بإزاء سؤال نحن بإزاء حاجة نسعى لتأكيدها.
هل تمكن إعادة صياغة السؤال وطرحه من جديد أم أن علينا نبذه كلية؟
ما حددناه هو دلالة الثقافة ودلالة الموروث والوافد وطرحنا جانبا أحكامنا الجاهزة عن الموروث باعتباره الأصل القديم الذهبي ونظرنا للوافد نظرة أول الفلاسفة الكندي الذي لم يستح من استحسان الحق من أين أتى، حتى لو كان من الأمم البعيدة عنّا والمخالفة لنا. ونظرنا إلى ثقافة الوافد نظرة إخوان الصفا وخلان الوفاء، فإننا في هذه الحالة سوف نتحدث عن:
«الخصوصية والكونية في الحضارة الانسانية» وسنبحث في المشترك بين الثقافات وسيكون محور بحثنا وفق عنوان كتاب ريكور «الذات عينها كآخر» ونكون قد انتقلنا من الكوجيتو الديكارتي الخالص، الشفاف النقي الصافي ومن الكوجيتو الفرويدي بشعوره ولا شعوره المثقل بالهموم والإحباطات وحتى الكوجيتو الريكوري المهشّم المحطم الذي يسكنه ويعشش فيه الآخر إلى الكوجيتو المبدع. فالإبداع هو العنصر الغائب في ثنائية الوافد والموروث هو الضلع الثالث في المثلث بل هو الضلع الأهم، وهو الإضافة، هو تحقيق الذات، هو المساهمة في حضارة إنسانية واحدة، لم تقدم فيها شيء، والانتقال أو محاولة الانتقال من ليس بلغة دريدا من الهامش إلى المتن، بل الانتقال إلى الهامش أولا وفيه إلى المتن.
هذا إن أردنا الإبقاء على السؤال المطروح وإعادة صياغته صياغة جديدة أولا تخصيص السؤال من الثقافة العربية، إلى الفلسفة، وفى الفلسفة ليس هناك موروث ووافد، فقد تلقى الألمان فى العصر الحديث الفلسفة اليونانية كما تلقاها العرب في العصور الوسطى تلقياً مختلفاً دون اعتبارها وافداً فأبدعوا فلسفة جديدة، فهناك تلقّ سلبي وهناك تلقّ إيجابي، هناك تبعية لتاريخ الفلسفة وهناك تفلسف، والتفلسف هو الإبداع ونحن مازالنا نحيا في تاريخ الفلسفة اتّباعيين لا مبدعين.
علينا إذن الانتقال من فضية الموروث والوافد إلى قضية التلقي والقراءة وفى القراءة قد يموت المؤلف أو يتوارى لصالح القارئ.