ساحة التنين وغابة الخلود والشارع الإلكتروني

(مقتطفات)
الاثنين 2021/03/01
لوحة: نبيل أبوحمد

-1-

ارتطمت سفينة الفضاء الصغيرة التي كنت أرتادها بجسم صلب بعدما تعطّل مؤشر المواقع على الكمبيوتر. فجأة وبشكل سحري وسريع انجذبت السفينة وضربت بما يشبه الصخرة، ربما صخرة من حديد؟ لا أدري.

كوكب يشبه الجرم الصغير يدور حول الشمس لم أكن أحسب له أيّ حساب حطّيت عليه. كما أيقنت لاحقًا.

انقلبت السفينة ذات الشكل الصاروخي رأسًا على عقب ملتصقة بهذا الجدار الصلد. كان رأس السفينة للأسفل فيما ذيلها للأعلى مشرّعا للفضاء والسفينة انقسمت إلى جزأين من وسطها وأنا عالق بالجزء الأسفل رأسي إلى الأسفل وساقيّ وقدميّ إلى الأعلى.

حاولت جاهدًا أن أقلب نفسي لتأخذ وضعها الطبيعي، لكن عبثًا، الجاذبية كانت قوية إلى درجة لم تمكِّني من الاستدارة. فبقيت مقلوبًا، ورأسي إلى الأسفل، أعاني الأمرّين. أعاني الأوجاع في أنحاء جسدي من أثر الارتطام ومن سيلان للدم أخذ يسح على وجهي منسابًا من جروح شتّى ويملأ خوذتي الفضائية وقناعي الزجاجي غبّش لي الرؤية الصحيحة.

في هذا الوضع الصعب سمعت صفارات لعربات إطفاء مصحوبة بصفارات لسيارات إسعاف. كما أن حركة بدأت تدبّ بالقرب من رأس الصاروخ المتدلِّي المغروس بالأرض.

وكانت هناك جلبة خارجية توحي بأن مصعدًا قد نُصب أخذ يعلو للوصول إلى فجوة السفينة المفتوحة كالجرح في وسطها.

حركة لأجسام تدخل عليّ في السفينة أخذت تتلقّفني وتصحِّح وضعي وتنتشلني إلى الأعلى لأخذ الوضع الصحيح واقفًا على قدمي. حاولت أن أكلمهم وأطلب منهم أن يخلعوا عني لباسي الفضائي الفضفاض كون الجروح والآلام تتزايد لكني أدركت بأنهم روبوتات لا تفقه لغتي وتسير ببرمجة موضوعة سابقًا لأداء مهمتها.

حملني اثنان من هذه الروبوتات على حمّالة ولقّماني للمصعد الذي شبك الحمالة بمهارة ويسر وبدأ ينزلني أرضًا. فيما أخذت سيارة الإطفاء ترشّ موادًا كيميائية لإطفاء حريق السفينة المعطلة ومنع تماديه.

أدخلني الروبوتان نفقًا أسطوانيًا منصوبًا داخل سيارة إسعاف حيث حملني الهواء الكثيف معلّقًا داخل هذا النفق، فيما أخذت تنسل عني ملابسي الفضائية بشكل تلقائي والهواء يسحبني لأنجرّ داخلًا حيث أنبوب بعدسات ومجسات دقيقة، والهواء بحركة ميكانيكية أخذ يلفّني حول نفسي بعدة دورات وأصوات إلكترونية مع أضواء تنبعث وتنطفئ.

على حين غرّة أدركت حدسيًا أن عملية رصد وتصوير لجسدي من كافة نواحيه تحصل.

ثمة غرزات لإبر ناعمة تنخز مواقع من جسدي ساحبة دماء، ربما؟ كما التفّت أشرطة حول زندي وساقي تضغط بشدة، ثم تنفك بسلاسة عنهما. وما هي إلا ربع ساعة حتى خرجت بعدها من الطرف الآخر للأنبوب – النفق الذي هو بمساحة سيارة الإسعاف لتهبط عليّ فجأة ماكينة لقص الشعر متدلية بأشرطة كهربائية بدأت تجزّ شعر رأسي وأنا خاضع وقوفًا لمشيئة هذه الآلة.

حين انتهى قص الشعر انسحبت الماكينة مختفية في سقف السيارة، ليتدلّى مكانها مصفاة بثقوب دلقت عليّ الماء الدافئ ليغسلني من الأعلى إلى الأسفل منسابًا بارتياح من تحت قدميّ آخذًا مساره إلى بالوعة تشفط بإتقان كميات المياه الراشحة.

هواء دافئ لفحني من كافة الاتجاهات وسحب عني كل آثار المياه التي غسلتني وأنا ممتثل لمشيئة التكنولوجيا.

تدلّى رف عليه ملابس داخلية وقميص وبنطال مع إضاءة متتالية تؤشر لكي أتصرّف بهما، منتبهًا إلى أن آلام جسدي قد اختفت كليًّا، وأنّ لا أثر لجروح أو ندوب عليه.

لوحة: نبيل أبوحمد
لوحة: نبيل أبوحمد

مؤشر آخر بدأ يضيء بلون برتقالي أشّر لي أن أدخل يدي ومعصمي داخل فجوة أنبوبية ففعلت، ليلتف حول زندي شريط لاصق عليه رموز وإشارات مبهمة أوحى منطق الأمور بأن تقريرًا طبيًّا قد طُبع على هذا الشريط يلخِّص حالتي الصحية وما جرى معي.

برز من أرض السيارة صندوق داخله حذاء مطاطي مع سهم مشعّ يؤشِّر لارتدائه، فامتثلت لطلبه.

انفتح من جانب السيارة مقعد جلدي جلست عليه لتطلّ من الجانب الآخر للسيارة شاشة تلفزيونية بعدة لغات تطلب مني أن أختار اللغة التي تناسبني للتداول بها فاخترت الإنجليزية، كلغة ثانية أتقنها إلى جانب لغتي الأصلية.

فورًا برز تقرير كامل على الشاشة باللغة الإنجليزية يفسر ويوضح كل ما حصل معي وماهية ظروفي الحالية. قرأت التقرير بتمعّن: «أنت من روّاد فضاء كوكب الأرض كنت في مهمة إصلاح مرصد على كوكب القمر، دخلت خطأ في مسار قرب الشمس حرق لك مجسّات استشعار ‘النافيغيتار’ على الكمبيوتر فانجذبت، لحسن حظك، إلى كوكبنا الصغير الأقرب إلى الشمس من أيّ كوكب آخر، وإلا لكنت احترقت أنت وسفينتك بلهبها.

من ناحية صحتك، هي الآن في حال جيدة، قمنا بالفحوصات اللازمة لجسدك فأفضت النتائج عن انسجام وحُسن ملاءمة. ودعمنا خلاياك بـ’أنزيمات’ تساعدك على العيش على كوكبنا شديد الحرارة.

عالجنا جروحك وعقمناها من خلال بثّ هواء حامل لمضادات حيوية لتطهير الجروح وتنظيفها من الجراثيم، كما حقناك بمهدئ يزيل الأوجاع نهائياً. فلا قلق عليك.

بعد نصف ساعة ستكون في قاعة الاستقبال الرئيسية لكوكبنا حيث ينتظرك خبيرنا ومستشارنا لإحداثيات كوكب الأرض الذي زاركم من سبعين سنة وفق تقويمكم ولقبتموه يومها باسم ‘الأمير الصغير’، لكنه الآن كبر وهرم بمفهومكم للكبر، لكنه ما زال نشطًا معافى ويقوم بتدريس تلامذة له عن كل ما يخصّ كوكب الأرض.

يمكنك حين لقائه أن تدعوه باسم ‘الأمير’ فقط تسهيلًا لعاداتكم وتقاليدكم. كل التوفيق.

ملاحظة: ستقوم لجنة أخصاء من خبراء ومهندسي المركبات بمساعدة الروبوتات العاملة، بإصلاح مركبتكم في فترة قصيرة لا تتجاوز الثلاثة أيام، حيث يمكنكم العودة إلى دياركم بسلام.

إقامة ميمونة في كوكبنا..”.

انتهى التقرير.

تحسّست جسدي وأنا جالس على أريكة الجلد في سيارة الإسعاف التي هي بمثابة مستشفى متنقل، بمفهومنا، وإذ لا آلام ولا آثار لكدمات أو جروح. بعد نصف ساعة تمامًا انفتح باب سيارة الإسعاف لأفاجأ بروبوت ينحني لي باحترام ويؤشِّر لي أن أتبعه.

بدا لي كسلحفاة، فهو متكوِّم على ذاته ويحمل على ظهره قبة معدنية لامعة كالمرآة.

تبعته في ممر تسير أرضه أوتوماتيكيًّا من تحتنا أوصلنا إلى مدخل صفيحي فُتح تلقائيًّا أفضى إلى قاعة كبيرة فسيحة بقبّة زجاجية يمكن رؤية السماء والنجوم من خلالها. وتحيط بالقاعة من كافة جوانبها أجهزة رادارية، وتجول فيها روبوتات ومخلوقات مختلفة عنا.

في صدر القاعة مباشرة على مرمى النظر رهط من مخلوقات تحمل بعض الزهور ولها رؤوس على شكل علامات استفهام، يبتسمون وينحنون مرحّبين، وفي وسطهم رجل أسميته فورًا بالرجل لأنه يشبهنا لكنه كهل وصليع الرأس، له لحية بيضاء وعينان لامعتان يبتسم بمحبة مريحة تدعو للاطمئنان يحمل بيده عكازًا له شكل أنبوب «النيون» يشعُّ بلون فوسفوري أخضر.

كان ظهره مقوّسًا للأمام من حيث الرأس. لكنه في الشكل أقرب إلى ملامح أهل الأرض متميّزًا عن كل الآخرين.

خطا صوبي بهدوء ودود وترحاب مادًّا يده ليسلِّم عليّ قائلًا: أهلًا بك على كوكبنا. وأرجو أن أوفّق بأن أجعله خلال إقامتك أقرب لأسلوب حياة الأرض. ثم ضمّني إليه، كعادة سكان الأرض، لثوانٍ قليلة.

قدّمني للآخرين الذين أبدوا الاحترام بالانحناء مقدمين لي باقات الزهور قائلين بالإنجليزية: «You are most Welcome».

عاد إليّ الأمير بابتسامته الرقيقة وقال: لا بد بأنك سمعت عني. فأنا «الأمير الصغير» الذي التقى بي أديبكم أنطوان دو سانت إكزبوري وكتب عني روايته الشيّقة التي كما تناهى لي بأنها قُرئت منكم بأعداد كبيرة، ويكاد لا يوجد طفل أو ناضج من أهل الأرض إلا وقرأها.

–  تمامًا. وأنا واحد من الذين قرأوها وما زالت تفاصيلها تتعايش بداخلي مع كل ما تحمل من رسائل محبّة وقيم إنسانية، كما تتميّز باختلاف عن كل ما كُتب سابقًا من أدب وتخيل في عالم الكتابة عندنا.

ثم تابعت: إنك ما زلت بنفس الملابس التي نعهدك بها من خلال الرواية؟

–  لقد درجت على لبسها منذ طفولتي، وأصرّ على لبسها لبساطتها وسهولة الحركة المريحة لمتطلبات جسدي. وأنا أُمثل ذوقكم وعاداتكم على كوكبنا هذا، وأنا خير نموذج لكم، ويمكن أن تعتبرني كسفير مثالي لكم.

– إني أشكر تعاطفك معي كما مع سكان الأرض. بالمناسبة لاحظت كثرة الروبوتات عندكم كأنها تشكِّل غالبية أهل هذا الكوكب؟

– ربما هم الأكثرية. ولا مانع أن يُسيّروا هذا الكوكب ولا نرتاب بذلك. المهم عندنا هو الإبداع ومن يقف وراءه. ليس من يؤدِّيه. أي من يملك القدرة على الخلق أي العقل عندها سيكون هو الرابح.

– لاحظت أن رؤوس المخلوقات التي معك كأنها توحي بشكل علامات استفهام، وهي ما نستعمله للتساؤل والشك؟

–  نحن مخلوقات في حالة تساؤل مستمر واستفسار عن ماهية كل شيء، إن كان فكريًا نظريًا أو محسوسًا، ونعتبر الشك والتساؤل القيمة الأساسية للمعرفة. لذلك مع بقاء هذه الخصوصية أصبحت رؤوس مخلوقاتنا تمثِّل التساؤل المستمر ورموزه المتمثلة بعلامة الاستفهام.

(…)

لوحة: نبيل أبوحمد
لوحة: نبيل أبوحمد

– يبدو لي أن نمط حياتكم مدروس بشكل علمي، وأنا أتساءل عن مبرِّر ما حصل معي. كأنّ أيادٍ خفيّة سحبت مركبتي لترتطم بجسم صلب. لم أدرك كنهه. هل هناك من تفسير منطقي للذي حصل؟

– الرادارات الفضائية كانت ترصد جنوح مركبتك وأيقنت ببرامجها المتقدمة بأنك فقدت السيطرة عليها، لذلك أوعزت إلى محطة جذب مغناطيسية أن تسحبك بسرعة لتلتصق بحديدها بارتطام أحسبه، كان مؤذيًا نسبيًا للمركبة ولجسدك، وهذا أفضل من تركك تنزلق إلى مدار الشمس حيث ستتحوّل أنت والمركبة إلى كتلة لهب محترقة تحيلك رمادًا منثورًا.

ثم تابع: العلم عندنا هدفه سلامة المخلوق وهذا يأتي بالدرجة الأولى. والروبوتات وأجهزة الاستشعار مبنية أصلًا لهذه المهمة.

– بمناسبة ذكرك للروبوتات، ما سرّ تلك القبة المعدنية على ظهورهم؟

–  كما قلت سابقًا، نحن كوكب قريب من الشمس. نستغل هذا القرب لتوليد الطاقة. والقبّة التي تراها على ظهور الروبوتات هي لامتصاص الحرارة الشمسية وتحويلها إلى طاقة تدير هذه الروبوتات بشكل دائم ومستمر.

أشار لي «الأمير» نحو مجموعة مقاعد وطاولات مقترحًا أن نتناول بعض المنعشات أو الطعام. إن كنت أشعر ببعض الجوع، بانتظار أن يصل طبيب معاين ليطمئن بأن الإجراءات الصحية التي خضعت لها سليمة مئة في المئة.

ثم أضاف: سننتقل بعد هذا بسيارة ذاتية القيادة إلى منتجع سيوفِّر لك كل وسائل الراحة والاحتياجات الضرورية.

جلسنا في المقصف لتواكبنا فورًا «روبوتة» أنثى، إن جاز التعبير، وقفت بمحاذاتنا عيناها تدوران بنشاط دؤوب. لديها لاقطات استيعاب شغوفة لالتقاط أيّ حركة أو همسة تبدر من «الأمير» وتطل من أذنيها بحراك مستمر.

طلبت منه أن يطلب لي مشروباً، فأنا عطش الآن.

نطق بكلمات لم أفهمها، لكن بهدوء ووضوح. فصدر عن «الروبوتة» نغم معين أوحى بأنها فهمت واستوعبت ما يريده منها. ثم غادرت.

–  يا للجمالية الأدائية وسهولة التعامل عندكم، لكن هل لي أن أعلم ما اسم هذا الجرم الذي هبطت عليه؟ أو ما تطلقون عليه؟

–  نحن مجموعة أجرام صغيرة تكوّن أرخبيلًا فضائيًّا يدور حول الشمس، والأقرب إليها اسمه «صانيتو زنغو زاتو» وهو الجرم الأصغر ضمن هذا الأرخبيل، ومساحة قطره خمسة آلاف ميل، أما الذي نعيش عليه فاسمه «مونو صانيتو» فهو أكبر قليلًا من الأول ومساحة قطره سبعة آلاف ميل، ويدور كالأول بسرعة حول الشمس، لذلك عندنا اليوم اثنتا عشرة ساعة. ست ساعات للنهار وست ساعات لليل.

–  هل علينا أن نتناول المشروب بسرعة لنلحق ونؤدِّي الأشياء المرادة منا ومن ثم أخذ القسط الكافي من النوم قبل أن ينبلج النهار؟

–  لا تخف فالنوم ثلاث ساعات كاف للراحة على هذا الكوكب، كما أن الطبيب سيكون معنا قريبًا.

حضر الشراب، كان لونه مشعًّا ولون شراب الأمير مختلفًا، لكنه مشع أيضًا.

سألته عن مكونات هذين الكأسين، فأجاب: مشروبك هو إكسير زهرة «الأوكوراتا» وهي نبتة مشابهة لدالية العنب عندكم، لكن سكّرها قليل، ندعمها بماء الأوكسجين الذي يساعد على الانتشاء. أما مشروبي فهو عبارة عن عصير ثمرة «الجيتوماكا» وهي شبيهة بثمرة الخروب في دياركم، وندعمها بمياه معدنية فوّارة تندلق من فجوات بركان قديم كان مشتعلًا من آجال سحيقة. وهذه المياه منشطة ومقوية للطاقة كما أنها مسلكة للمجاري البولية.

(…)

–  يمر بخاطري الآن شخصك حين كنت «الأمير الصغير» ووفق ما أتذكره أنك كنت تبحث عن معنى هذا الوجود. واكتشاف حقيقته. كما أنك اشتهرت بمقولة فلسفية ما زالت تتردّد في ذهني حتى الآن وهي «المخفي عن الرؤيا هو الأساس»، عندما سألتَ ربان الطائرة المتعطلة في الصحراء في أفريقيا، حين زرت الأرض، أن يرسم لك حملًا. وحين فشل بتأدية ما تريد من الرسم، رسم لك صندوقًا بفتحات جانبية وقال لك إن الحمل في داخل الصندوق، وهو غير مرئي، وما الفتحات إلا ليتنفس من خلالها. لحظتها شعرت بالاقتناع والسرور، معلّقًا بأن هذا ما كنت تريده، متسائلًا إن كان هناك ما يكفي من العشب لتغذية الحمل.

ضحك «الأمير» مائلًا بظهره للخلف ليقول: تمامًا.. تمامًا، هذا ما قلته كما أتذكر.

قلت له: جريًا على ما سألت في صغرك، هل أطلب منك أن ترسم لي الإنسان كما عرفته واكتشفته لدى زيارتك لكوكب الأرض؟

أخرج «الأمير» الكهل من جيب بنطاله كمبيوترًا صغيرًا بحجم الهاتف النقال وبقلم معدني دقيق وأخذ يرسم على شاشته. وللمفاجأة بدأ يرسم بما يوحي بالصندوق الخشبي المربع الشكل، وجعل لهذا الصندوق فتحة بالأعلى تبرز منها عين مرتكزة على وتد صغير تطل من هذه الفتحة وتتحرك من خلال الوتد بشكل دائري، وتنخفض وتعلو. كما أن الجانب الأمامي للصندوق نُشر بشكلZig Zag شبيه بأسنان الإنسان. وكان يتدلّى من الصندوق مفتاح كبير تقليدي الشكل من حديد. ثم بهدوء قدّم لي الكمبيوتر لأرى الرسم. تأملت طويلًا ثم سألته بتعجب: لكن أين الإنسان؟

أجاب: داخل الصندوق!

عدت وسألته: لكن ما معنى هذه العين التي تبرز من فتحة الصندوق العليا؟

أجاب: الإنسان حذر لأفعاله غير المريحة فيستعمل هذه العين لرؤية الأخطار سلفًا. ثم يسحبها للداخل حتى لا يوقن الآخرون بوجوده داخل الصندوق. فيأمن على نفسه.

حضر الطبيب الذي يحمل رأسًا كالآخرين كعلامة استفهام مع كبر في الحجم مع نحالة للجسم فعبّرت عن هذه الخاصة مستغربًا فأجاب «الأمير»: هنا يفكرون كثيرًا، لذلك يكبر رأسهم لاتساع معرفتهم، ومع هذا جسدهم قادر على حمل رؤوسهم.

–  أي عكس ما هو عندنا على كوكب الأرض فنحن نقول، «بالكاد رأسه يحمله» للدلالة على ضمور الرأس وكبر الطموح.

(….)

ثم لفت نظري أفراد يقفون وراء بعضهم بعضاً وضعيتهم تشكِّل ما يشبه شك الخرز.. يتقافزون فوق بعضهم بعضا.. فألححت عليه بالسؤال وأنا أشير عليهم فقال: هؤلاء هم النواب في طريقهم إلى البرلمان.

–  لماذا يقفزون فوق ظهور بعضهم فالقافز يعود فيتنحّى لمن جعله يقفز فوق ظهره متيحًا له القفز من جديد فوق ظهر المتنحِّي.. وهكذا. نحن لدينا مثل هذه اللعبة على كوكب الأرض ونسمِّيها «شك خرز».

–  نعم، أفهم هذا. فالنواب عندنا في طريقهم إلى البرلمان يلجأون لهذا التقليد الذي درجوا عليه منذ القدم كأنهم يريدون أن يقولوا من خلال هذه التقليعة إني أحملك لفترة وعليك أن تحملني بالمقابل لفترة أخرى. أي أننا ببساطة بحاجة إلى بعضنا البعض لخدمة الكوكب وأفراده.

-2-

لوحة: نبيل أبوحمد
لوحة: نبيل أبوحمد

قُرع باب الغرفة بعد أن اغتسلت بالماء البارد وارتديت ملابسي.. ففتحت وإذ بـ«روبوت» يجرُّ عربة تحوي كل مغريات الإفطار من مستحلب «جوز الهند» مع قشور الذرة والموز والفاكهة المجفّفة إلى جانب القهوة والشاي، طبعًا من دون الحليب الحيواني تناولت ما استطعت ليرن الهاتف مرة أخرى يعلمني «الأمير» بأنه ينتظرني على رصيف الطريق في الخارج.

حيّاني بدفء وأسرّ لي برغبته أن نسير على أقدامنا لفترة عشر دقائق أو أكثر لاستنشاق الهواء النقي كما قال.

فذهب إلى السيارة ذاتية القيادة وبرمجها لتلاقينا في «ساحة التنين» كما أعلمني حيث هنالك مكان خاص يمكن أن تُركن فيه.

كان الطقس حارًّا إذا قيس بدرجة حرارة كوكبنا، لكن المسير على الأقدام أبهجني وأفسح لي فرصة للتعرّف على مواطني هذا الكوكب عن كثب.

استرعى نظري خلال المسير والتوقف لهنيهات بأن أنثى عجوز تضع على رأسها إكليلًا من الزهر تردّد بشكل ميكانيكي كلمات واحدة متشابهة كأنها تكرِّر جملة واحدة.

ابتسم لها «الأمير» وحيّاها بانحناء رأسه عدة مرات وهي تعيد ما تلفظه كأنها آلة تسجيل.

سألته بتلهف عما تردِّده، فأجاب: لقد كانت هذه الأنثى واحدة من نجمات المسرح المشهورين لكنها تقاعدت مع تقدُّم العمر، فلجأت إلى الشارع مصرّة أن تؤدِّي دورها الحياتي أو ما لخصته لها الحياة من عِبَر كأنها لا تريد أن تتقاعد وأن تبقى نجمة ولو في الشارع.

–  ولكن ماذا تقول؟

–  تقول جملة واحدة كأنها تلخص بها كل الحياة.. إنها تقول: «نولد.. نؤدِّي.. نموت.. هذه هي الحكاية».

–  أظن بأنها محقّة.

–  لكن التكرار يجعل من هذه المقولة نوعًا من مسرح العبث.

(….)

قال «الأمير»: إنه يصرّ بأنه لا يقين في الحياة، وكل ما هنالك هو تخمين وحدس.

هززت برأسي لأخبر «الأمير» بأني أقرُّ بما تقوله هذه العجوز، ثم أخبرته بأن عندنا شاعرا مشهورا وفي بلاد الشام بالذات، كان أعمى وفيلسوفا وحدث ذلك قبل ثمانمئة عام، وقد أفتى بنفس هذا المعنى في واحدة من قصائده، وكان اسمه «المعري» نسبة لبلدته.

–  ما الذي قاله في القصيدة؟

–  سأروي لك بيتين من هذه القصيدة.. وسأشرحهما لك إن لم يسعفك تذكر اللغة التي قالهما بها.

رويت له البيتين بأصلهما العربي:

أصبحت في يومي أسائل غدي

متحيِّرًا عن حاله مندسا

أما اليقين فلا يقين وإنما

أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا.

بعد أن شرحت وفسرت له البيتين من الشعر قال: أوافقك الرأي فمهما تقدّم العلم، فلا يقين حاسماً لأيّ مقولة أو فلسفة أو نظرية، وهو ما ينطبق علينا وعليكم.

 (….)

وقبل أن نصل إلى «ساحة التنين» لملاقاة السيارة وجدنا مخلوقًا يمتطي دراجة هوائية بدولاب واحد لكنه يقودها بشكل خلفاني، أي وجهه إلى جهة ما وقيادته إلى الجهة المعاكسة.

ضربت على جبهتي، ما الذي يحصل؟

«الأمير» مجددًا يضحك ويفسِّر، ويطلب مني أن أقدّر بأن حق كل مخلوق عندهم بأن يُعبِّر عن كل ما يرغب وما يؤمن به بحرية، ولا يجوز لأحد أن يزعجه حتى من قبل السلطات. على أن لا يؤذي أو يعرقل أو يعطّل الآخرين.

–  لكن لماذا يقود هذا الشاب دراجته بشكل خلفاني؟

–  إنه يؤمن بضرورة العودة إلى الأصول، إلى التّراث، إلى ما كنا عليه، إلى زمن اختراع الدولاب لأنه يعتقد بأن عصرنا الحديث عصر «السايبر» و«الروبوت» جلب لنا الراحة وسهولة تلقي المعلومات. لكنه لم يجلب لنا السعادة. وبرأيه أن السعادة هي في عودة المخلوق إلى نفسه وذاته وما توحي به مشاعره، فالحداثة تأخذك كثيرًا للمشاركة والمتابعة وتنسيك نفسك، فالذاتية في هذا العصر مفقودة. ومن أقواله إن أطول طريق يسلكه المخلوق وأصعبه طوله فقط 18 إنشًا.

(…)

وصلنا إلى «ساحة التنين» فبرز في وسطها نصب برونزي شاهق لتنين ضخم بأجنحة مفرودة ومصنوع من الصلب، كما تبرز عيناه مبحلقتان للخارج بتحدًّ مستفز لكن مُشعّ، فالعينان تشعّان بضوء سحري يكاد يسرق ضوء النهار وضوء أعيننا. كأن أشعة الليزر تنطلق من عيني التنين.

سألت عن معنى هذا النصب – التمثال.. فقال «الأمير»: هذا التنين فدى مدينتنا بروحه وحياته ويستأهل هذا التكريم.. إذ لولا تحدِّيه للعاصفة البرقية التي هي بمثابة الصاعقة التي ضربت مدينتنا في القدم لكان جزء كبير منها قد احترق وفني مع أهله.

(…)

في ليلة داكنة مظلمة ابتلينا بها بوابل المطر والرعد والصواعق التي أخذت تهزُّ المدينة كالهزّة الأرضية. دبَّ الرعب في أفئدة الجميع فاستكانوا وراء الجدران المهتزّة في بيوتهم إلا التنين الذي ظل يقظًا مشرَّعًا رأسه للأعلى كأنه حارس الكون خاصة بعينيه القويتين منتبهًا للرعد والصواعق يبادلنهما التحدي والمقاومة. بقي صامدًا مفعماً بالشجاعة والعنفوان منتصبًا تحت سياط المطر الغزيرة كالسيول ولمعان البرق الصاعق كسياط اللهب الكهربائية حتى هبّت صاعقة ضخمة قذفت المدينة بلهبها وهولها، فانتفض لها التنين متصدّيًا. وبحلق عينيه بجاذبية مغناطيسية سحبت كل زخم اللهب المقذوف بملايين الفولتات لتمتصها كليًّا مستوعبًا كل الشر والأذى الذي تكتنزه وتقذفه بالعًا نارها.. فدمّرته بشحنتها المهلكة محيلة إياه إلى كومة عظام محترقة يأكلها اللهب استحالت بعد دقائق إلى رماد أسود. التنين فدى المدينة بروحه. تصدّى للصاعقة المشحونة بالدمار والنار إنقاذًا لشعب مدينتنا وعمارها. فلهذا التنين منا كل الشكر والامتنان، لذلك قرّرت حكومة كوكبنا تشييد هذا النصب له تقديرًا واحترامًا لشجاعته وليبقى مثلًا للوفاء وسد الجميل.

(….)

ومن رمزية هذه القصة وإقامة النصب سُمِّيت هذه الساحة مع الأيام والأجيال باسم «ساحة التنين». إنها تكاد تكون أسطورة محبة ومثلًا لتبادل الخير بالخير.

نظرت حولي متفقدًا مكان السيارة.

فقال لي «الأمير» سنذهب إليها في الموقف المخصص. وسنبرمجها لنقلنا إلى «حديقة الحياة»..

تعجّبت وتساءلت: من «ساحة التنين» إلى «حديقة الحياة».. أمور تربك قواي العقلية. فأرجو أن تأخذني على محدودية طاقتي.

–  لا تخف، وأرجو أن تعتبرها مغامرة المغايرة. وأنا أكيد بأنها ستمتعك.

-3-

لوحة: نبيل أبوحمد
لوحة: نبيل أبوحمد

ظلت السيارة تصعد علوًّا إلى أن وصلنا إلى جبل مليء بالأشجار. بل غابة كثيفة وشاهقة، كأنها قارة أخرى واستوائية. ولارتفاعها أصبحت الغابة تتداخل بالغيوم.

أضاءت السيارة أنوارًا صفراء كوننا نسير في منطقة ضبابية.. كما أن الرذاذ بدأ يُندي نوافذها.

–  هل دخلنا «غابة الخلود» مقصدنا؟

–  ليس تمامًا ولكن في محيطها.

–  لكن ما هي «غابة الخلود» هذه، هل هي مقبرة كوكبكم؟

–  نعم، شيء من هذا القبيل. فنحن إلى جانب حرصنا على مثالية حياتنا حريصون أيضًا على مثالية احترام آخرتنا.

–  شيء يثلج الصدر. رغم قشعريرة الرهبة تجاه الموت.

ولجنا مشيًا بعد هبوطنا من السيارة بوابة خشبية كأنها من السنديان العتيق. يتوّج هذه البوابة مشطان كبيران من خشب كاللذين يذران بهما القمح في البيادر. حيث تفصل قشرة القمح عن ثمرتها. ولربما مقصد أهل هذا الكوكب أن يعطونا رمزًا للموت بأنه انفصال الجسد عن الروح! بمعنى أن الطبيعة تذري المخلوقات فتنزع أجسادها عن بذرتها التي هي المعنى، والتي تنغرس في التربة لتعيد تدوير الحياة من جديد.

ونحن نلج غابة الضباب تبدّت من خلال رماديتها أشجار عملاقة عريضة الجذوع، وعلى هذه الجذوع عُلِّقت أجهزة كمبيوتر، كذلك هناك على معظم الجذوع حُفرت فجوات بأناقة، وفي داخلها علب من معدن أو بلور، كما أحيانًا في جوار هذه الجذوع رخامات عمودية حُفر عليها أحرف تشي بكلمات لغتهم.

سألت بخفر: هل تفسِّر لي ما يجري؟

أجاب «الأمير» بسكينة وهدوء: هذه الكمبيوترات إن نقرت عليها يظهر على شاشاتها اسم العائلة التي خصصت هذه الشجرة لها تستكين فيها رفات موتاها، ويمكنك من متابعة نص الكمبيوتر قراءة تاريخ العائلة، وعدد أفرادها، مع ذكر الموتى الذين إما هم ذرات رماد في آنية المعدن والزجاج المحشوة في الفجوات – كما ترى – ضمن الجذوع أو أنهم فضّلوا الدفن في الثرى تحت هذه الرخامة المحفورة عليها أسماؤهم.. وقد دُفنوا عموديًا، وذلك لضيق مساحة كوكبنا..

–  لكن كيف يُعرف مَن عن مَن في هذه الأوعية المتروسة في الفجوات؟

–  كما ترى أيضًا عليها أرقام.. وحين تقرأ وتستطلع من خلال شاشة الكمبيوتر تتّضح لك أسماء الموتى وحياتهم، ومتى ماتوا كل حسب رقمه.

–  لكن لماذا اخترتهم الأشجار ليلوذ موتاكم بها؟

–  الأشجار لها جذور.. كما أن فروعها تشقُّ الفضاء وهي ترمز لوجود المخلوق على هذا الكوكب، فغايته التسامي بشق الفضاء وذلك من خلال روحه كما ينغرس في الأرض حرصًا لبقائه بجسده فيها.

–  لكن قل لي هل تؤمنون بحياة أخرى بعد الموت؟

–  نحن نؤمن بأن الأرواح بعد الموت تمتزج بالطبيعة وتهيم مع الهواء والرذاذ والمطر حتى مع أشعة الشمس. ونؤمن بأن لكل روح الحق في اختيار الهيام الفضائي الذي تريده بعد الموت.. كأن تصبح غيمة أو نسمات هواء، أو نورًا يهب ضوءًا للآخرين.

–  لكن كيف تتأكدون من هذا المصير؟ هل لكم دليل حسي وعلمي يثبت هذه النظرية للآخرة؟

–  أرجو أن تسير معي لأريك ما الذي يحصل لهذه الأرواح.

سرت صحبته نخطو في لبد هذا الغبش كأننا نسير في مناخ عجائبي يكاد يحملنا بجسدينا بخفة وبتمهل مغبّة إزعاج هذه الأرواح كما تبادر لذهني حتى كدنا والغيم يلفّنا نعجز عن الرؤية فباح بكلمات أثيرة كأنها تكملة لهذا الجو: انظر إلى الأعلى ألا ترى المكونات تسبح في الفضاء اللامتناهي. إني أكاد ألمسها وهي تكاد تحتكّ بي كما أسمع حوارها وغناءها بل تهليلها لنعمة الكون والخلق.

حدّقت مليًّا في الدخان المحيق بنا الذي اسمه الغبش والضباب فلم أرَ شيئًا. لا أثر لأيّ هلام أو شبح أو همس أو نغم. قلت له: آسف لا أرى شيئًا.. ولا ألمس شيئًا، ولا أسمع شيئًا.

قال بثقة: عليك أن تنظر بعيني الإيمان.

قلت له: لكن ما هو الإيمان؟

أجاب: أن تحب ما تريد أن يكون!

ثم تابع: ألم أقل لكم عندما زرتكم في صغري إلى كوكبكم الأرض «إن الشيء الذي لا تراه العين هو الحقيقة وهو الأساس».

–  نعم أتذكّر هذا، وأجلّ ما تقول. ربما ليس عندي الإيمان الكافي لأرى المكوّنات الشبحية التي تحدثت عنها، لكن جعلتني أثق بكلامك. لأنه يعتمد على إيمان صلب.

ثم تابعت: يخطرني هنا سؤال مهم. وربما أخير، طالما أنكم تقدمتم بكوكبكم على جميع الأصعدة، لماذا لم تتغلبوا على الموت؟

–  الحقيقة أننا لحكمة معينة لا نريد التغلب على الموت.

ثم حدّق مليًّا في الفضاء ليقول: على المخلوق أن يبقى مخلوقًا وخاضعًا لسلطة أعلى منه. لا نريد للمخلوق أن يصبح خالقًا، لأن الأنا عنده ستتضخم ويصبح مشروع دكتاتور أو بالأحرى مشروع إله.

وعندها سيتحول كوكبنا إلى ساحة تذابح وقتال وسنغرق ببحر من الدماء. صحيح أن لا موت لكن هناك آلام والآلام أعتى.

نظرت إليه بعمق وقلت في نفسي «إن الحكمة ملازمة لهذا ‘الأمير’ منذ طفولته، وهي نموذج أو عيِّنة عن مخلوقات هذا الكوكب».

ظللت طوال طريق الإياب صاغرًا ومفكرًا بكل ما زوّدتني به هذه الزيارة القهرية ولهذا الكوكب الغرائبي، من ثقافة وحكمة. والحكمة قبل الثقافة أو ربما من نتاجها.

في اليوم التالي، وهو اليوم الثالث، وكان يوم المغادرة والعودة إلى الأرض، أخبرني «الأمير» حين جاء ليصطحبني أن مركبتي قد أُصلحت وأُضيف إليها ما يريح أكثر.

ركبنا السيارة التي تلبِّي ما تلقّمها، وقصدنا مكان هبوطي الاضطراري، لأجد المركبة منتصبة بكل كمالها وأناقتها.

كان حشد كبير من سكان هذا الكوكب، إذ أن رؤوس ساكنيه بشكل علامات استفهام، قد اجتمع بكثرة لتوديعي ورؤيتي المختلفة عنهم وكيفية إقلاع هذه المركبة التي غزتهم عن غير قصد.

علت الصيحات حين أطللت عليهم وكلمات لا أفهمها كأنها تقول لترافقك السلامة.

ودّعت «الأمير» العجوز حاضنًا له.. هذا المخلوق حدّق مليًّا بوجهي كأنه يخبرني بأنه في يوم من الأيام لربما سنلتقي ثانيةً. يعني أن يلتقي أهل الأرض بأهل هذا الكوكب.

ربما حين تفيض الأرض بسكانها، أو يغامر أهل هذا الكوكب بغزونا لأداء توصيل رسالة محبّة وعيش آمن. كبديل عن توحش علاقاتنا المغرقة بالحداثة خالية العاطفة والمبتلية بالصراع.

مدَّ يده إلى جيبه وأخرج رباطًا يحمل شيفرة رقمية قائلًا لي: أرجو أن تضع هذا الرباط حول معصمك لأنه يسمح لك بزيارتنا متى شئت. فضممته مرة ثانية وشكرته على كل ما أسداه لي من عون ونصح وسعة صدر.

قصدت المصعد الكهربائي. بعد أن تسلّمت «كودًا» جديدًا لتشغيل المركبة، وبدأت ألوِّح للجماهير مودِّعًا. فتتعالى أصواتهم أكثر وتلوِّح أيديهم أكثر كأنها رفوف حمام مسالم تشحنني بالطمأنينة.

أدرت أجهزة المركبة فلبَّت رغباتي وما أصبو إليه كأنها جديدة الصنع.. فأرسلتْ اللهب الصغير ينطلق من قاعدتها، وأخذت ترتفع الهوينى، الهوينى. ثم أدرت مفاتيح برامج الاتجاه المناسب. لتأخذ مسلك التصويب الصحيح باتجاه الأرض، وإذ بها بعد العلو الشاهق والمناسب أصبحت المركبة منقادة إلكترونيًّا مخلّفة وراءها اللهب الصاخب وقاصدة الأرض، قاصدة أرضي التي أحبها، فأحسست بالكبرياء وتعزّزت في نفسي القدرة،  قدرة المخلوق أن يظل ينتج ويبدع ويرتاد غياهب الفضاء ومجاهله.

حنين لفَّني من جديد إلى عائلتي وأهلي، وأهل أرضنا حيث سأخبرهم عما حصل معي، وعما حصل مع «الأمير الصغير – الكبير».

الكبير سنًّا، وقيمة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.