سلامٌ على مثقلٍ بالحديد

الأحد 2023/01/01
لوحة: حمود شنتوت

سأتحدث هنا عن نفسي؛ وأذكر واقعة حيَّة، ساهمت إلى حدِّ كبير في لفت انتباهي في وقت مُبكر من حياتي إلى محنة السجون وأهلها. هذه القضية التي تؤرّق عيش البشر على امتداد رقعة الكرة الأرضية هي من دفعني لأن أذهب بعيداً في رصدها، لأن المعاناة لا تقع على المسجون وحده، ولكن في الحقيقة تتعدى ذلك إلى الأهل خارج السجن أيضاً – الأب والأم والزوجة والأولاد والأخوة والأخوات وحتى الأقارب الأبعد – ويحصل لهم مضايقات عنيفة من سلطات مستبدة غاشمة لا يمكن تصور فداحتها، حيث تصل إلى حدِّ تنغيص عيشهم وجعلهم – عن قصد – يعيشون في جحيم حقيقيّ، وبالأخص عندما يكون سجينهم معتقلاً لأسباب سياسيّة. ومن المفيد هُنا القول بأن الطريق إلى مدرستي الابتدائية التي قضيت فيها ست سنوات دراسيّة في سبعينات القرن العشرين كان يمرّ من أمام باب السجن الوحيد في مدينة إدلب. ولأن السجن كان يبعد عشرات الأمتار فقط عن مدرستي فقد ترك في ذاكرتي طيف باب واسع أسود اللون يتوسطه باب آخر أصغر منه فيه شرّاقة تُفتح وتُغلق من داخل السجن. ودائماً ما كنتُ ألمح الأعداد الغفيرة من الخلق ومن أهل الريف خاصة -يظهر ذلك من لباسهم – ينتظرون أمام باب السجن لأمر ما؛ عندما أمر من أمام باب السجن بعد الانتهاء من دوام المدرسة والعودة إلى البيت ظهر كل يوم.

السجن فعل فعله في حياتي مذ كنتُ “سجيناً” في رحم أمي، فأنا ولدتُ في يوم لا أعرف تاريخه لأن أبي كان سجيناً سياسيّاً هو الآخر في دولة الوحدة بين مصر وسوريا “الجمهورية العربية المتحدة” أيام جمال عبدالناصر، نعم، كان شيوعيّاً من حزب خالد بكداش. لا أعرف المدة التي قضاها في السجن ولكن ولدتُ في تلك الأيام ولم تُسجَّل واقعة ولادتي في دائرة النفوس في مدينة “إدلب” في الشمال الغربي من سوريا. وحين خرج والدي “راشد دحنون” من سجنه لم يفطن لأمري وانتظر حتى ولدت له والدتي “عيوش دهنين” مولوداً جديداً، بنتاً، فذهب أبي إلى معارفه في دائرة النفوس، وسجلنا في دائرة النفوس “توأم” بتاريخ 16/3/1963 ولسنا كذلك. حاولتُ بعد ذلك، حين وعيتُ على الدُّنيا وأهلها، أن أستفسر من والدتي – رحمها الله – عن تاريخ ميلادي الحقيقي فكان الجواب مُلتبساً، فأمي أنجبت في حياتها سبعة ذكور وخمس إناث، كلّهم أحياء، وبذلك يصبح مجموع العائلة مع أبي وأمي أربعة عشر فرداً في منزل واحد من ثلاث غرف، هذه عائلتي، وأريد من أمي بعد ذلك أن تتذكر تاريخ ميلادي؟ كتَّر الله خيرها أنها تذكَّرت اسمي. ومع ذلك فالحزن لا يُفارقني إلى يومنا هذا لأنني فعلاً لا أعرف تاريخ ميلادي الحقيقي، وسبب ذلك أن أبي كان سجيناً سياسياً في عهدة عبدالحميد السراج في سجن المزّة في العاصمة السوريّة دمشق أيام ذلك الاستبداد الذي حكم المجتمع السوريّ وقاد فيما بعد إلى دكتاتورية غاشمة.

أستذكر هنا الحوار الذي أجراه أليكس بيثينتي مع الكاتبة الكندية نانسي هيوستن، التي يعرفها القارئ العربي من خلال كتابها “أساتذة اليأس” بمناسبة صدور ترجمة كتابها “شفاه الحجر” إلى الإسبانية والذي تقارن فيه سنوات تكوينها بفترة حكم الدكتاتور الكمبودي “بول بوت” زعيم الخمير الحمر، حينما تواطأ المثقفون الأوروبيون بصمتهم مع الإبادة الجماعية للشعب الكمبودي.

سؤال:

– هل تعتقدين أننا جميعاً مستبدّون محتملون؟

جواب:

– “لا أعرف نساءً مستبدّات، وهذا يُلغي في الواقع نصف سكان العالم. إذا توفّرت الظروف الصحيحة، بإمكان أيّ شخص أن يصبح دكتاتوراً. كلّ ذلك يتوقّف على التعليم الذي تلقّاه. لم يكن ‘بول بوت’ شريراً بهذا المعنى: إذ تتساوى مدرسة ‘تيرافادا البوذية’ التي تشجّع على عدم العيش بعواطف قويّة جداً، مع المرور بطفولة غير سعيدة. وهذه هي حالة الألماني أدولف هتلر، من زاوية أخرى”.

أُحاول هنا أن أستقصي جدلاً واسعاً ومتشعباً عن دور منظومة “السجون” وانعكاسات هذا الدور على المجتمعات الإنسانية في تشكيل السمات السيكولوجية والسلوكية للفرد المسجون الذي قضى في سجون “الطَّاغية”، أو قُل “الدكتاتور” على حدّ تعبير نانسي هيوستن؛ فترة قد تطول أو تقصر، يخرج بعدها إلى الحياة العامة – هذا إن خرج سليماً – بسلوكيات تختلف اختلافاً بيّناً عمَّا كان يسلكه قبل أن يُسجن. ومن ثمَّ أعمل على اسْتِقصاء مساهمة “أدب السجون” المكتوب في كشف السمات العامّة التي يخرج بها المسجون من سجنه بعد إطلاق سراحه، بمعنى محاولة الإجابة عن السؤال الخطير: من يحدد سلوك البشر في النهاية هل هو الطبع أم التطبع، وهل أنتَ/أنتِ إلى الشر أميل، فيصنع منكَ/منكِ السجن فرداً خيّراً صالحاً؟ لأن عبارة “السجن إصلاح وتهذيب” التي تُروّجها الدول والحكومات المستبدة عن سجونها هي في الغالب الأعم لا تكون كذلك، وحسبك أن تعود إلى “أدب السجون” المكتوب – وهو كثير – أو المصوّر في أفلام ومسلسلات وبرامج وثائقية، لتكتشف بنفسك ذلك البون الشاسع بين ما تروّجه الأنظمة القمعية عن سجونها ذات “العيش الرغيد” وبين الواقع المعيش فعلاً. وبكلِّ تأكيد كلام الكاتبة الكندية نانسي هيوستن أعلاه يُضيء لنا جانباً مهماً من عتمة سجون الأنظمة المستبدة “الدكتاتوريَّة” وما يحصل فيها، وحقيقة الأمر، يُعيدنا كلامها إلى جذور هذه المشكلة التي استعصت على الحل.

طبعاً، يصعب العثور على دليل يُبيِّن اختلافات تشريح دماغ “المسجون” عن دماغ الفرد العادي، أو لنقل عن دماغ الفرد الحر الذي لم يُسجن في حياته، ولا حتى مرّة واحدة. وعلى الرغم من اكتشاف علماء الأعصاب عدداً من الفروق في بنية الدماغ ووظائفه بين مختلف الأفراد، أكانوا ذكوراً أم إناثاً، أحراراً أو سُجناء، فلا أحد يستطيع في الوقت الراهن أن يقول ما إذا كان لهذه الفروق أيّ تأثير في دماغ المسجون، وعلى وجه الخصوص ذلك الذي قضى سنوات طويلة من عمره مسجوناً سياسياً، بمعنى سُجن لأنه عبَّر عن رأيه في دولة يحكمها أحد الطغاة.

في لقاء متلفز مشهور مع المناضلة الأميركية السوداء “أنجيلا ديفيس” من الحزب الشيوعي الأميركي، وهي ذات باع طويل في مسألة الدور الاجتماعي  للسجون وانعكاسات هذا الدور على الأفراد الصالحين منهم والطالحين. تقول في جوابها عن سؤال حول دور السجون في المجتمعات الحديثة “أؤمن أنه من الممكن العيش في مجتمع بلا سجون وقد تكون الفكرة ملائمة للمستقبل في مجتمع متبدل حيث القوة الدافعة فيه هي حاجات الناس وليست الأرباح، في الوقت نفسه فكرة إلغاء السجون الآن مستحيلة لأن أيدولوجية تدعيم السجون مغروسة بعمق في جذور عالمنا المعاصر، هناك عدد كبير من الناس خلف القضبان. استخدمت السجون كإستراتيجية لمحاربة الانحراف الناتج عن العنصرية، الفقر، البطالة، الأمية، هذه المشاكل لم تعالج حتى يُسجن من ارتكب جريمة بسببها، إنها مسألة وقت حتى يدرك الناس أن السجون ليست حلاً”.

تقترح في بث مباشر على فيسبوك يوم الأحد 15 يونيو/حزيران 2020 نقلته عنها جريدة “القبس” الكويتية في موقعها الإلكتروني “إن الطريقة الوحيدة للتحرر من العنصرية والتمييز الجنسي والسجون والشرطة هي إلغاء هذه المؤسسة حتى يمكن إعادة النظر في وظائفها وبناء شيء جديد. وإذا كانت الإصلاحات قد فشلت في إحداث تغيير للشرطة أو السجون أو المعتقلات، فهل من المنطقي الدعوة ببساطة إلى المزيد من الإصلاحات؟ وإذا نظرنا إلى تاريخ السجون وتاريخ الشرطة، نجد أن دعوات الإصلاح تعددت في تاريخ هاتين المؤسستين ونفذ عدد من تلك الإصلاحات. ومع ذلك، فإن السجون والشرطة ازدادا عنصرية وصارا أكثر قمعاً وعنفاً. نحن لا ننظر إلى السجون والشرطة بصفتهما مؤسستين منفصلتين. يجب أن يبقى هذا في صميم جهودنا لبناء المجتمع الإنساني. نحن ننظر إلى الإلغاء من منظور ثوري يقتضي أن نفهم ونقاوم، ليست المؤسسة وحدها، بل كل الظروف والقوى التي تمكّن من استمرار وجودها. نحن لا نُضيف ببساطة كلمة ‘إنساني’ إلى اسم مؤسسة منحرفة، عنصرية جداً بحكم بنيتها، وواقعة تحت تأثير عميق لأيديولوجيات جنسية أبوية، فنقول إننا نعلم أن الشرطة عنصرية، ونناضل من أجل شرطة أكثر إنسانية! ونقول إننا نعلم أن الحبس متحيز طبقياً بطبيعته، لذلك فلنكافح من أجل تحيز طبقي أكثر إنسانية، من أجل شكل أكثر إنسانية للعنف! فهذا بالضبط ما طُرح في شأن عملية الإعدام، من أجل شكل أكثر إنسانية لقتل الناس”.

أقول تعليقاً على كلام أنجيلا ديفيس: يصعب البحث في الفروق السيكولوجية – إن وجدت – بين المسجون والفرد الحر، نظراً إلى امتلاك الأفراد منظورهم وأفكارهم الخاصة عن دور “السجون” في حماية المجتمع، بغض النظر عمّا إذا كانوا يمحّصونها علمياً أم لا. وهذا يختلف عن موضوعات البحث الأخرى في العلوم البحتة، حيث لا يوجد لدى الأفراد قناعات أو وجهات نظر مسبقة راسخة يمكن أن تؤثر مسبقاً في عملية البحث. ويُطلق على الآراء الشائعة أو الراسخة، غير المؤسسة بالضرورة على الدليل، مصطلح أفكار مُنمَّطة، لأنها قد تُعتنق من قبل العلماء كما من قبل البقية، وهي تجعل البحث في هذه الفروق أكثر صعوبة من البحث في المجالات غير المعرَّضة لأفكار منمَّطة. أدب السجون المكتوب عربياً تفاوت في قدرته على التأثير في الوعي العامّ والحياة السياسية ولكنه سعى بكلّ تأكيد لشرح ظاهرة غاية في الأهمية وهي طرق التعذيب النفسي والجسدي التي ابتكرتها وطوَّرتها الأنظمة القمعيَّة في تعاملها مع السجين السياسي.

لوحة: حمود شنتوت
لوحة: حمود شنتوت

عاش الكاتب والصحفي المصري الأشهر مصطفى أمين صاحب جريدة “أخبار اليوم” محنة السجن الرهيب تسعة أعوام كاملة دون وجه حق، وشاهد الأهوال في تلك السنوات، وكتب فيها أدباً محترماً. ولعل رواية “لا” التي كتبها في السجن ثمّ هرَّبها إلى الخارج، لترى نور الحريّة، هي واحدة من أبدع الروايات عن “أدب السجون” في الوطن العربي، وقد تحولت الرواية إلى مسلسل ناجح عُرض على شاشات التلفاز في عدة أقطار عربيّة. وقد سألتني إحدى الصديقات المُهجّرات من الشمال السوري والمقيمة اليوم في إحدى الدول الأسكندنافية. قالت: كيف حالك مع مصطفى أمين؟ قلت: صاحب جريدة أخبار اليوم؟ قالت: نعم، هو بعينه. قلت: صحبتي جيدة معه، وأكنّ له كلّ احترام وتقدير. وقد جمعت في مكتبتي الإلكترونية جميع كتبه التي استطعت الوصول إليها، قرأتها بشغف أكثر من مرة، خاصة تلك الرسائل التي كان يُهرِّبها من سجنه. ونشرها في كتب: “سنة أولى سجن” و”سنة ثانية سجن” و”سنة ثالثة سجن” وأنتِ لن تفهمي الرجل إلا من خلال كتبه التي كتبها في سجون جمال عبدالناصر، حيث أمضى تسع سنوات مسجوناً بتهمة – على الأغلب مُلفقة – وهي تعامله مع الاستخبارات المركزية الأميركية تلك الأيام.

في أوائل سبعينات القرن العشرين قامت ابنتاه رتيبة وصفية بزيارة للسيدة جيهان السادات مع السيدة أم كلثوم، أملاً في التوسط من أجل الإفراج عن والدهما في عام 1972، ولم تُوَفَّقا في الإفراج عنه فوراً. لكن الرئيس المصري أنور السادات أصدر قرار العفو عنه عام 1974 بعد حرب أكتوبر.

من جهة أخرى، أكد صلاح نصر في كتابه “عملاء الخيانة وحديث الإفك”، وهو كتاب صدر في عام 1975، أن مصطفى أمين كان جاسوساً – ولكن دون دليل – وشرح بالتفصيل علاقته بالمخابرات المركزية الأميركية. والأكثر من ذلك، ذكر صلاح نصر أن جهاز مكافحة التجسس كان يحتفظ بملف حول علاقته بالمخابرات المركزية الأميركية، حتى من قبل ثورة يوليو 1952. وطبعاً قرأتُ الكتاب، وأيضاً قرأتُ كتاب عبدالله إمام “صلاح نصر الثورة والمخابرات والنكسة”، وهو عبارة عن تجميع وتلميع ضمَّ صوراً وحواراً سخيفاً سقيماً مع صلاح نصر. وفي الكتاب وثائق أيضاً، منها نص الخطاب الذي أرسله مصطفى أمين من سجنه إلى جمال عبدالناصر، ولا نطمئن إلى “موثوقية” هذا الخطاب، وفيه من دسِّ المخابرات الشيء الكثير. وذلك يثبت أن المخابرات المصرية هي التي لفقت تهمة التجسس في ملف مصطفى أمين، ولم يكن الرجل جاسوساً ولا عميلاً. كان صحافياً لامعاً مرعباً، حتى لرئيس الجمهورية.

ما يهمّني في شأن مصطفى أمين، أن أسجل حادثة حصلت له في سجنه، وهرَّبها كتابةً لزوجته أو لأخيه علي أمين الذي كان يُقيم في لندن. وقد لاحظت أمراً غريباً وغاية في الأهمية استخلصته من أعوام سجن مصطفى أمين: عندما يحترم السَّجان سجينه، فإن المواطن في تلك الدولة يكون محترماً في الشارع وفي بيته وفي عمله وفق الدستور والقانون المرعيين. وعندما يكون السجان وحشاً في تعامله مع سجينه، فإن المواطن في هذه الدولة يُجرَّد كلياً من جميع حقوقه المنصوص عليها في الدستور والقوانين، ويصبح عيشه أشبه بعيش الوحش في الغابة. وهذا يؤكد لنا القاعدة الفكرية الخطيرة التي ترجع إلى كونفوشيوس، وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية، وتقول: إن أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان عادلاً مستقيماً، عدلوا واستقاموا، وإن جار وسرق، جاروا وسرقوا.

سأحكي هنا بتصرف عن هذه الواقعة من حياة مصطفى أمين في سجنه وهي تحمل في طياتها دلالات كثيرة ومهمة. وفي العموم ما كتبه مصطفى أمين في سجنه وعن سجنه يستحق دراسة مفصّلة ومنفصلة آمل أن يسمح الوقت في المستقبل القريب بالخوض فيها. وفي ظني أغفل الباحثون العرب تجربة سجن مصطفى أمين بسبب التهمة الملفَّقة “عميل أميركي” التي سُجن بسببها:

سجن القبة

يوليو/تموز سنة 1965

عزيزتي

 

كان من بين وسائل التعذيب التي لجأوا إليها أن صدر قرار بمنعي من الأكل والشرب. الحرمان من الأكل مؤلم، ولكنه محتمل. الجسم يتحمل الجوع. ولكن العطش عذاب لا يحتمل. وخاصة أننا في أواخر شهر يوليو. والحرارة شديدة قاسية. وأنا مريض بالسكر، مرضى السكر يشربون الماء بكثرة. في اليوم الأول تحايلت على الأمر. دخلت إلى دورة المياه فوجدت فيها إناء الاستنجاء. وشربت من ماء الاستنجاء. وفي اليوم التالي فوجئت بأنهم عرفوا أنني شربت ماء الاستنجاء. فوجدت الإناء فارغاً ووجدت معه ورق تواليت. واضطررت إلى أن أشرب من ماء البول، حتى ارتويت. وفي اليوم الثالث لم أجد بولاً لأشربه.

الجوع لمدة ثلاثة أيام أمر محتمل، أما العطش فهو عذاب مثل ضرب السياط. كنتُ أسير في زنزانتي كالمجنون. الحر في شهر يوليو/تموز مؤلم. لساني جفّ، حلقي جفّ. أحياناً أمدّ لساني وألحس الأرض، لعل الحارس نسي نقطة ماء، وهو يغسل البلاط. وبينما أنا أدور حول نفسي وأنا أترنح، رأيت باب الزنزانة يُفتح في هدوء، ورأيت يداً تمتد في ظلام الزنزانة تحمل كوب ماء مثلج. فزعت. تصورت أنني جننت. بدأتُ أرى شبحاً. لا يمكن أن يكون هذا ماء. إنه سراب. تماماً كالسراب الذي يرونه في الصحراء. وما لبثت أن وجدت الكوب حقيقياً. مددتُ يدي ولمست الكوب. فوجدته مثلجاً فعلاً. وقبضتُ على الكوب بأصابعي المرتعشة. ورأيتُ حامل الكوب يضع إصبعه على فمه وكأنه يقول لي: لا تتكلم. وشربتُ الماء. ألذّ ماء شربته في حياتي. أحسستُ بسعادة لم أعرفها من قبل. كل ذلك من أجل كوب ماء.

ومضت أيام التعذيب دون أن أرى الحارس المجهول. وذات يوم رأيته أمامي، وكنا على انفراد وقلت له هامساً: لماذا فعلت ما فعلت؟ لو ضبطوك، لفصلوك. قال باسماً: يفصلونني فقط؟ كانوا سيقتلونني رمياً بالرصاص. قلت: ما الذي جعلك تقوم بهذه المغامرة؟ قال: إنني أعرفك ولا تعرفني.

منذ تسع سنوات تقريباً أرسل فلاح في الجيزة خطاباً لك يقول فيه إنه فلاح في إحدى القرى، وإن أمنية حياته أن يشتري بقرة، وإنه مكث سبع سنوات يقتصد في قوته وقوت عياله، حتى جمع مبلغاً، ثم باع مصوغ زوجته، واشترى البقرة. وكان أكثر أهل القرية تقى وورعاً وصلاة وصياماً. وبعد ستة أشهر ماتت البقرة. مع أن جميع البقر الذي يملكه الفلاحون في القرية الذين لا يصلون ولا يصومون ولا يعرفون الله، بقي على قيد الحياة. وفي ليلة القدر بعد ذلك بشهور، دقّ باب البيت الصغير الذي يملكه الفلاح. ودخلت محررة من جريدة “أخبار اليوم” تجرّ وراءها بقرة. وكانت أخبار اليوم قد اعتادت أن تُحقق أحلام المئات من قرائها في ليلة القدر من كل عام. وسكت الحارس المجهول، لحظة ثم قال: هذا الفلاح الذي أرسلتم إليه البقرة منذ تسع سنوات، هو أبي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.