سماء لا تعتقل الأجنحة وفضاء لا يحجر على العقول
يوشك العالم أن يودع عاما آخر، و”الجديد” تقترب من استقبال عامها الخامس؛ طامحة منذ صدورها إلى استئناف مغامرة ثقافية عربية جريئة، افتتحتها مجلات أدبية رائدة سبقتها، وشكلت منابر للفكر النقدي والأدب الجديد، ولعبت أدوارا مهمة في احتضان الأقلام الأدبية والفكرية وشكلت بيئة وفضاء للدعوات المنادية بتحديث الأدب والتغيير الاجتماعي. “الجديد” سعت خلال سنوات صدورها الأربع إلى أن تشكل بخطتها النشرية المنفتحة على جغرافيات الثقافة العربية مشرقا ومغربا، ظاهرة ريادية في دنيا الصحافة الأدبية ومنبرا عربيا جامعا، يحتضن الجديد فكرا وأدبا في المهاجر والمنافي والأوطان، ويفتح بالحوار الفكري والنقدي الأقنية المسدودة بين النخب والتيارات الأدبية في لحظة عربية تتطلب مراجعة ثقافية شاملة. وقد أخذت على عاتقها الحض على هذه المراجعة من خلال عشرات الملفات التي تناولت القضايا الثقافية والظواهر المجتمعية الأكثر إشكالية ولا سيما تلك التي اصطلح على اعتبارها مسكوتا عنها، مستقطبة إلى تلك الملفات أقلاما راسخة وأخرى جديدة. لتتفاعل في ما بينها وتتحاور وتتساجل بقدر كبير من الحرية. وشكل حضور المرأة ومكانتها في الثقافة الاجتماعية همّا أساسيا وشغل منتجها الأدبي والفكري حيزا بارزا في المجلة.
ولدت “الجديد”، التي حمل عددها الأول عنوانا صاخبا هو “الربيع الدامي” في لحظة عربية استثنائية، وفي أجواء مشتعلة بالحرائق والانفجارات، وتوالى صدور أعدادها الأولى بينما أنهار من الدم تشق الشوارع العربية الصاخبة، ولم تترفع أو تنأى بنفسها عن الحريق، بل حضت الكتّاب على مقاربة القضايا الأدبية والفكرية غير بعيد عن ذلك اللهب.
***
لم تولد “الجديد” لتعيد طرح الأسئلة القديمة التي شغلت الثقافة والمثقفين على مدار أكثر من قرن من المراوحة في الصيغ المتكررة والقوالب الجامدة والاغتراب عن العصر، ولكن ليكون لها نصيب في إثارة الشك في جدوى التكرار، وفي حض الثقافة العربية على الاحتفاء بالجديد وتجديد أسئلتها بحثا عن صيغ جديدة للأدب والفكر والفن أكثر قربا من الحقيقة الإنسانية، فلا تقطع الثقافة مع السياق التاريخي للتطور، ولا تغترب عن العصر، بل تغتني وتأتلق بكل ما يمكن أن يجود به الفكر والإبداع من إنجاز خلاق في عالم تكسرت فيه الحواجز، وبات انتقال المعارف والخبرات والصيغ أمرا يسيرا، عبر طرائق مبتكرة عممت نفسها على سائر جغرافيات الكوكب.
***
لم يعد طبيعيا ولا مقبولا أن تتقوقع الثقافات، صغيرة كانت أو كبيرة، في ظل وسائل الاتصال والتواصل الحديثة. وما دامت الثقافات تنتج ذاتها، وتعيد تعريف هذه الذات في مرآة الآخر، وهو ما انخرطت فيه الثقافة العربية في تاريخيها القديم والوسيط، فلا مهرب، اليوم، أيضا من أن تعيد قراءة ذاتها، بأن تطل على صورتها من خلال مرآة إنسانية أوسع، هذه المرة، من كل ما عرفته من المرايا التي عكست صورتها، وتمرأى فيها اختلافها الحضاري عبر تاريخها المديد. وهذا يحتمّ عليها أن تقارب أسئلة كونية الطابع، ولا مناص إذ ذاك من مغادرة الضيق الذي حاولت الأفكار والصيغ القروسطية المتخلفة للصراع المجتمعي والسياسي أن تحشرها فيه، في ظل هيمنة قيم التسلط الأبوي، وتعثر محاولات قوى التغيير في المجتمعات العربية زحزحة البنى القديمة وصولا إلى كيانات مجتمعية تحترم خيارات الأفراد، ولا تتعامل معهم كقطيع من الخراف يقوده من مسلخ إلى مسلخ راع جشع له رأس تقيم في عتمة التاريخ، ولا ينافسه على تلك الإقامة سوى “فقهاء الظلام”، شركاء القسمة التقليدية بين قوى الاستبداد في هيمنتهم على أقدار الجغرافيا والناس في دنيا العرب.
***
ما من خيارات مستقبلية للعرب من دون ثقافة جديدة هي النقيض الطبيعي لثقافة الاستبداد ذات الهيمنة الأبوية القائمة على اعتقال المجتمع وعسكرته وإخضاعه كليا لخيارات النخبة الحاكمة. هو ذا ما تأسست لأجل المناداة به والعمل لأجله مجلة “الجديد” بوصفها منبرا للثقافة الحرة والخيال الطليق، وفضاء للحوار الحر والأدب المبتكر. وأولا وأخيرا منبرا لمجد الكلمة وهي تنحاز إلى جانب الحق والجمال والحرية في عالم يزداد قسوة ويتفشى فيه إرهاب الدولة والجماعات، في ظل نفاق كبير وكلام لا رصيد له عن ازدهار الأفكار المنادية بالدولة العصرية والمطالبة بصون الحقوق، في جغرافيا عربية مشتعلة من بغداد إلى صنعاء ومن دمشق حتى طرابلس الغرب.
***
الثقافة أولا، لأنه لا ديمقراطية ولا دولة مواطنة، أصلا، يمكن أن تتحقق وتتأسس عليها المجتمعات من دون ثقافة تؤسس لوعي حقيقي يتفشى في الأفراد ويستقر في لاوعي الجماعة ويحيل احترام وجود الآخر، بدءا من حقه في صوته وحقه في الاختلاف في الرأي وفي خياراته الفكرية، إلى بداهة لا تقبل المراجعة أو الجدل.
***
ولدت “الجديد” على مفترق عربي صعب لتؤكد على حقيقة أن ما من سبيل آخر سوى المعرفة لتحقيق الخلاص لملايين الشباب العرب المتطلعين إلى حياة جديدة، تخرجهم من ظلمات الكهوف إلى مجتمعات تشعّ بالأنوار، وتسودها مؤسسات عصرية تقوم على قيم حقوقية تنظم علاقات المجتمع وفق قوانين عامة، ودستور تصان من خلالهما الحريات الفردية والعامة، ويقام وزن حقيقي للأنا بوصفها جوهرا للكلّ.
ما يعوز العرب اليوم هو الإقرار بأن الصيغ المهترئة التي حكموا من خلالها لم تعد قابلة للعيش، وأن ما أشعل حريق “الربيع العربي” كان حقيقيا ولم يكن ضربا من التآمر عليهم. ورغم المآلات الفاجعة التي آلت إليها أحلام الشباب بالتغيير، بفعل اختطاف الحراك السلمي وتحويله إلى حروب متعددة الأوجه بين النخب الحاكمة والناس، وبين المواطنين والمحتلين، وبين الجماعات الإرهابية ذات الأقنعة الدينية والطائفية والمطالبين بالدولة المدنية، فقد تخلخلت البنى القمعية وتفجرت الأسئلة، ولا مناص أمام العرب، بالتالي، من أن يأخذوا بما بات من المسلمات من صيغ الاجتماع الإنساني، والتعاقد الاجتماعي، في العالم الحديث، ليمكنهم أن يعيشوا تحت شمس العصر في ظل كيانات تسمح للعقول بالتفكير الحر، وللإرادات الشخصية بالتحقق وفق صيغ تتيح الفرص على نحو متساو بين أفراد أحرار متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون، وتحت سماء لا تعتقل الأجنحة وفضاء إنساني لا يحجر على العقول.
هو ذا ما اهتدت به مجلة “الجديد” وانطلقت من أجل نشر الوعي به لدى قرائها المتزايدين، وهو ما ستواصل التطلع إليه وتسير على هديه، بحماسة أكبر، بينما نحن نودع عاما ونستقبل آخر، في ركاب مغامرة ثقافية طليعية بوصلتها، تؤشر أبدا جهة المستقبل.
لندن في ديسمبر/كانون الأول 2018