سيّدات زحل يرثن الفردوس
منذ أن فتحت لطفية الدليمي ممرًا إلى أحزان الرجال (مجموعتها القصصية الأولى الصادر في العام 1970)، وهي تحاول تحسس مواطن الأثر الذي تتركه تلك الأحزان على أرواح النساء من بنات جنسها. ليس فقط على الصعيد الواقعي بواسطة نشاطاتها الكبيرة والكثيرة في مجال حقوق المرأة والانتصار لها وإبراز مظلوميتها ورصد مكامن الحيف الذي تتعرض له، لكن أيضًا على صعيد الأدب والإبداع، فكتبت عن “عالم النساء الوحيدات” والفردوس الذي سترثه النساء في “من يرث الفردوس” وعن” سيّدات زحل” اللواتي يسبحن مثل الأقمار في الكون الفسيح.
في الواقع لم ينحصر عطاء وبحث ومنجز لطفية الدليمي في مجال حقوق المرأة وكل ما يسلّط الضوء على إنسانيتها، في العطاء الأدبي والإبداعي والنشاط الاجتماعي الفاعل، بل تجاوزه إلى ما هو بحثي وتاريخي، فدرست أوضاع المرأة المبدعة في حضارات العراق القديمة، وجدل الأنثى في الأسطورة ونفيها من الذاكرة، كما كتبت عن حريّة المرأة في ظل أنواع الإرهاب والعنف السياسي والعائلي والاجتماعي وعنف الاحتلال.
في توصيف ظاهرة لطفية الدليمي الثقافية وملامحها وأسباب تبلورها في حالة المثقف الفرد، وكيف يمكن أن يشكّل ظاهرة من نوع ما، مثل الكتابة عن لطفية الدليمي. ليس الكاتبة والمترجمة والناشطة المدنية، بل الظاهرة الثقافية المتواصلة والمتجددة، لجهة إصرارها على الحضور الفاعل، سواء في الصحافة الثقافية أو التأليف الإبداعي والترجمة والإعداد والمتابعة أو حتّى في الحياة الثقافية.
أدبيًا تنتمي لطفية الدليمي إلى الجيل الوسط بين الستينات والثمانينات في العراق، وهو جيل طالما شغل حيزًا مهمًا وجدليًا في المساحة الإبداعية العراقية، بعد أن أسّس رؤاه وامتلك وعيه النقدي وهويته الإبداعية في أعقاب متغيرات كبيرة ومتداخلة من تاريخ العراق السياسي المضرب، فحول اختلافاته وتصادماته الفكرية إلى وقود ومحفّز لترسيخ عطائه وتنوعه وإثراء تجاربه الخلاقة.
وفي خضم تلك التجارب المتلاطمة لهذا الجيل المهم، كان على لطفية الدليمي، ابنة المدينة الصغيرة الوادعة شرق العراق “بهرز”، المعروفة بخصب أراضيها ونضج فاكهتها وتنوعها وثرائها الطبيعي، أن تبحر في قارب رقيق بمجاذيف غضة لتشق لها طريقًا مختلفًا، من دون أن تتعكز على حقيقة كونها شابّة جميلة جديرة بالرعاية والدعم والمساندة، بل كندّ عنيد لأقرانها من أبناء هذا الجيل، لاحظ أن أحدًا من النقاد الذين تصدوا لتجربتها الإبداعية، لم يصنفها في خانة الأدب النسوي، بل صُنّفت دائمًا في خانة الأدب العراقي المحض، على الرغم من أن تجاربها الإبداعية طافحة بكل ما يمت للأنوثة وإرهاصاتها بصلة، ويستند ويؤثث عوالمه بالدرجة الأساس على تجارب وتفصيلات تلك العوالم.
تاريخيًا، لم تشهد الحياة الثقافية العراقية، شأنها بذلك شأن الحيوات الثقافية الأخرى في العالم العربي، الكثير من التجارب النسوية البارزة التي تنتمي للأدب حصرًا وليس للنسوية الأدبية، أقصد أن تفرض المرأة الأديبة تجربتها على الواقع الأدبي في بلد ما من دون تلك التسهيلات النقدية المتعارف عليها اليوم على صعيد النفاق المجاملاتي في هدي من هيمنة التواصل الاجتماعي، فكانت تجربتها في وقتها، علامة بارزة في الحياة الاجتماعية العراقية والبغدادية، تحديدًا في تلك الحقبة التي شهدت الكثير من التجارب البراقة للنساء المبدعات، في مجال قاعات الفنون وتقديم البرامج التلفزيونية والإذاعية وتصميم الأزياء وغيرها، وهو ما شكّل في مجمله الحياة الثقافية الثرة والرخاء الإبداعي الفني والأدبي، فلمعت في سماء البلاد أسماء بمثابة رموز ثقافية وإبداعية، من مثل ابتسام عبدالله ووداد الأورفه لي وشميم رسّام وليلى العطّار واعتقال الطائي وخيرية حبيب وغيرهن الكثير ممن شكّلن الطابع البرّاق للحياة الثقافية البغدادية في حقبة زاخرة بالعطاء من تاريخ العراق، ولم تكن لطفية الدليمي لتشذ عن القاعدة التي استندت إليها تجارب أولئك النسوة لجهة عدم التعكز على النسوية وترسيخ التجارب الشخصية بالأدوات الإبداعية المحضة، لولا أن لطفية الدليمي قد خاضت مخاضًا صعبًا لا تعمل التجارب فيه وفق نسبية معينة للنجاح، ألا وهو الأدب.
تعود معرفتي بالكاتبة إلى أيّام البدايات الوجلة، عندما كنا نحمل نصوصنا المرتبكة إلى مجلة الطليعة الأدبية التي كانت تُعنى بأدب الشباب آنذاك، فكانت تستقبلنا بابتسامتها المشرقة وقَصّة شعرها القصيرة دومًا وأناقتها اللافتة. كان الأمر أكثر من كونه مجرد امرأة جميلة طافحة بالإشراق، تجلس في مكتبها وتقرأ قصصنا. وبالنسبة إلى شاب حيّي قادم من الجنوب الفقير يتعثّر بتطلعاته البكر، كان الأمر أشبه باجتياز عتبة التردد ودخول عالم النّور المعطّر. وكان النشر في المجلة، التي نطالعها في مدننا البعيدة، بمثابة تذكرة مرور لعالم الإبداع ممهورة بالحضور العطر لتلك السيِّدة.
حتى عندما قرأت أولى رواياتها “عالم النساء الوحيدات” التي وقعت بين يديّ صدفة، لم يتزعزع إيماني بحضورها واختلافها وعمقها، بل ازدادت تلك الصورة التي أحتفظ بها وضوحًا وترسّخًا. وعلى الرغم من أنّني لم ألتقِ بها كثيرًا في بغداد، إلاّ أن عالمها الروائي المشيّد بين “عالم النساء الوحيدات” و”سيِّدات زحل”، طالما شكل لديّ مخاضة إبداعية شاسعة قلّما نجد لها مثيلا. على الأقل عندنا في العراق، حيث بقي أدب المرأة متواريًا نسبيًا وحييًا.
في الواقع لا أستطيع أن أسبغ أيّا من تلك الصفات على أدب لطفية الدليمي المختلف والعميق والخارج عن إطاره الزمني ومناخه الاجتماعي، ذلك الأدب الذي خدمته شخصية الكاتبة وحضورها القويّ في أن يتفرّد بهذه الطريقة المخالفة لما كان سائدًا في العراق. لقد لعبت عوامل عدّة في تحول الكاتبة إلى ظاهرة ثقافية ومعرفية ما زالت تترسّخ ملامحها عاما بعد عام، منها أن أدبها لم يقتصر على نمط معين من الكتابة الإبداعية، فهو متنوع وساع إلى التجريب واستغلال الممكنات بعيدًا عن التنميط والتجنيس، ومنها أن ثقافتها الواسعة وإجادتها للغات أخرى مهمّة مهّدت لها الدخول إلى عالم الترجمة الواسع والمهم والحيوي، كما أن تجربتها الشخصية في السفر والغربة والتغرّب، وما عانته ككاتبة امرأة في سِفر المدن الغريبة قد منحها رؤية واسعة وذاكرة متخمة بالصور والمواقف والتناقضات، لتتحول بعد كل ذلك إلى كاتبة ومترجمة وباحثة يشكل حضورها المتصاعد في المشهد الثقافي العراقي والعربي ظاهرة معرفية من نوع ما.
فأن تكتب رواية تصبح روائيا وأن تكتب قصة تصبح قاصا، لكن أن تكتب رواية وتترجم وتبحث في مناهل المعارف وتواصل حضورك في وسطك وتؤثر فيه وتبتكر الرؤى والأفكار، فأنت ظاهرة ثقافية تتجاوز كيان الكاتب بذاته إلى المحيط الثقافي الأوسع.
فقد استطاع البعض من المثقفين العراقيين القفز على واقع التشتّت وتفتّت المشهد الثقافي العراقي، ليشيّد محيطا ثقافيا فاعلا في البلد الذي يعيش فيه، متناغما مع المحيطات الشبيهة المتناثرة هنا وهناك مثل بقع ضوئية وامضة لتحكي قصة الارتقاء والإصرار على الفعل الثقافي الذي تحوّل إلى ما يشبه التحدي والمراهنة على عدم موت الثقافة والإبداع العراقي بإزاء ما ينكشف من تفصيلات مهولة لمخطط النيل من كل ما هو وطني وأصيل في العراق اليوم.