سُلطة السَّحَرة
يُعدُّ السحر أداة الخديعة الكبرى، ففي السياق الإنسانيّ العام كان للسحر قوته في السيطرة أو الاستدعاء أو التدمير، ويقال لغةً إذا خيّل الساحر الشيء على غير حقيقته؛ فقد سَحَر الشيء عن وجهه أي صَرفه [1]، أي ما السحر إلّا ممارسات قائمة على اختلاق ما يُشبه الحقيقة. وقد كان السحر هو قوة الإنسان الأُولى في مواجهة الغيب والاطمئنان إلى المجهول، ويقول في ذلك الباحث جيمس فريزر “إن التشابه جوهريّ بين حاجات الإنسان في كلِّ زمان وكلِّ مكان… فالحركة الفكرية العليا بقدر ما نستطيع استقصاءها، كانت بمجملها تتجه من السحر إلى الدين إلى العلم، ففي السحر اعتمد الإنسان على قدرته الذاتية لمواجهة المصاعب والأخطار”[2].
وفي عصرنا الحديث، مع النهضة الفكرية والعلمية، واستبعاد كلّ ما هو قائم على الوَهم، لا زال للسحرِ وطقوسه بعض الممارسات الهامشية، التي لها هالتها المُريبة والغامضة في المُجتمعات.
يَتَجلى السَّحرة في صحراء الشاعر العُمانيّ سيف الرحبي بأشكالهم المُريبة، وسمات شخصياتهم الحادَّة، ووهج سحرهم المؤثر، فهو يُصادفهم في رحلته الصحراوية بصحراء الربع الخالي، هذه الرحلة المليئة بالغرائب والتيه وضبابية المسير. يبدأ اللقاء الغرائبي الأول مع ساحرة كانت ترعى أغنامها، ساحرة تهذي وتغوي:
“ليس بيني وبينكِ
أيتها الساحرةُ الولودُ
إلا هذه الكثبانُ من الرمل
وهذه الأزمنة المكدّسة أمام بابي،
تقولين كلاماً لا أفهمُه
وتقولين هذياناً، أفهمُه
بسرعة سقوط النيزك على رأسي.
أيامٌ تتلوها أيام،
ونحن نُحدّق في هذا الوثن،
الممدّد على أرض الأنبياء
أسوقُ قطيعك بعصا الراعي
أمامي تبكي رغباتُكِ
وتنفجرُ كأنَّها قاب قوسين أو أدنى
من القيامة.
نصالٌ تبرقُ في ليل
كأنَّما لم أكن عائداً من أسفارٍ سحيقة
حين ارتميتُ في ظلالكِ الثكلى”.[3]
ينفردُ المسافرُ بالساحرةِ الغَاويةِ وسط الصحارى والجبال، في مواجهةٍ لا مفرَّ منها، فيقف أمام شخصيةٍ حادةٍ وجامحة، إذ يحاول خلق سياقٍ بينهما، بالحوار وتفكيك طلاسمها، ومُلاحظة إيماءاتها، فتجمعهما اللغة الأصعب؛ الهَذيان “وتقولين هذياناً، أفهمُه”، لكنه يتورطُ بإصرارها، بعد أن بدأ إغواؤها بالتكشّف، فهو تحت تهديدات عديدة، التهديد النفسي في رغباتها الجبارة وغير المتوقعة كعلامات القيامة، العلامات التي تُفاجئ وتتوالى وتُفجع، والتهديد المادي بالتلويح بالنصال إذا حل الظلام الدامس وعمّ السكون، ليصبح المسافر أمام خوفٍ وذهولٍ وخضوع لا بد منه بين صراعي الرغبة والموت. ويُبين هذا المشهد أن حساسية الساحرة تظهر في عواطفها الحادَّة والمُتضخّمة “تبكي رغباتكِ.. تنفجر/ظلالكِ الثكلى” مع وضوح البعد التراجيدي في التعبير عن الذات، ونزعتها في الاستحواذ والسيطرة.
يُكمل المسافر رحلته في هذه الصحراء:
“وكما تكرُّ الفصولُ على الصحراء
في شكل ذئبٍ وحيدٍ
وفي شكل مئذنة،
تنحدرُ الرمالُ من الأفق الشرقيّ
المُحاذي لبلاد الأحباش
حيثُ السحرةُ ينادون بعضهم
بأسماءٍ مُستعارة.
لا أكادُ ألمحُ جزيرة النخل
قرب مهبط العُقبان.
لقد فتكتْ بها الرياحُ الهوجاءُ
وأمَّها البلى
كديار أحبةٍ غربت للتوّ.
أسمعُهم ينادونني باسمي المستعار،
أن اغربْ عن وجهنا
لستَ منّا ولسنا منكَ.
وقد ناديتُهم قبل ذلك
أمواتاً وأحياء
أن اغربوا عن…
لكنّهم ظلّوا يحدّقون في جثّتي
طوال أزمنةٍ، ويغرزون مخالبهم العمياء.
وقالوا لكَ نغلُ السُلالةِ
وظلّوا ينثرون الإشاعات حول قبر جدّك” [4].
يمشي المسافرُ نحو المجهول في صحراءٍ تغيَّرت ملامحها، ليصطدم في طريقه بثلّة من السَّحرة، والذين قد أنكروا وجوده غريباً ودخيلاً بينهم، ورفضوه رفضاً تاماً “اغرب عن وجهنا”، ثمَّ هاجموهُ وعابوا في سلالتهِ. ليتأكَّد في مشهد اللقيا؛ وهج الخوف من قدراتهم الخَارقة على التدمير، ومن أسلحتهم النفسية في استفزاز الشك في ذات المسافر، فأعزّ ما يفخر به العربي سلالته، وأشد ما يثير حفيظته الطعن في دمهِ. ثم تظهر في المشهد محاصرتهم له واستحواذهم عليه “يُحدّقون في جُثَّتي/يغرزون مخالبهم” ليصرخ بهلعٍ “أن اغربوا عن..” أو “عَنّي” لكن هول الموقف أخرسه، ففي الحين الذي كانت الساحرة تصبو إلى الإغواء لأبعاد تتقاطع مع متعة السيطرة وقوة التحكّم، تشتغل ثلة السحرة هذه على تقنيات الإخضاع والزعزعة لأهداف دفاعية وسلطويَّة تُثبت مهاراتهم الخارقة.
وأمام سطوتي الاستحواذ والتهديد، واسترجاع صور القتلى الذين صادفهم المسافر في طريقهِ الصحراويّ؛ تبدأ الشكوك بالتشكّل، والتنبؤ بالموت المُحتمل، يُكمل قائلاً:
“ينادونني باسمي
أن اخلعْ وردة رأسك،
فأنت على أبواب الربع الخالي…
قتلى يملأون الصالة
ويشاركونني السرير وغرفة النوم
حتى قنينة النبيذ.
أراهم يتآمرون في قعرها
ويضحكون،
مُحدّقين في جثّتي
بعيونٍ، يبدو من أشكالها، أنَّهم قدموا
من كلِّ جهات الأرض.
عيونٌ ملؤها الخيبةُ والتّذكر
وكنتُ أسمعُ نداءهم منذُ الولادة
يأتيني عبر قوس الأثير
لطفولةٍ جبليّة.
أسمعُ غناءهم الصاعد من الأجداث
طيورٌ بيضاءُ تخبطُ سقفي.
طيورٌ عاتيةٌ وأليمةٌ:
تلك أرواحُهم في سفرها الليليّ
نحو الأحبة.
ينادونني باسمي
أن ارحل من واحة الجنرالات
فمثلُكَ ليس نبياً
ولا أوتي رأسَ الحكمة” [5].
يُصابُ المسافر بالمسِّ، فيتوهم ويهلوس، إذ يشهد على سطوة السحر في كلِّ الزوايا، فيرى قتلى الصحراء يضحكون ويتآمرون ويغنون، مُستمتعين بهذا التمثّل، وتعذيب الدخيل وإثارة الفزع في روحه. ويقف المسافر أمام هذه الوهج السحريّ الذي يكابده، لينظر إلى الجُثث بتمعّن، مُستقرئاً في عيونهم معاني الخيبة والغُربة، فتنقلب حالة الاستنكار إلى ألفة، ليستنبط وجود صلة وثيقة معهم، هؤلاء القتلى الذين لهم اتصال بالمكان ووحشيتهِ، والجبال وسكانها، فهم أهل المكان الأوائل، ضحايا الصحراء والمجاعات والسفر، أو لعلهم ضحايا السحرة المتربصين بالأغراب.
وبعد ضبابية الرؤيا، والمس السحريّ، يطالبُ السحرةُ المسافرَ بالرحيل قسراً، ينادونه باسمه الخام.. لأنه الغريب الذي لا نبوة عنده ولا حكمة. لتنتهي رحلة المسافر معهم بعد أيامٍ أحاطها الفزع، واستحوذ عليها القلق، وبانت فيها مشارف حتفه، فينجو من محطة الهلاك، مُنتقلاً إلى تيهٍ جديد في صحرائه الهائلة:
“ها أنت، في البيداء،
ضاربٌ كبد الجمال التي فقدت صحراءها
غارقةً في الوحل،
الحقائبُ الجاثمةُ كغربان البين
في انتظار قافلة لن تأتي” [6].
ليتضح في رحلة المسافر هذه، ملامح سحرة الصحراء الوحشيَّة وطبائعهم المُستبدّة، هؤلاء الأقوام المنعزلون الذين إذا استفزَّهم الغريب فقد كتب على نفسهِ التهلكة، وإذا استفردوا به استمدّوا من هلعهِ سلطتهم، وتحقق بذلك كيانهم الجَبروتيّ الخارق، ليصبحوا هم سَدَنة الصحراء وحُرّاسها.
هوامش:
[1] ابن المنظور، لسان العرب، ج4، مادة (سحر)
[2] عبدالله هرهار: سلطة السحر بين التمثل والممارسة، مجلة الثقافة الشعبية، مج2، ع5، 2009م، ص: 26 و27.
[3] سيف الرحبي، الأعمال الشعرية، ج1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط1، 2018م، ص: 279 و280.
[4] الأعمال الشعرية: ص: 284 و285.
[5] الأعمال الشعرية، ص: 286 و287.
[6] الأعمال الشعرية، ص: 287.