سِيدي
“إلى جلال نعيم.. صديقي”
” إنك كنت على نحو ما تراقب العالم من نافذة“
أرنستو ساباتو
لم يبق لـ”سِيدي” من متع الحياة غير تلك الجولات اليومية المتكررة، والتي ينجزها برغبة عادة وبدافع الضجر في أغلب الأحيان. جولات تتكرر كما لو أن العالم أجمع ينتظرها.
كل هذا بالطبع إذا سمح له قلبه المتعب بذلك ومزاجه الصباحي، خاصة فيما لو حظي برؤية خاطفة لجارته المشرقية من كُوة شباك حمامه الضيقة، وهي تمُدّ بذراعها الأسمر إلى أبعد حد يصل بها لنشر الغسيل أو لَّمّه. أحياناً إذا ما خدمه الحظ بمساعدة نور الشمس أو ضوء المصباح أن يلمح وجهها وعينيها القلقتين وقد لفت شعرها بمنشفة أو منديل بألوان باهتة يتراءى له مثل بساط منقوش بالورود فيما لو ند ثغرها عن ابتسامة تنعش روحه حتى لو لم يكن هو المقصود بها حتماً.
أقول إنه لم يبق له غير تمرين الصباحات المتكرر بعد أن اجتاز عمر التقاعد بسنين وأصبحت أيامه شبيهة الواحدة بالأخرى. أما اليوم فقد امتلأ سعادة لا حد لها إذ نجح ـ بعد خمسة أيام تامة من الغياب ـ برؤية محيا جارته الشابة من الطاق المقابل لشقتها والتي تبعد عن ظهر جدار بنايتهم ما مقداره حيز مستطيل يحتله سوق خضار شعبي أسفل البنايات المتراصة، وقد غُطي سقفه بقرميد متآكل لم يبق من حمرته إلا القليل بعد أن عاث الزمن والأمطار والأوساخ المتراكمة وذرق الطيور بسطحه منذ وقت بعيد.
اليوم وقد حاز على مراده، فقد امتلأت عروقه بجرعة دماء جديدة مما شجعه على النزول إلى الشارع يدفع نفسه دفعاً وكأنه محرك سيارة عاطلة تحتاج للتشجيع والدعاء والتفاؤل أيضاً.
لم يأبه لتحذيرات طبيبه الأخيرة أن يريح جسده قليلاً بعد أن وقع ذات ظهيرة على أرضية الشقة، وقد شعر وكأن جموع أفراس جامحة تدوس بكل قوتها على صدره وتمنعه من استنشاق الهواء لثوانٍ حسبها ساعات أو النهاية المنتظرة، تلك التي يحدثك عنها الجميع دون أن يتعثر بها أحد قبل اليوم.
بعد أن غادر شقته ومر ببنايات الحي حتى تقاطع شارعين عريضين، تنبه “دون سِيدي” فيما لو أدار رأسه ناحية اليسار سيكون قطعاً في مواجهة شارع الفنانين، وسيتقابل كالعادة بصورته معكوسة في مرآة محل الزجاجيات عند ناصية الشارع بالقرب من محل تحفيات المسيح المجاور لكنيسة أبناء الرب. ثم من هناك سيهبط قدماً حتى شارع دون كيشوت قبل أن ينزل درجات السلم الحجرية الـ68 درجة «كان يستمتع بعدها في كل مرة وكأنه يريد التأكد من عدم اختفاء إحداها!»، ليكون في مواجهة متنزه أطفال بلا أطفال سوى من ألعاب خشبية منزوعة الأصباغ ومثبتة على قاعدة إسمنتية يعلوها الرمل، وعادة ما يكون على مسطبتها متشرد نائم أو واحد يشرب البيرة أو يريض كلبه.
عند تلك النقطة وحسب سيلمح بعينيه الجادة العريضة التي لا يُتعِب نفسه بترديد اسمها لأنها تسمى بلقب أحد جنرالات الحرب الأهلية، لذا كان يحدث نفسه دائماً “من جادة هذا السفاح، بعدها سنرى؟”. ما أن يقرر المضي بمشواره لأن قدميه هذا الصباح تساعدانه على المشي لمسافات أطول، سيقف ليتنفس ملء رئتيه قبل أن يدير جسده إلى وجهته التي اختارها يساراً أو يميناً.
وجهتان لا غير «الحق أنه كان يخطئ بالاعتقاد، ذلك أنه يستطيع بسهولة العودة إلى الخلف والرجوع إلى البيت وهو ما لم يفعلها ولا لمرة واحدة»، يختار أيهما أجدى لتمرينه اليومي وأيهما أكثر نفعاً للمرور بجاداتها وشوارعها وبناياتها وباراتها المتخمة بالبشر، والتي حفظها عن ظهر قلب منذ سنين هي جل عمره الذي أفناه في مدريد.
أغلب المرات عندما يشعر أنه بكامل قواه الجسدية والمعنوية «كما عليه اليوم» وممتلئاً ببهجة إضافية «ربما بسبب تحسن آلام الصدر التي تؤرقه مؤخراً» سيتجه بالتأكيد إلى اليمين وهو الطريق الأطول، إذ ينقله من شارع دولثنيا مروراً بعشرات الشوارع التي لا يتمعن بأسمائها بل يعرفها لكثرة مروره فيها، ليوصله حتى مركز المدينة قرب الساحة المدورة لتمثال ربة الآلهة ثبيلس، على بعد شارع واحد لا غير ينقله فيها حتى الكيلومتر صفر في قلب المدينة تماماً.
على الرغم من معيشته للسنوات العشر الأخيرة في جنوب مدريد، إلا أنه دليل سياحة متمرس يعرف معالم المدينة من مركزها وحتى أطرافها الأربع. الجنوب يعرفه بحكم معيشته فيه، والشمال لعمله هناك لوقت طويل، أما الشرق والغرب أو المركز فيجدد لقاءه فيها ما أن يقرر السفر إلى مدن إسبانيا الأخرى، وهذا ما كان يفعله في شبابه أكثر منه اليوم.
الحقيقة إن دون “سِيدي” قد مرّ بأطوار عمره بسرعة فائقة، ولم يدرك مضيها إلا عندما قرب من سن التقاعد. آنذاك أدرك ما كان يراه في عيون الصبية وهم يتركون له المقعد في الباص أو في المقهى، وأحياناً يواجهونه بابتسامة مشوبة بحياء الشباب وهم يقابلون شيخاً مسناً. ربما لهذا السبب، أكثر ما يعجبه في جولاته المتكررة هي وقوفه لدقائق طويلة عند واجهة محل الزجاجيات والمرايا. إذ بدلاً من أن يلمح عبرها شيب شعراته القليلة وصلعه البارز، كانت المرايا المقابلة التي يتطلع فيها بإصرار تمنحه متعة تعدد الوجوه وتغيرها. يمر عليها واحدة بعد الأخرى حتى أنه لم يعن بتصفيف ما تبقى من شعرات رأسه الأصلع لأنها في عمق المرايا تتحول إلى لطخات متفرقة تلتم فيما بينها مذكرة بشعره القاتم السواد والطويل في سني شبابه. كانت تعجنه عجناً بلحظات لتصَبه في صور سريعة توقظ في باله أيام الصبا، وبتحركه إلى اليمين أو اليسار، تنفخُ في رأسه ما يشبه طاقية سحرية متعددة الأشكال والصور. لحظات وتقزمه حتى يعود إلى طفولته، فيهرع مسرعاً في طريقه دون أن ينظر خلفه قبل أن تلفظه المرايا في النهاية بهيئته الحقيقية لشيخ متعب ومتعثر الخطوات.
عند الكيلومتر صفر وسط العاصمة، يلتقط أنفاسه متمتعاً براحة على أحد المساطب الفارغة قرب النافورة الطافحة بمياهها، غير بعيد عن تمثال الدب رمز المدينة التي كانت غابة ذات يوم بعيد، وأقرب من حصان الملك كارلوس الثالث وقد صبغت صلعته هو الآخر ذروق الحمام الصاخب والهوام الطنان ووسخ السنين المتراكم. بعدها يقوم بجولة لا على التعيين مراقباً البشر والمحلات لينتهي عند مطعم بحريات مقلية ليأكل سندويشاً بسيطاً مع قنينة عصير أو مياه معدنية ليعود بدربه حتى متنزه الرتيرو. هناك عادة ما يلتقي بصديقته “سلطانة”. ليقضي معها وقتاً بشرب القهوة أو كأس بيرة والتفرج على العشاق المستلقين على العشب غير مهتمين بما يدور حولهم، أو مراقبة السياح في رواحهم ومجيئهم وكأنهم في حفل تنكري لا نهاية له.
لم يكونا معتادين على الحديث الطويل والثرثرة لأجل تحريك اللسان لا غير، فهما يعرفان بعضهما منذ أربعين عاماً ولا شيء جديد في حياتهما غير أن يطمئن أحدهما على الآخر بأنه ما يزال على قيد الحياة. يرافقها بعد ذلك حتى زاوية بيتها في الحي المجاور للمتنزه، وهو متأهب لمساعدتها فيما لو التوت لها قدم أو تعثرت بحجر، خاصة وأنها لم يعد بمستطاعها تحريك جسدها الممتلئ إلا بمساعدة عكاز من خشب مصقول أوصت عليه أفضل نجار في المدينة بدلاً من أن تحمل عكازاً طبياً ترفضه بغنج شابة حسناء رفضاً قاطعاً.
لقاؤهما الأسبوعي هذا ينهيانه بقبلة طويلة على الخد مع وعده لها ألا يتأخر برؤيتها حتى تطمئن عليه، خاصة بعد سقوطه منهاراً على الأرض منذ شهرين ومكوثه في المستشفى لأيام، خرجَ بعدها مجبراً على حمل ميدالية طبية معلقة في سلسلة يحملها على عنقه ومتصلة بنظام مراقبة في وحدة الأمراض القلبية في مستشفى المدينة العام. الميدالية منذ السقطة الأخيرة هي علاقته الدائمة بالأطباء ووحدة المراقبة. وهي وحدة مراقبة ليل نهار، حتى أنهم يحتفظون بمفتاح احتياط لشقته فيما لو احتاجوا للدخول وإسعافه في حالة سقوطه مجدداً، خاصة لحالات مثل حالته لرجل عازب وحيد دخل في مرحلة عمره الثالث منذ زمن. “سِيدي” الشيخ العازب العتيد لم يعترض على المراقبة بعد أن عرف بخطورة حالته، إذ كل ما عليه في حال الشعور بأيّ أعراض سوى الضغط على زر وسط الميدالية ليتصلوا على هاتفه فوراً وبلا أدنى تأخير ومن ثم الوصول إلى شقته وإسعافه فوراً لو تطلب الأمر ذلك.
لكنه مع حمله للميدالية الواضحة للعيان، كان يرفض برأسه تلميحات صديقته سلطانة عندما تراه شارد الذهن ومتعباً ولم يحلق لحيته الشائبة المبعثرة لأيام، لذا كان يجيبها بأنه لم يعد ذلك الشاب الذي تعرفت به هناك في المغرب، لكنه ـ يصر بشدة ـ مازال يحتفظ بصفاء ذهنه وقواه الجسدية.
– لا تكابر يا عزيزي، لم نعد في مثل تلك الأيام… لا أريد منك سوى أن تهتم بنفسك وأن تستمع للأطباء.
– لا تقلقي يا عزيزتي…
ثم يبتسم وهو يتلفت ليلمح تعابير وجهها الذي لم يفارقه الجمال حتى وقد تجاوزت السبعين من عمرها.
– لا تقلقي يا حبة العين، ستكونين أول من أخبره بنبأ رحيلي فيما لو حصل ودقّ عزرائيل بابي.
ثم يفترقان وقد علت وجهيهما ابتسامة تواطؤ مرّ على ذكراها ما يوازي شباب عمريهما تقريباً.
ذلك اليوم عاد راكباً الحافلة، فلم يعد بمقدوره الرهان على ساقيه. شعر بالإرهاق وقرر أن يمضي إلى البيت بأسرع وأسهل الطرق. ثم إنه بشوق لرؤية طيف جارته قبل أن يتناول أدويته وينام في فراشه متوسلاً آلهة النعاس المجيء لزيارته.
شعر بالبناية هادئة لا أثر لصوت أو صراخ لجار من الجيران. وهي حتى أكثر هدوءًا من وحدة العناية الطبية في مركز علاج القلب والتي نام في ردهاتها لأيام طويلة حسب فيها أنها ستكون نهايته هناك.
فكر أن يريح معدته من عشاء ثقيل، تناول طاسة لبن بطعم الدراق مع قطعة خبز محمصة بحجم إصبعين، بعدها شرب أدويته بأصنافها الثلاث وتوجه بعدها إلى الحمام ليغتسل وينظف أسنانه ويقضي حاجته. لكنه ما أن دخل الحمام وقد ترك نافذته مشرعة منذ الصباح لتهويته حتى لمحها هناك وكأنها كانت بانتظاره. أو هذا ما تمناه حقاً حتى لو لم يكن ذلك حقيقة. لمحها هناك في زاوية من حمام شقتها. لم تكن مكترثة بأحد، تمشط شعرها بتأن وقد وثقت بالليل وستره.
اقترب دون “سِيدي” قليلاً من شباك الحمام ورده ببطء مع تركه مشرعاً عند زاوية واحدة يستطيع فيها مراقبة تحركات جارته السمراء في انشغالاتها بشعرها المبلل وهي تعيد عليه بيدها المنشفة لتلمه بدفعة واحدة وكأنه قبة متلألئة بارزة لطوله وثقله. كانت المرة الأولى التي يلمحها فيه بكامل جذعها الأعلى وقد عرضته للفضاء المحيط لسقف السوق التحتي. في تلك المرات الأخيرة لم يكن يلمح منها غير عين قلقة أو يد ممدودة في الفراغ أو ابتسامة عابرة ليست موجهة له وهي تنطلق بحرية في حمام شقتها.
شعر “سِيدي” وهو يراقبها من طاق حمام شقته وقد أطفأ النور حتى لا تلمحه وتختفي فوراً، بأن صدره على وشك الغليان. راح يهتز بشدة ولكنها اهتزازات مختلفة عن تلك الأخيرة التي حملته حتى مركز عناية مرضى القلب. شعر بجسده يرتجف وفورة قوية تجتاحه. حرارة عميقة تهبط من صدغيه لتجتاح بدنه كله لتحمله حتى المغسلة المجاورة. طرحَ بجامته إلى الأسفل وراحت أصابعه تلاعب خيالات ظن أنها لن تزوره مطلقاً وقد نسيها منذ زمن.
بينما كانت الجارة تنحني على حبل الغسيل وهي تنظر يميناً وشمالاً لتتأكد من خلو الفضاء، وترفع برأسها إلى الأعلى مراقبة نجوم السماء البعيدة، كان صدرها هو الآخر يترجرج ويهتز ويختل توازنه ويندفع إلى الخارج ببياضه المشرب بالسمرة، لتعاود يدها دسه مجدداً في الروب وهي تتلفت برأسها خشية أن يكون قد رآها أحد من الجيران.
لم ينتظر “سِيدي” أكثر من تلك الرؤية ليشعر بثقل أعوامه المتأخرة ينزاح من جسده لينطلق شبيهاً بحشرجة تأوه وأنين وزوغان عيون، ليتدفق ماؤه مرافقاً لمياه الحنفية على المغسلة وبلاط الحمام وعلى البيجامة بمربعاتها الملونة وكذلك على الأصابع المرتخية الآن.
تلك الليلة نسي دعاءاته لآلهة النوم، لأنه قام دائخاً مسترخياً من قعدته على بلاط الحمام، ودون أن يغتسل، تمدد على فراشه وأغلق عينيه على الصورة الوحيدة العالقة في باله لجارته الشابة وهي تبتسم له بينما شعرها ينقط بمياهه ويبلل أحلامه تلك الليلة وحتماً أغلب الليالي القادمة.
نام تلك الليلة بلا قدرة على الحراك، منكفئاً على مياهه المقذوفة. لم يشعر بالقرف ولا رغبة مغادرة السرير. شعر وكأنه يسبح في مكان قصي محاط بينابيع مياه طبيعية أو مصبات أنهار لا حدّ لها. من هناك كان يلمح جارته الشابة وهي تغسل نهديها، تجلس على صخرة وسط النهر، بينما ماتزال محافظة بعناية على لفة شعرها بشال أو حجاب أو منديل مطرز بألوان ربيعية لا تنقشع.
فكر لو أن الليلة ستكون رقدته الأخيرة ولن ينهض بعدها، فسيغمض عينيه بكل سعادة وبلا أيّ مقاومة، وقد علت وجهه ابتسامة لا مثيل لها.