شاكر لعيبي يقدم مقاربة عربية لشعرية الأمثال الصينية
في كتابه الأحدث “معجم الأمثال الصينية، مقاربة عربية للشعريات الصينية”، الصادر عن دار الفيصل الثقافية، يرى لعيبي أن الأمثال الصينية تعبِّر عن نظام من القيم الأخلاقية والاجتماعية والمطبخية والاقتصادية، وتبدو ظاهرياً كأنها تقرّر حقيقة بديهية لا تستوجب العناء، لكن البداهة هي جوهر وجودي يُجبِر العقل على التعرّف إليه بصفته حقيقياً أو واقعاً من دون الحاجة إلى برهان، وبالتالي فإن الأمثال الصينية لا تتساوى في قيمتها، بعضها براغماتي وبعضها عالٍ رفيع وبعضها عادي مألوف، وما بينهما فسحة للتصورات المحلية الصينية عن الأشياء والاجتماع البشري من مثل “الذهب ليس بخيلاً، لكن البخيل يمتلك الذهب”، “لا تنتظر من الآخرين ما لست قادراً على وعدهم به”، “يصعب الحصول على صديق في عام، يسهل فقدانه في ساعة واحدة”.
التوقف عند العنوان
قبل الولوج في عالم الكتاب لا بدّ من التنويه أنّنا أمام عمل يبدو في ظاهره إعادة إنتاج وتجميع للمقولات التي استخدمتها الثقافة الصينية كأمثال، إلا أننا وبمجرد الإبحار في هذا العالم الواسع سنلمس الجهد المبذول في عملية بناء الكتاب الذي امتد ما يقارب 200 صفحة، وضع فيها لعيبي خلاصة المقاربات العربية للشعريات الصينية.
في التوقف عند العنوان فإنّ المترجم يؤسّس لفلسفة شعرية للأمثال الشعبية التي حدثت ضمن مناسبات محدّدة أو نتيجة ارتكازات تاريخية أو إثنية أو اجتماعية فيعمل على خلق مقاربات أسَّس لها في المقدمة التي أثار فيها خلال أربعين صفحة جملة من الأسئلة التي تشكِّل في جوهرها أساساً لأبحاث عديدة.
عن سؤال لماذا معجم الأمثال الصينية؟ يجيب لعيبي في مقدمته “لأنّ الأمثال الصينية تتضمن كثيراً من الاستعارة والحكمة في آن واحد”، من الطبيعة والصناعة “بالمعنى العميق للصناعة”، تحتوي بالأحرى على كتاب الصناعتين “الشعر والنثر” فربطُ الأمثال بالشعرية عند المترجم ينطلق من فهمه للشعريات بمعنى الخلق الفني والجمالي إلى جانب دراسة الأشكال الأدبية والأسلوبية السردية ومجازات الخطاب وعلم الخلق اللفظي، فالتعرف إلى تقاليد جمالية غير الجماليات اليونانية في الفن التشكيلي وفي الشعر يأخذ شكلاً اكتشافياً جديداً فحواهُ وضع إطار عام لتعلُّق حدود المعرفة بالشعر العربي بأساسات الشعر الآسيوي.
التمهيد النظري
في سبيل هذه الغاية يشتغل شاكر لعيبي على “التمهيد النظري لقانون القصائد” أو “الكتاب المقدس للشعر في الصين”، فـ”الشيجنغ” كما يُعرَف صينياً هو أقدم مجموعة من القصائد المعروفة في الأدب الصيني، وهو جزء من خمسة أجزاء تشكل الكتب القانونية أو المعيارية عالية القيمة والمقدسة بعيداً عن المفهوم الديني خلال حقبة عائلة هان الغربية التي اعتمدت الكونفوشيوسية أيديولوجية رسمية، لتصبح هذه النصوص فيما بعد جزءاً من المناهج الدراسية التي ترعاها الدولة، فالصينيون اعتبروا النص الشعري في ثقافتهم قضية معيارية أقرب إلى مقدّسهم وتصوّفهم، لهذا -وفق متخصصين أوروبيين- فإن اللغة الصينية هي لغة شعرية تتضمن تلقائياً الأشكال الشعرية من حيث دلالة الإيقاع والتعبير الشعري الذي يلعب دوراً جوهرياً في مجمل الأدب الصيني.
من هذه النقطة يبني لعيبي في مقدمته جسور الربط بين الشعرية الصينية والشعرية العربية، وفق مسارات متعددة تمنح القارئ فضاءات معرفية غير محدودة، ليصل إلى نتيجة أنّ النوع الشعري العربي تطوّر كالشعر الصيني عن أغنية وقصيدة وصولاً إلى مراحله المتنوعة من الناحية الشكلية على الأقل.
ولأن الصين جزء من الشرق البعيد وتحضر في الذهنية العربية أو الشرق أوسطية على أنها مرتبطة بشكل أو بآخر بالثقافة اليابانية، لجأ المترجم إلى إيضاح الفرق بين الأمثال الصينية وطبيعة شعر الهايكو الياباني، وهنا يأخذنا الكاتب نحو بحث جديد يطرح فيه رؤى مختلفة حول الهايكو ومبادئه وتطوره وارتباط الفن بمفهوم تثمين الطبيعة في اليابان، وأقتبس من الكتاب “عندما يكتب شاعر الهايكو شعراً يمس ثنائية الوابي-سابي، فإنه يحاول غالباً القبض، في آن واحد، على الجمال الزائل والخصائص المقيمة فيه، ينتج الهايكو الرفيع وضوحاً في الإدراك ويري القارئ الموضوع المعالج بدقة كأننا أمام رغبة في إصلاح أو إيقاف آثار الزمن أو الخبرة أو السن”.
تطابق الحكمة
بتفصيل مبنيّ على المعرفة يناقش شاكر لعيبي فكرة الزائل والمؤقت في الهايكو الياباني وعدم وجودها في الأمثال الصينية، فرغم اشتراك الصين واليابان في الفلسفة البوذية على نطاق واسع، فإن الوعي الذي يحكم المثل الصيني لا ينطلق بالضرورة من مبدأ المؤقت والزائل، بل من حكمة تاريخية وشعبية تتضمن قيَماً يعتقد أنها “مُطلَقة” و”أبدية” في أحيان كثيرة.
صينيون وعرب
في التقاط مثير للانتباه يشير لعيبي إلى شكل من أشكال التطابق بين حكمة الصين الوثنية وحكمة الإسلام التوحيدي الذي يتحدث عن “النبي والله”، “الخير والقدر”، يقارب هذا بتساؤل عن مدى معرفة أهل الشام واليمن والحجاز في القرنين الخامس والسادس الميلاديين لرائد الحكمة الصينية “لاو تسيو” المولود عام 604 قبل الميلاد تقريباً، يستحضر هنا عبارات واحدة مشتركة مثل “مَن يأت إلينا ولم نستدعه هو القدر”، “كلما منَح الحكيم الآخرين، امتلك”، “الكائن الذي يمكن أن يسمَّى ليس الكائن الأسمى” في تعبير مجازي عن الحكيم الربّ كما يرد في النص القرآني الكريم “ولم يكن له كفواً أحد”.
أمثال الصين وصلت إلى العرب عن الطريق الفارسي كما يرى لعيبي، وإن كانت خضعت في كثير من الأحيان إلى التحوير والتغيير بطريقة تستجيب لمزاج ومنطق وأعراف المنطقة العربية بعد نسبِها من قبَل العرب إلى الفرس أو الإغريق، لهذا يؤكد المترجم في عمله على التناسب بين الأمثال الصينية والعربية، هذا التناسب كما يراه قد يُفسِّر المزاوجة التي تشترك بها الثقافتان بين “الاستعارة والحكمة”، وقول الحكمة بوسيلة مجازية أقرب للشعر منها إلى روح المنطق النثري العقلاني، وبذلك التعبير عن مشكلات الوجود الكبرى والحياة اليومية الصغرى بأسلوب يراوح بين الشعر والنثر وبين التهجم والطرفة.
يضعنا شاكر لعيبي أمام نسخة عربية لأمثال صينية قام بترجمتها عبر لغتين وسيطتين هما، الفرنسية والإنكليزية، فالصينيون استخدموا وفرة من التعابير الإيديوماتيكية التي لا يضعها المترجم تحت مصطلح الأمثال بل يذهب إلى تقسيمات مختلفة بين التعابير الجاهزة، التعابير المعتادة، الأمثال والأقوال، تعابير مشوِّقة.
يطرح المترجم سؤالاً جوهرياً، هل يصح ترجمة أمثال الصين بتعابير وأمثال عربية معروفة مشابهة؟ خاصة أن للأمثال الصينية ما يشبهها في لغة العرب، وأتحدث هنا عن مقاربات لفظية تعتمد على المعنى الواحد، فأن يقول المثل الصيني “نستطيع الاستعانة بقلبنا لقياس قلب صديق” هو ذاته “القلوب عند بعضها”، بينما يضعنا المترجم مثلاً أمام مواجهة حقيقية مع ترجمة تنفي ما يحمله المثل الأصلي من قيمة، وأستحضر هنا ما يُقال في الصينية “في عيون العشاق ثمة خيشي وحدها”، يشير لعيبي أن خيشي هي واحدة من أربع جميلات في تاريخ الصين، بينما يرد التعبير العربي عن ذاك المثل بالقول “القرد في عين أمه غزال”!
بين الترجمة والتعريب يقدِّم لعيبي ملخصاً لما كتبه بالإنكليزية الباحث الصيني فينغ خويوين تحت عنوان “حول ترجمة الأمثال والتعابير الصينية ضمن منظور التثاقف”، حيث ثمة استراتيجيتان لترجمة التعابير الصينية، الأولى هي التدجين التي تشدد على لغة الغرض القياسية المنقول إليها من خلال محاولة تحديد التعابير المماثلة، والثانية هي التغريب “التي لجأ إليها لعيبي”، هذه الاستراتيجية تشدد على الترجمة الحرفية والحفاظ على الشكل الأصلي وعناصره الثقافية.
إن قراءة المعجم بما قدَّم له شاكر لعيبي، تضعنا في تصور عام وفي إطار حقيقي لمحاولة فهم الذهنية الصينية من خلال الأمثال التي استخدمتها تلك الثقافة، كما يفتح هذا المعجم الباب واسعاً أمام البحث الثقافي والتاريخي المتعدد حول وصول هذه المعاني إلى العربية في وقت سابق أو تلاقيها مع معاني مشابهة.