شخصية المتطرف في الرواية
تقارب الرواية الواقع والتاريخ، توثّق لعصرها بكلّ ما يعترك فيه من تناقضات واختلافات ونقائض، تعالج قضاياه المستجدّة، وتسعى لتأريخ تفاصيلها، تتمّ معالجتها وتصويرها عبر شخصيات تمثّل كلّ طرف أو فكر وترمز إليه، حيث أنّ الرواية تصبح بمثابة دراسة فكرية وفلسفية واجتماعية نفسية وتاريخية للأحداث والشخصيات، وإن كان ذلك كلّه عبر الخيال والتخييل المبنيين على الوقائع والتواريخ والمنطلقين منهما.
تبرز الروايات أنّ التطرّف لا يقتصر على جانب حياتيّ أو سلوكيّ بعينه، بل يتعدّى إلى مختلف مناحي الحياة، وإن كان التطرّف قد ألصق بالدينيّ في الخطابات الإعلاميّة الراهنة، لكنّه لا ينحصر أو يتقيّد به، بل هو انعكاس زاوية من زواياه المتشعّبة، وحالة من حالاته المتكاثرة في الواقع.
يتعامى المتطرّف الذي يرفع الدين ستاراً وشعاراً عن واقعه، يسدّ أذنه عن سماع الأصوات المختلفة عنه، يخشى من التغيير، وإن كان يزعم نشدانه، إذ أنّ التغيير الذي ينشده يختلف عن ذاك الذي يقضّ مضجعه ويتهرّب منه، لأنّه يأمل ويعمل على توسيع رقعة تطرّفه يستقطب أتباعاً ودعاة ومريدين لفكر التطرّف الذي يسجنه في ظلماته. المتطرّف النقيض، ذاك الذي يعادي الدين، يشهر أسلحته بدوره ليكون رأس حربة في حربه المعلنة على الدين، لا يعدم اختلاق الذرائع لتشويه المختلفين عنه، وتراه صورة مشوّهة عن الفكر الذي يزعم قدرته على التغيير ومرونته لمواكبة الجديد والعصري.
صراعات التاريخ والحاضر
هناك كثيرون من الروائيّين صوّروا شخصيات أبطالهم بصور متطرّفة، نقلوا من خلالهم حالات وظواهر تاريخية وأخرى معاصرة، كانت تلك الشخصيات علامات على دروب الإنارة والمعرفة، والتركيز على القضايا التي تكون مثار المقاربة والمعالجة والتناول.
يعدّ السوريّ فوّاز حدّاد أحد أبرز الروائيّين السوريّين الذين صوّروا عوالم غنية مفعمة بشخصيات قلقة، باحثة عن انتماء هنا أو هناك، وتراه في عدّة أعمال له يركّز على قضايا الإرهاب والتطرّف والاحتراب، وذلك في سياق قضايا أخرى يعالجها بتدقيق الحريص على مجمل التفاصيل المحيطة بها.
بالاطّلاع على نماذج من الشخصيات التي يرسمها حدّاد في بعض أعماله الروائية المنشورة ما بين 2017 و2018، يمكن الوقوف على شخصيات غاية في التطرّف في المنحى الذي توضع فيه، من ذلك مثلاً شخصيات في رواياته “عزف منفرد على البيانو”، “جنود الله”، “السوريّون الأعداء”، “الشاعر وجامع الهوامش”.
في رواية “عزف منفرد على البيانو” يرسم فوّاز حدّاد صوراً شتّى للتطرّف، هناك المتطرّف العلمانيّ، وهناك المتطرّف التابع للنظام، يمثل جانباً من جوانب التطرّف الذي يسود بنية النظام الإجرامية الناهضة على العنف والفساد والتطرف والقتل.
تكون شخصية الأستاذ المفكر فاتح القلج بتخبطاته واضطراباته وأوهامه ومخاوفه مثالاً للتطرّف الذي يتّخذ هيئة متحضّرة، مستعينة بالفكر في صراعها مع الواقع والتاريخ. يوقع الروائي شخصية بطله في مأزق ليمرئي التطرّف الكامن في روحه، وذلك من خلال دفعه ليصبح تحت حماية أجهزة تابعة للسلطة، ومواجهته لشخصية متطرف من النظام، يكون صدى للتطرف السابق ونتيجة له.
يكون الخبير سليم موفداً سرّياً إلى المفكر العلماني، يحاول الانسلاخ عن ماضي أسرته التي كانت ضحية بدورها، ويسعى إلى التكتم عن حالته كابن لأحد ضحايا الجماعات الإسلاميّة التي سحلت أباه سحلاً على مرأى ومسمع من الناس، ثمّ دفنته بعد أن جمعت عظام آخرين معه في قبر مشترك، قيل له إنّه قبر والده.
يبرز الروائي كيف أنّ الخبير سليم يظلّ مسكوناً بعقد كثيرة، يسعى إلى الانتقام بشتّى السبل، يلوذ بالتطرف والعنف والقتل والإجرام للثأر من الماضي وشخصياته التي تسببت بيتمه وقهره. كما يظهر استغلال النظام لعقد الناس وتحويلهم إلى وحوش في خدمة سياساته العدوانية.
في رواية “جنود الله” يكون تصوير التطرّف حاضراً بقوة، وذلك عبر عدّة شخصيات، هناك حالة أخرى من التطرف العلماني اليساري التي أفضت إلى تطرف إسلامويّ مشوّه، كأنّه يكون رداً على تطرف سابق، لكن بطريق معاكسة تماماً، يكون المشترك بينهما عدم تقبل الآخر، واعتباره عدواً ينبغي التخلص منه لمجرد أنه مختلف.
ينبش حدّاد الدوافع المفضية إلى صياغة شخصية المتطرف، الأب اليساريّ العلماني الذي لا يستطيع المحافظة على أسرته، يفقد صديقته التي يبدأ بمعاداتها، وابنه سامر الذي يكون طفل الخطيئة، يستكمل نسل التطرّف بصيغة أشدّ عنفاً ودموية ووحشية، الذي يحمل آلامه وضغائنه على والده ومحيطه، ليتحوّل إلى العنف ويستعين به في محنته ورحلته في بحثه عن ذاته المهدورة.
يتورّط سامر في الانضمام لتنظيم “القاعدة” في العراق، يتسلّم منصباً قيادياً فيه، يصبح أميراً من أمرائها يعرف بالأمير عبدالله السوري، يدعو إلى القتل والعنف وممارسة الأعمال الانتحارية، يحرّض على ما يسمّيه بالجهاد ويدعو له، وتراه بحكم نشأته في بيئة علمانية، مطلعاً على المحاججات ومتمكناً من خوضها. يكون إفرازَ التطرّف اليساريّ، يغالي في تطرّفه، يضيف إلى تطرّف والده السابق، يشينه بالعنف والدم اللذين يراهما السبل الوحيدة لنشر مبادئ جماعته والردّ على الأعداء.
يصوّر حدّاد كيف أن الفشل الأسري يقود ابن مفكّر علماني يدرس الإرهاب ويحاول تشريح بناه الفكرية إلى أحضان الإرهاب نفسه، ليصبح إرهابياً قيادياً، يرافق أبو مصعب الزرقاوي في تنقلاته، كما يوزّع مهمات الانتحاريين وينهض بدور المحامي عن الفكر الإرهابي المتقنع بأقنعة الدين والتدين. كما يصور حدّاد صورة من صور التطرف المسيحي كذلك في “جنود الله” وذلك من خلال شخصية القسيس توماس باركلي ذي الماضي المشين، باركلي يؤكّد أنّ هذه الحرب الدائرة هي حرب مقدّسة، صليبيّة، ويدعو إلى إنقاذ جنود الربّ والتطوّع لمحاربة جيوش الشيطان.
عنف وحشي
في روايته “السوريون الأعداء” يصوّر حدّاد شخصية النقيب سليمان الذي يتبدّى مهندس الخراب الكارثيّ الذي يساهم فيه بقسطه، يحمل حقداً منقطع النظير على الآخرين، يحمل حقداً على ذاته كذلك، كأنّه لا يمكنه العثور على بذرة محبة في داخله، يكون العداء مستوطناً في كيانه ومشوّهاً لنفسيّته وروحه التي تكون متسمّمة بسموم الحقد القاتل.
الطالب الفاشل الذي يشي بخاله المعارض للأسد في بدايات انقلابه، ولا يهتمّ لنبذه من قبل أسرته، يسير وراء هوسه بالسلطة، تعميه شهوة القتل والتسلّط، يحمل كثيراً من العقد النفسيّة في داخله، يكون مشوّهاً في قراراته، يحاول التعمية على قلقه ووساوسه المرضيّة بتقديم ولائه المطلق لسيّده الذي يستغلّ تلك الروح العدوانية لديه، وينقله من الجامعة التي يفشل على مقاعد دراستها إلى صفوف الجيش ليمارس دوره في الوشايات والفتن، ثمّ لينقله إلى القصر ليكمل دوره المنوط به. يتحوّل إلى وحش بيد النظام، يبني نظامه الوحشي الخاصّ به أيضاً، يكون حلقة من حلقات التطرف الدموية، ومخطّطاً للقتل والإرهاب والدمار، يستعين بأدوات إجرامية ليمارس تطرّفه العنيف، وبغضه الغريب على السوريين الآخرين جميعاً.
يظهر سليمان مسموماً بحقده الذي يقوم بتحويله إلى طاقة عنفية هدّامة، ينكّل بجثث الأبرياء، يلعب دوراً في المجازر الطائفية التي وقعت في مدينة حماة السورية في بدايات الثمانينات في القرن العشرين، وكان أحد موفدي النظام حينها للقضاء على التحرّك الشعبيّ الرافض للحكم الطائفيّ البغيض.
يكون سليمان متطرّفاً في ولائه لسيّده، يوقن أنّ وجوده مرتبط به بطريقة شرطية لا غنى عنها، وأنّ تفانيه في خدمة سيده يكفل له الاستمرار في دوره كمهندس للخراب ومحرّض على التدمير والقتل، يكون وجهاً بشعاً من وجوه السلطة المتطرفة.
هناك المتطرف الآخر الباحث عن العدالة وسط ركام المآسي والجرائم المنسوبة إلى مجاهيل، في حين أن المجرمين الفعليين معلومون بشخصياتهم وهوياتهم المعبرة عن ضغائنهم تجاه البلد وأهله، يكون الطبيب عدنان الراجي الضحية التي لا ترضى بالتحول إلى جلاد، تمنعه أخلاقه من التحول إلى قاتل، أو التفكير في ذلك، يؤثر الاستمرار في رسالته الإنسانية كطبيب، يختار الانضواء تحت لواء الثورة عساه يساهم بقسطه فيها.
يكون الضحية الآخر؛ الراجي، المتشبّث بالعدالة المفترضة، يتخذها دريئة ليغلّف ما يتناهبه من مشاعر متناقضة من خوف وجبن وكره.. يحمل جراحه ويحاول المكابرة عليها، يزعم النظر إلى الأمام، في حين أنّه ينوء بأعباء الماضي القاتلة التي لا ترضى أن تزايله.
خراب وتشويه
في روايته الأحدث “الشاعر وجامع الهوامش” يختار حدّاد بطل الرواية شاعراً، يكون الشاعر مأمون حاملاً لبذور التطرّف من جهة الجبن والتحسّب والتردّد والتبعية، يمضي في المهمة التي تمّ تكليفه بها إلى قرية “مغربال” ليقف على حقيقة الصراع الدائر فيها، ويقوم بتشريحه بدقة. تراه يستقوي بالسلطة الوهمية التي يتمّ إشعاره أنّه تمّ منحه إياها، في حين يشعر في قرارته أنّه رسول الخراب إلى الخراب لا غير.
الجبن الساكن في أعماق الشاعر مأمون يبقيه نزيل رعبه مما حوله، يشهد تحولات المنطقة الساحلية هناك بعد سنوات من انطلاق الثورة السورية التي تمّ تحويلها إلى حرب، استعان فيها النظام بعصابات طائفيّة من عدد من الدول، في مسعاه الدمويّ للمحافظة على نفسه، وتطبيقه شعار الحرب الكارثي المعادي للبلد وأهله: “الأسد أو نحرق”؛ الشعار الذي رفعه أنصاره في بداية الاحتجاجات السلمية، وكان إنذاراً بأنّ النظام لن يتورّع عن أيّ فعل للتشبّث بالسلطة.
تطرّف الشاعر هو تطرّف الجبان الباحث عن ملاذ آمن وسط نيران مستعرة، لا هو بقادر على إنقاذ نفسه من لظاها، ولا هو بقادر على إطفائها لينعم ببعض الهدوء المظنون، وتنتقل تلك النيران إلى داخله، تنهشه، تبقيه في وضعية المتحسّب السائر في حقول الألغام، يدرك دوائر السلطة والنفوذ ويحاول تفادي التصادم معها، كما يسعى إلى إبراز نفسه ملتزماً بمهمة من السلطة العليا، مخففاً من حدة جبنه ومحاولاً تجاوز يأسه ومحنته.
يكون الشاعر كشّاف المتطرّفين المحيطين به، هناك الشبيحة الذين يشكّلون عالمهم الخاصّ الخارج على القانون، يسنون قوانينهم الخاصة بهم، وهناك المعفّشون الذين يمتهنون اللصوصية والسطو على أموال الناس، وهناك المتطرفون الطائفيون الذين يسعون إلى تأبيد السلطة الطائفية، والبحث عن ذرائع للفتك بالمعادين لهم، ويكون اللغو بالأوهام الطائفية سمة من سماتهم الشائنة المتطرفة بدورها.
يحاول الشاعر أن يكون متوازناً بعيداً عن التطرف، لكنه يغرق في مستنقع تطرّف مختلف، فليس كلّ تطرّف بالعنيف، إذ هناك وجوه للتطرّف يكون فيها المتطرّف هارباً من العنف المستشري المعمّم إلى ملاذ متوهّم، ويكون متشبّثاً بالأوهام كذلك في تبريره لهروبه من المواجهة، وعدم قدرته على مواكبة العنف المواجه، ليبرز بدور المهدّئ للعنف أو الباحث عن سبل للتهدئة..
يشير فوّاز حدّاد، في ما يصوّر ويعالج، إلى أنّ المتطرّف، سواء كان ذاك التابع المتفاني في ولائه وطاعته لسيده أو ذلك الحاقد المتمادي في غلّه على الآخرين، كلاهما وجهان لبؤس واحد وتشوّه متعاظم، كلّ واحد منهما لن يرعوي عن اقتراف ما يمكن من أجل القضاء على الآخرين الذين يشكّلون مصدر إقلاق له، يبقي كلّ منهما حقده متفعّلاً متفاقماً متصاعداً باطّراد، لا يستدلّ إلى طريق للتهدئة حتّى يعمّم كراهيته وجنونه وتطرفه، وربّما تفلح الرواية في التخفيف من حدّة هذا التطرّف من خلال تقديمه بشتّى تجلياته عسى أن تدفع إلى الاعتبار منه وتقليم وحشيّته المأسويّة.