شخصية المراهق والبلوغ القسري
ثمة عوامل عديدة أدت إلى ضمور أو غياب صورة المراهق وموضوعة المراهقة في التجارب الأدبية والفنية كالرواية والسينما وغيرهما، من أهمها الخلط الحاصل بين التصدي لمثل هذه الموضوعة في التجارب الأدبية والفنية وبين الروايات والأعمال الفنية الموجهة لليافعين والفتيان في العالم العربي، ومنه أيضا عدم اهتمام القرّاء بهذه الموضوعة الدقيقة والحساسة وميلهم لقراءة ومشاهدة التجارب التي تتصدى لعالم الكبار، على العكس مما عليه الأمر في الغرب الذي شهد الكثير من التجارب المهمّة والحيوية على هذا الصعيد. على الرغم من أن تناول مثل هذه الموضوعات يتطلب قدرة ودراية في تجسيد شخصية المراهق بشكل أصيل ومندمج مع الحدث العام للعمل الأدبي والفني، نظرا للتعقيد والحساسية التي ينطوي عليها، وبالتالي صعوبة تجسيدها.
إنّ التطرق لقضايا المراهقين ومشكلاتهم المعاصرة المتمثلة في القلق والشعور بانعدام الأمن وصعوبة الانسجام مع عالم الكبار وما تنطوي عليه من إثارة الاكتشافات الأولى ورؤية العالم بعيون مختلفة وهيمنة القناعة الشخصية والرغبة بعدم الخضوع لقواعد الكبار، قد لا يتلاءم وموضوعات الروايات التي تتناول في الغالب قضايا تاريخية أو عاطفية معينة.
وحسب باتريك أونيل، الكاتب المتخصص في سبر مثل هذه الموضوعات، فإن جميع الكتّاب كانوا مراهقين في مرحلة ما من مراحل حياتهم، وبعضهم يحتفظ بمرحلة مراهقته حتى بلوغه الـ70 من العمر، لكن الأمر الأهم في القضية هو مدى أخذ الكبار من القرّاء والمتلقين تلك القضايا التي تخص المراهقين على محمل الجد. وباعتقادي ثمة طريقتان لعمل ذلك، الأولى تعتمد على الذاكرة واستحضار المشاعر الشخصية في فترة المراهقة، والثانية معايشة تلك الشريحة والاقتراب منها وكسب ثقتها بما يتيح الاطلاع على مشكلاتها والكتابة عنها بعمق، وكلا الطريقتين صعبتا التحقيق في الواقع، ذلك لأن مرحلة المراهقة هي الجزء الأكثر صعوبة في الحياة، وهي النقطة التي نبدأ فيها بطرح الأسئلة الكبيرة وإيجاد الأجوبة التي لا نحبها، والخيال هو جزء مهمّ من هذه العملية.
وفي ألمانيا ثمّة مصطلح يدعى «Bildonsroman» ويعني إلى حدٍ ما «رواية تشكيل» أو قصة مُستلهمة من مراحل عمرية مبكرة، وهي نوع من الخيال الذي غالبا ما يوثق مرحلة شخصية من مراحل البلوغ، مكتوبة وفق نمط روائي معيّن يتطلب قارئا خاصا، وهي غير الروايات الموجهة لليافعين، بل للكبار لكن بطريقة تستدعي ذكرياتهم عن عالم الطفولة والمراهقة، ومثل هذا النوع من الكتابة غير موجود في الأدب العربي تقريبا نتيجة لخيارات القرّاء وعاداتهم.
ووفق هذه الرؤية تضمحل الحدود بين أدب الكبار وأدب اليافعين إلى حدٍ ما، وعلى سبيل المثال تكاد الكثير من الروايات في الغرب تتوجه إلى جمهور البالغين على الرغم من أنها تتناول موضوعات المراهقين، بدءًا من رواية «ملك الذباب» لوليام غولدنغ وانتهاءً بسلسلة روايات «هاري بوتر» لجي كي رولنغ. حيث الخيال بمثابة أداة استجواب حيويَّة من شأنها تجهيز قرّائها للاطلاع على أوقات الاضطرابات العظيمة. لكن الأمر في حالتي الأدب والسينما العربيين مختلف كليًّا نتيجة لاختلاف المشكلات وطبيعة المجتمعات، ناهيك عن اختلاف اهتمامات القرّاء أيضًا، فثمّة ميل فطري لدى الكتّاب العرب نحو الموضوعات الدرامية والتراجيدية الجادّة واعتقادهم بأن قضايا المراهقين وعوالمهم قد تُنقص من جديّة أعمالهم، وبالتالي فإن اختفاء شخصية المراهق أو غيابها في الأعمال الأدبية يؤدي بالضرورة إلى اختفائها أيضًا من الأعمال السينمائية والمسرحية، إذا ما أدركنا أن الأخيرتين تعتمدان بالدرجة الأساس على النصوص والروايات، على العكس تمامًا مما يحصل في الغرب، حيث تحولت الكثير من الروايات الموجهة للمراهقين واليافعين والشبّان إلى أعمال سينمائية كبيرة موجهة لجميع الفئات العمرية.
القدرة على الكتابة عن موضوعات المراهقة والقدرة على تجسيد شخصية الأبطال في تلك السن أو المرحلة العمرية الحساسة والدقيقة التركيب، تتطلب قدرة حقيقية على العودة إلى الماضي
إن صعوبة تجسيد شخصية المراهق في الأعمال الأدبية والفنية تعود بالدرجة الأساس إلى صعوبة تركيبتها النفسية، وبالتالي صعوبة دمجها بسهولة في الأحداث، ما لم تكن مدروسة بعمق وموظفة بشكل مؤثر، وعلى الصعيد الشخصي، حاولت في عمليّ الروائيين الأخيرين «خان الشّابندر» و»بيت السودان» الاقتراب من شخصية المراهق بحذر وتوجس في الحقيقة، ففي التجربة الأولى قدمت شخصية «ضويَّة» الفتاة المراهقة أو الشابّة اليافعة التي كانت ضحية علاقات أسرية منحرفة أدت إلى سقوطها في براثن الرذيلة، بعد أن حاولتُ سبر أغوار مشاعرها وتركيبتها العاطفية ومدى تأثرها بتجارب الكبار وإيحاءاتهم في مفهوم الخلاص والتطهّر بالماء الجاري حسب تعاليم الديانة المندائية القديمة التي تعلّمتها من الشخصيات الرئيسة التي تحيط بها في الرواية، وما شكله ذلك من شعور بالراحة النفسية وقناعة داخلية بالطهر، كما حاولت بواسطة شخصية «زينب» بائعة الكعك ذات الأربعة عشر ربيعًا تسليط الضوء على شريحة المراهقين المنسحقة في زمن الحرب والعنف والإرهاب وإجبارها على البلوغ القسري لتتمكن من إعالة إخوتها الأصغر منها سنًا بعد أن قُتل أبوها في أحداث الانتفاضة الشعبية وماتت أمها بسبب المرض وعدم توفر العلاج.
أما في روايتي الأخيرة «بيت السودان» فقد كانت شخصية «علاوي» الفتى المراهق أبيض البشرة الذي يعيش في بيت يعج بالنسوة السوداوات، هي الشخصية المحورية في الحدث الروائي كلّه، إذ تدور الأحداث والتفاعلات والصراعات من خلال نظرته ومشاهداته، وتركز الرواية بالدرجة الأساس على طبيعة العلاقة بينه وبين «ياقوت» المرأة السوداء القويّة والجميلة التي وجد نفسه ابنها بالتبني، على الرغم من إحساسه الدائم بأنّه لقيط ولا ينتمي بيولوجيًا على الأقل، إلى بيت السودان، لكن هذا لم يمنعه من الشعور بالعاطفة الجياشة والانتماء النفسي.
واستنادًا إلى تجربتي في تجسيد تلك الشخصيات، فإنّني أعود في الغالب إلى فترة الطفولة والمراهقة لاستجلب منها الصور والأحاسيس، لأن تلك الفترة كانت معبأة بالصور والتجارب العميقة التي لا يمكن نسيانها بسهولة مهما تقدّم بنا العمر، ومن السهولة الكتابة عن شخصية بالغة يمكن تقمصها لرجل أو امرأة ما، لكن الكتابة عن شخصية مراهق في فترة مبكرة من حياته، قد تتطلب منا التقمص والعودة إلى التجارب الأولى وشغفها، عندما اكتشفنا أوّل امرأة أو أوّل وجيب آسر حفّ قلوبنا، أو أوّل فضول قاتل قادنا إلى استراق النظر خلسة إلى عالم الكبار وحيواتهم السريَّة، فقد أدى تسللي خلسة ذات ليلة إلى بيت السودان في أطراف مدينة الناصرية واستراق النظر إلى الراقصات السوداوات وسحرهن وشعورهن المفرودة وخيوط العطر المحلقة خلفهن والمخلوطة برائحة عرقهن المثيرة حين يتمايلن وسط الباحة الترابية المرشوشة بالماء، ونظرات جمهور الحمّالين والكسبة من الرجال البالغين إليهن وتحسّرهم عليهن وشغفهم بهن، كلّها تفصيلات غامضة ظلت مخزّنة بذاكرتي سنوات طويلة جدًّا، حتى كتبتُ روايتي الأخيرة «بيت السودان».
إن هذه التجربة ما كان مقدّرًا لها أن تكون لولا استجلاب صور المراهقة تلك من الذاكرة والعودة إلى تلك الأوقات لأتلمس طبيعة تلك المشاعر والاختلاجات النفسية العميقة. وبقدر عمق تلك الأحاسيس والمشاعر وصمود تلك الصور والتأثيرات النفسية في وجدان الكاتب، تتحدد درجة صدقية الكتابة من عدمها.
ومن وجهة نظري، فإن القدرة على الكتابة عن موضوعات المراهقة والقدرة على تجسيد شخصية الأبطال في تلك السن أو المرحلة العمرية الحساسة والدقيقة التركيب، تتطلب قدرة حقيقية على العودة إلى الماضي، كما تتطلب تجارب مثيرة ينبغي أن يكون الكاتب قد خاضها في مرحلة مبكرة من حياته، لتشكل له مخزونًا حيويًّا من الصور والأفكار والانثيالات اللازمة والضرورية لسبر هذا النوع من الشخصيات.