شعبوية الذباب الإلكتروني
ها هي موجة أخرى من الثقافة تمرّ على عالمنا العربي مرور الكرام. إنها موجة الثقافة الشعبوية. أدرك أن الإشارة فيها الكثير من التناقض. الثقافة قائمة على حس الصفوة. الشعبوية صارت مرادفا في عالمنا لفوضى الرعاع. لكن هناك مسمّى “الثقافة الشعوبية” في الغرب والشرق أيضا، وهو مسمّى محترم له وزنه وقيمته مثلما كان لثقافة الهيبيس حضور ملموس في ثقافة الستينات في الغرب (وصلنا منها فقط بناطيل الشارلستون والحشيش واللحى الكثة).
المشهد الثقافي السائد في عالمنا العربي إلى اليوم هو مشهد كولونيالي/يساري. تركة الاستعمار الغربي محسوسة رغم أنه ارتحل منذ زمن بعيد. للدقة، وفيما عدا استثناءات محدودة جدا، فإن الاستعمار الغربي لم يثبّت أقدامه في منطقتنا. لكن تعلّم المثقفون منه الكثير، وخصوصا على أيدي اختيارات المترجمين المتنوّرين. الثقافة في الغرب كانت تكتب لناسها وكانت تكتب لنا من دون أن تعلم.
الثقافة اليسارية كانت الرد على هذه التركة. كتب الأدب الروسي المترجمة والمجانية قدّمت البديل للمثقف في المنطقة. كتب الفكر الشيوعي كانت تنثر على رؤوس الشعوب العربية. اقرأ “رأس المال” لكارل ماركس ولا تضيع وقتك في “ثروة الأمم” لآدم سميث. فوق كل هذا، لديك تنظيمات شيوعية ويسار فكري يدعمانك. يمكن أن تحضر جدلا سياسيا عن أهمية الشيوعية في مواجهة الرأسمالية وأنت جالس على حافة ترعة تغذيها مضخة خشبية تديرها جاموسة. اليسار يحبّ الخيال.
الحركات الشوفينية الوطنية ذهبت إلى السوبرماركت الأيديولوجي. مسؤول يلقي خطابا عن أهمية المساواة كتبه له مثقف. يصعد على منصة أمام حشد من المعدمين. تنتهي الكلمة ويركب سيارته المرسيدس الفاخرة. زعيم تصفّح كتب الديمقراطية الغربية ويصرّ على أن يضيف كلمة ديمقراطية على اسم الدولة المستقلة حديثا. ما عيبها الديمقراطية إذا كانت تعيد انتخابي؟ عسكر يحاربون الاستعمار بعد إتمام صفقة السلاح الغربي. زيادة الإحساس بالتأثير الشيوعي الملحد وعمق العلاقة مع موسكو عند الزعيم خصوصا بعد صلاة الجمعة أو صلاة العيد.
كتلة التناقضات هذه كان يتم تغذيتها بدرجة كبيرة من الريع النفطي. ثم بدأت الحروب تتغذى على هذه التناقضات وجاء المد الخميني الإخواني. المثقفون الكولونياليون/اليسار صار أمامهم وحش من نوع آخر الآن. استسلموا بسهولة. طوّعوا أنفسهم أو هاجروا.
ثم ساد سكون ثقافي إلى حين جاءت ثورة الشبكات الاجتماعية. الكل استفاد منها. من دكتاتور سخيف إلى رجل دين مضحك وصولاً إلى كاتب تحاربه الصحف لمواقفه. كانت البدايات مبشّرة لكن كثرت الضوضاء وساد الذباب واختلطت الصورة.
اختلاط الصورة ليس مبرّرا للانسحاب. مثقفنا لم يبذل الكثير من الجهد. تعوّد على السهل. لا يزال ضمن القالب القديم: موقع وجريدة ومجلة وحضور الندوات ومعارض الكتب ثم فرصة على فضائية. منابر صحيحة وحقيقية ومهمة. ولكن شخصية انتهازية بذكاء لافت وثقافة محدودة مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب انتبهت إلى أن هذه المنصات الثقافية والإعلامية ليس فقط لا تكفي، بل يمكن أن تكون معادية. هرج ومرج غير مسبوقين في الولايات المتحدة والعالم. تغريدات على تويتر تكفي. مع هذه التغريدات والجدل من حولها كبر الإحساس بالثقافة الشعبية، الساذجة منها والمتماسكة فكريا. هذه ساحة المعركة. الذباب يحارب الذباب، لكنّ المثقفين يقارعون المثقفين أيضا. الصورة هناك لجدل أوصلنا إلى مشهد سياسي غربي جديد، يسمى شعبوياً، لكنه مخاض للتغيير الذي نحسه الآن. نحن اكتفينا بمعارك الذباب. الطنين مسموع رغم أن من غذّى الذباب بالعسل قد وضع ذبابه في قوارير زجاجية لاعتبارات سياسية.
العالم اليوم يشهد حراكا ثقافيا من نوع آخر. إنه من نوع صعود قوى عظمى وسقوطها. الغرب لا يغادر الشرق الأوسط عسكريا اليوم وحسب، بل يهمله ثقافيا. ماذا تفعل مع أمّة تنشر فيها وكالة أنباء رسمية خبرا عن صبيّ حفظ القرآن؟ ماذا تفعل لبلاد تخرج بالملايين لسماع خطبة معمّم من الصعب تفسير ما يقوله، أو أيّ موضوع سيثير، من محاربة الولايات المتحدة إلى كرة القدم؟
الغرب يترك الشرق الأوسط لحاله. المركز الصناعي/السياسي الصاعد في الصين هو المهم. هناك ما يستحق الاهتمام، لأن الصينيين قد لا يعلّموننا أغانيهم ونصير نمشي ونطنطن بألحانهم، لكنهم يضعون لمسة على كل ما له بعد ثقافي/سياسي/صناعي. الأدهى والأخطر أن تأتي مثل التحري تبحث عن البصمات، ولا تجد بصمة صينية واحدة في مشهد “الحادث”. كل حاملة طائرات أميركية تغادر الخليج، ستجدها تحوم في بحر الصين. التركيز الآن سياسي واستراتيجي بعد أن كان اقتصاديا. التأثير الثقافي قادم. تخيلوا لو أن الصينيين اقتنعوا بتأثير “الذباب الإلكتروني” العربي، وطبقوه علينا مع القليل من تقنيات الاختراق تتجاوز الحجب على الإنترنت وبعض من الذكاء الاصطناعي الذي يطورونه في سباقهم مع الغرب!