صحفيّات الوطن السعيد

وضعتُ على رأسي باروكة ذات شعر أسود خشن، قد يكون شعر حصان، لكنها كانت خالية من الرائحة. ومتناسقة مع بنطالي الأزرق وقميصي الحنّي.
سحبت الأقنعة والقمصان الثلاثة والبناطيل، المعلقة داخل الشقة منذ ليلة أمس، ووضعتها في حقيبتي، قبل أن أغادر إلى زقاق العربي.
بدأ موسم تساقط أوراق الشجرة التي تنتصف المقهى.
أرضية المكان تحوّلت إلى أوراق تتراكم فوق بعضها، والطاولات تزينت بسقوطها الأصفر. أوراق تمايلت على رؤوس الجالسين، كجراد كبير الحجم يتساقط ميتاً من أعلى الشجرة.
بضع طالبات قدّمن أنفسهنَ على أنهنّ صحفيات في مستقبل الوطن السعيد. يحشدنَ الطلبة في صحيفة يومية، تصدر من الجامعة تُطبع بالرونيو. متدربات جميلات يملأن أجسادهن بالعطر، وصدورهنّ بالبودرة الفواحة، ويخططنَ عيونهن بالماسكارا.
ثلاث طالبات يبدو أنهنّ نضجن مع الحياة الجامعية، توزّعن على روّاد المقهى يسألن أسئلة حول انتصار الوطن الأكيد في حربه مع الإرهاب. وأنّ التظاهرات هي من فعل فاعل خارجي لا يريد لشعبنا العظيم أن يعيش. وهذه لازمة مقصودة كي ترغم الآخرين على الإجابات المتشابهة.
الوطن سينتصر لا شك في هذا، والمؤامرات سيقمعها الشعب قبل أن تقمعها الأجهزة الأمنية الكثيرة التي تراقب هذا السلوك العدائي.. إجابتي تتشابه مع إجابة الأغلبية بالتأكيد. فالصحفيّات السعيدات بتجربة الشارع هذه حفظن الأسئلة والأجوبة، لذا كنّ يمططن شفاههنّ بين حينِ وآخر.
• إحداهنّ أخذت تسجّل بعض أسماء الجالسين، وتصوّر أصحابها من دون سين وجيم.
• مرّت على رجل علم النفس المستقيل، والتقطت له صورة وهو يتأمل النوارس.
• صاح بها منفعلاً:
– تعالي يا بنت.
اقتربت الطالبة مستفسرة، ويدها تقبض على هاتفها الذي تصوّر به، كما لو أن الرجل يريد سرقته منها.
– نعم.
– اجلسي.
أشار إليها أن تجلس أمامه بطريقة آمرة. كانت مترددة، لكنها امتثلت للأمر، وجلست محدّقة بعينيه اللتين لا لون لهما، كما لاحظت.
– أنتنّ في كلية الإعلام كما أعتقد؟
– نعم.. في السنة الرابعة.
– وماذا عن هذه اللقاءات؟
– جزء من درجات تخرجنا لهذه السنة، أن نكون في الشارع مع الجماهير.
– هل تعلمين أن الصحافة توصف بأنها سلطة قوية؟
– يسمّونها السلطة الرابعة.
– لا.. السلطة الأولى.. لا تعلو عليها سُلطة إلا بالمجاز والاعتبار الشكلي.
ظلّت الطالبة صامتة، تنظر إلى عينيه بشك. بينما أكملَ بعناد:
– الصحافة مهنة شريفة ولا يجوز الخداع فيها.. تمام؟
هزّت رأسها موافقة، وعيناها لا ترمشان. ثم تساءلت:
– وماذا حصل؟
كانت نبرته أعلى:
– حصل خِداع وزيف معي قبل لحظات..!
فتحت عينيها مستفسرة.
– كيف؟
وجدتُها فرصة مناسبة أن أغيّر مكاني إلى طاولة قريبة منه، أن أجلس إلى جانبه على بُعد طاولة واحدة.
– التقطتِ صورة لي، ولم تستأذني مني..!
نظرت الفتاة إلى هاتفها محرجة بعض الشيء.
– اعتدنا أن نلتقط صوراً كثيرة لمن نقابلهم في أيّ مكان.
ردّ عليها بصوت فيه زجر وإهانة:
– احترمي موهبتك ودراستك ومهنة المستقبل.
زاد على كلامه:
– أنت لا تعرفين بأن الخراب يأتي من هذه الأمور التي تحسبينها صغيرة.
ارتبكت الفتاة.
– لا تعصّب يا عمّ، سأمسح صورتك.
تلعثمت وهي تردد:
– أنا آسفة.
كانت تعالج هاتفها لفتح معرض الصور، بينما كان صوته يعلو آمراً:
– امسحي صور الذين لم تستأذني منهم كلها.
كانت أصابعها ترتعش، وعيناها تستنجدان بصديقتيها اللتين تتجولان في زوايا المقهى.
– لا تستسهلي التعامل مع الناس بهذه الطريقة، احترمي آراءهم وأفكارهم وأمزجتهم.

شعرت الفتاة برغبة في البكاء، وهي تعرض معرض صور هاتفها فارغاً من الصور التي التقطتها قبل قليل. لم ينظر إلى الهاتف المشرع أمامه، بل أدام النظر في عينيها الدامعتين:
– لكي تحبّي مهنتك ودراستك عليكِ ألا تلجئي إلى الخديعة والغدر.
• كانت لهجته قاسية، فوجدتها فرصة لأن أتدخّل وأنا جالس في مكاني.
• كلمتُ الرجل بطريقة مبسطة، لأُخرِج الطالبة من وضعها الحرج:
– إنها تتعلم يا رجل.. ولا بد من أخطاء في مشوارها الأول.
ردّ من دون أن يلتفت إليّ:
– لو كانت طريقة دراستها صحيحة، لتجنبت مثل هذا الخطأ. الناس لا تعمل تحت إمرة أحد أو مزاجه. هذه تربية جامعية كارثية.
• كانت الفرصة سانحة لأن أجلس على طاولة الرجل الذي يقبض على الطالبة بجريمة التصوير من دون إذن.
– نحتاج هذا الجيل لنبني مستقبل الوطن بلا شك، وعلينا أن نتصالح معه ونوجهه؟
كانت الفتاة تنظر إليّ كمنقذ لها، كأنها عصفورة عالقة بين مخالب قطّ شرس.
– التربية الوطنية أصعب أنواع التربية وأكثرها تعقيداً.
(أشار إلى عامل المقهى ليجلب لي شاياً، بوصفي ضيفاً على طاولته).
– الأخلاق المهنية الصحيحة هي الأخلاق الوطنية الصحيحة.
لا تزال الطالبة تنظر في عيني، وتتجنب عينيه اللتين بلا لون. وقد رأيت أنه عليّ أن أقود حديثاً سريعاً أوافق فيه العربي بطريقة ملتوية، وأن لا تتقاطع أفكاري مع أفكاره نسبياً.
– ماذا تعمل يا أستاذ؟
سألني.
– أعمل موظفاً في وزارة المالية.
– لنفترض أنك أخطأتَ في حساباتك المالية، كأن ينقص من خزينتك دولار واحد أو مليون دولار.. ماذا تتوقع؟
– مشكلة حقاً.
– هل تظنّ أن مديرك سينظر إلى نواياك الطيبة؟
– سينظر إليها في حساباته الشخصية فحسب، كوني موظفاً ذا سلوك إيجابي.. لكنه يريد أن لا تقع المسؤولية عليه أيضاً.
هدأت الطالبة قليلاً بعد أن عادت زميلتاها وجلستا على كرسيي طاولة لم يشغلها أحد، على مقربةٍ منّا.
– هذه الشابة عليها أن تتعلم أصول المهنة. ومثل هذا الخطأ الكبير يجب أن لا يتكرر في هذا المكان أو غيره. فالناس ليسوا قروداً للصحفيين يصورونهم متى ما أرادوا، ويضعون الأجوبة كما يحلو لهم.
بقيت الطالبة على صمتها، وزميلتاها تنظران إلى العربي بطريقة غامضة.
تدخّلتُ بطريقة هادئة:
– ما حصل قد حصل، ولا بد للأخت الصغيرة أن تنتفع بهذه الملاحظة من الأستاذ.
صاح العربي:
– لجسامة الأخطاء التي وقعت في الوطن، لا أرى أنه يتحمل أخطاء أخرى، مهما بدت لكم صغيرة وهامشية.. السفينة ستغرق بنا في محيط عميق ولا ينجو منها أحد.
تهامست الفتاتان معاً، ثم وقفتا، وسحبتا زميلتهما الواقعة في شِباك العربي بطريقة عصبية.
– أرأيتَ! لا أخلاق ولا تربية بيتية ولا وطنية.
• اختلينا لأول مرة أنا والعربي الغاضب من تصرف طالبة الصحافة. وكنتُ أنتظر هذه الخلوة المفتعلة ولا أنتظرها في الوقت نفسه، لكن الوقت طال عليّ في هذه المراقبة اللصيقة من دون جدوى.
– أكيد أنت على حق.
– الوطنية أن لا نزايد على بعضنا بطريقة استفزازية غير لائقة.
– الوطن للجميع على اختلاف كل شيء فيهم.. أتفق معك.
أدام النظر فيّ، كوني عابراً في المقهى يراني لأول مرة، لذا سارعتُ:
– أعتذر يا أخ إنْ تطفلتُ على طاولتك.
– لا تهتم.
– وجدت الطالبة في موقف محرج، فأردتُ التخفيف عنها بعض الشيء.. إنها غبية ومسكينة.
– غباء تقليدي في هذه البلاد الغبية التي لا تنجب إلا مثل هؤلاء.
– هي بلدنا مهما كانت مليئة بالأغبياء.
ضحك، واهتزت أكتافه. استطاب مني فكرة أن يكون الوطن مليئاً بالأغبياء.
قال وهو يبتسم:
– أشكرك أنك خفّفتَ عني عناء مناقشة تلك البنت البليدة.
– هي طالبة.. في أول العمل.. أخطاء من هذا النوع متوقعة.
• صمت الرجل.
• سحب سيجارة من علبته الموضوعة أمامه.
• ظلّ صامتاً بعض الوقت، ينظر إلى الزبائن الداخلين والخارجين.
• كان صمته إيذاناً بأنه لا يودّ استكمال الحديث.