صرة البرتقال

الاثنين 2021/03/01
لوحة اسماعيل الرفاعي

بدأ أحمد يرقب نجوم السماء ليلا عندما توسّد يديه، واستلقى على ظهره في فراشه الذي وضعته له زوجة أبيه في الغرفة المنزوية البعيدة، حدّق في النجوم وكم سعد قلبه عندما رأى صورة أمّه تلوح له بالأفق البعيد وتخبره أنها خبّأت له صرة برتقال، وربطتها أسفل النافذة، ما زالت رائحة البرتقال تستوطن أنفاسه، وما زال عبقه يسكن أنسجته.

ذات مساء، عندما عاد والده مجهدا من عمله في حانوته الخاص، أضيئت الأضواء التي لا يراها إلا في أحلامه.

– أنا لا أخشى الظلام.

قال هذا لأمه، عندما غابت عنه شهرين كاملين من أجل البحث عن كلأ ومرعى لماشية والده، فقد كان يملك كثيرا منها ولديه أرض بعيدة وبيت شعر صغير كاد يكون موطن أمه شبه الدائم، في حين عدم قدرته على المكوث معها فيه بسبب ذهابه إلى المدرسة.

– تبا لك أيتها المدرسة، صدر أمي كان ألذ من دروسك، وجهها أشهى من علومك، صوتها أرقّ من نسماتك.

الوجه ما زال يحدّق به، ويلوّح له بصرة البرتقال، ويؤكد له أنها ستكون له لا لغيره هذه المرة، في ذلك اليوم طلبت منه زوجة أبيه أن يأخذ صرة كبيرة من البرتقال إلى والدتها التي تقطن في الحي المقابل، وقالت له بلهجة كاسرة:

– لقد عددتها، عشرون حبة، إياك ثم إياك، عندما تعود سأعطيك واحدة، هيا أسرع.

كانت الصرة تتأرجح بين يديه، ويتمايل معها، توصله إلى السماء ويعود، ويرفعها أحيانا ليشتم عبقها، فيأخذ شهيقا طويلا إلى درجة التصاق بطنه بظهره، ثم يخرجه رويدا رويدا خشية على عزيزه الغالي.

لم يخرج من البيت ذلك اليوم – كعادته – فقد اعتاد أن يلقي بحقيبة المدرسة في تلك التي تسمّى غرفة ولا تحوى إلا فراشا وغطاء قديما كان لأمه منذ تزوجت، ثم يتناول صحن طعام وضع له قبل مجيئه، يغلب ظنه دائما أنه طعام الأمس، فلون صحنه وطريقة وضع الطعام به تذكره بلون وداع صبغ الأطعمة كلها به، فلم يعد يهمه إلا سدّ رمق جوعه، ثم سرعان ما يخرج لتقضية النهار كاملا وجزءا من الليل في الطرقات.

انتظر الساعات، ورائحة الصرة لا تفارق شهيقه، فكانت لديه قدرة رهيبة على الاحتفاظ بالروائح، ولولاها ما استطاع أن يحتفظ برائحة أمه دائما معه، وإن كانت رائحة الأغنام هي التي يستذكرها بيد أنها كانت لها أعبق الروائح وأرواها لحواسه.لللل

– ربما عندما يأتي والدي سترمي لي بواحدة منها، نعم هي قالت إن لي واحدة.

تعلم أحمد الصبر إثر ما مرّ به من حرمان وظلم وجبروت، لا يجرؤ أن يخبر والده باستعباد زوجته له، وإن فعل كما جرى ذات يوم ضرب ضربا مبرحا وطرد من البيت لولا تدخل جارهم الطيب، عندما رأى أحمد ينام على الرصيف أمام منزلهم.

جلس الوالد بعد تناول طعامه الذي فاحت منه رائحة زكية غير التي اعتادها أحمد في طعامه اليومي، ابتسم عندما اشتمّ رائحة البرتقال التي تألقت على كل الروائح، وقال في سرّه:

– ستخرج صرة برتقال أخرى الآن بعد الانتهاء من العشاء، وعندما تعطيني حصتي سأشتمها ساعة كاملة قبل أن أقطعها.

وبعد انتظار ساعة شعر أحمد أنها عمر آخر له، بدأت تلك الرائحة تنتشر في أنحاء البيت، وتتسرب مسرعة إلى أنفه الصغير، فيمسك بها بيديه الاثنتين، وكأنه يحمل صرة أمه الوحيدة التي آلت إليه بعد وفاتها، ثوب واحد وغطاء رأس، وسبحة صغيرة علقها فوق رأسه، ثم يقرب الرائحة أكثر إلى أنفاسه، ويلصقها بوجهه، كمن يخبئ وجهه من قدر، ثم يغلق عينيه مستسلما لها في سبات تمنى لو كان كهفيا.

مرت الساعة تلك ثم بدأت النافذة تتحرك، فارتعش قلبه، وتطايرت عيونه فرحا، هبّ للوقوف والتهيؤ لاستقبال الضيف القادم الذي انتظره منذ الصباح، وما أن وصل كانت النافذة قد أغلقت، توقفت خطاه لحظة ثم سرعان ما دار في خاطره أنها رمت له بواحدة من النافذة، فالرائحة ما زالت تحاصر المكان، مشى خطوات تحثها الرائحة، ثم نظر من كافة الأطراف لتلك النافذة التي لا يعلم ما خلفها منذ خطوته الأولى في غرفة منزوية، مع أم كانت للماشية ثم له، وزوجة آمرة تعتلي قبة هذه النافذة، اقترب أحمد، ثم قادته عيناه إلى صرة حقيقية.

– نعم إنها صرة تفوح بتلك الرائحة الآسرة..

ابتسم ثغره، ونسي ما ذاق من حرمان السنين، والضياع والتيه في حضرة ملكة الروائح هذه، تناول الصرة بيده المرتجفة لهفة وشوقا لحبيب غاب دهورا ولم يتذوقه، ولم يمتع فمه منذ زمن بعيد – ربما كان عمره كاملا – بطعم حلو الرائحة، حمل الصرة وشعر أن الدنيا كلها أصبحت بين يديه الآن، لهث من شدة الفرح، أراد أن يغني ويرقص، بيد أن صوت والده الأجش سرعان ما نبهه أن عليه الابتعاد والانفراد بغنيمته وحده.

– لن أكون وحيدا هذه الليلة.

ألم تقل له أمه أنها خبأت له صرة، ولم تكذب مرة في حياتها، يذكر أنه اشتهى لحما ذات يوم، وبكى بمرارة في حجرها، فقالت له:

– نم الآن وعندما تستيقظ سيكون لك.

لم يكن يعلم من قبل كيف يكون الذل شبحا، وعندما استيقظ وجد اللحم ينتظره، فلم يصدق عينيه، التهمه التهام مئة سنة أخرى لن يذوق بها طعم اللحم، وعندما أنهى طعامه ولعب بسعادة غامرة قبالة غرفتهما، سمعها تئن أنين المذبوح، سمع صوتها كشاة تذبح ولم يعلم سبب ذلك.

أخذ نفسا عميقا، وجلس متربعا على عرشه، وبدأ بفك عقدة الصرة، لم يشعر وهي في متناول يده أنها لا تحوي إلا قشورا، لم يدع لتفكيره فرصة الخذلان والخسارة، عمته الرائحة فما رأى في صرته إلا ما يريد أن يراه، وليس ما يكون.

صرته لا تحوي إلا قشورا. أين البرتقال.؟ نظر في السماء بين تلك النجوم التي كان يعتقد اعتقادا قويا أنها هي، فوجدها تقول له مرة أخرى بثقة إن الصرة ستكون له.

أغمض عينيه لبرهة قصيرة، كادت دموعه تسقط، ثم انتفض كعصفور مبلل، فقد عاهدها يوما ألّا يبكي، هو رجلها.

 وهل يبكي الرجال؟ ومن أجل ماذا؟ برتقالة؟ لا أيتها السماء أخبريها أني لن أسمع صوتها مذبوحا مرة أخرى، لن أضعف. لن أدع رائحة تسيطر عليّ.

بهدوء عمر زيد على عمره، تناول القشر وبدأ بحثّ بياضه بأسنانه والتهامه بهدوء.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.