صوت العقل بلغتين أو أكثر
ثمة دراسات متزايدة عن الأشخاص متعددي اللغات. يولد الانسان في بيئة، فيكتسب لغتها. يولد في بيئة عائلية تعيش في بيئة اجتماعية مختلفة، فيكتسب لغة المنزل ولغة المدرسة والحي. يولد في بلد، ثم ينتقل، جبرا أو طوعا، إلى بلد آخر فيجد نفسه، خصوصا إذا كان في مقتبل العمل، وهو يتحدث لغة ثانية. يولد كرديا أو أمازيغيا في بيئة عربية، فيجد نفسه تلقائيا بلسانين. الكردي أو الأمازيغي نفسه ذي اللسانين يهاجر أو يدرس فيصير يتحدث بثلاثة ألسن. البعض موهوب تتوسع ملكات اللغة عنده، فيصبح موسوعة لغوية.
لا أريد أن أشير إلى معنى معرفة اللغة وأثرها في معرفة الثقافة. هذا كلام أكثر من كليشيه. لكن ما يهمني في الأمر يتجاوز هذا. لماذا نضيع هذه الفرصة المهمة للتلاقح الحضاري، ونتمترس خلف عنصرية ذاتية جاءتنا بالتنشئة أو الاختيار.
خذ مثلا المهاجر الآسيوي المسلم إلى الغرب. تخيل التلاقح بين أجمل ما في الشرق من حضارة وتاريخ وتراث، وأفضل ما في الغرب من تقدم ومنهجية. أو تخيل الانفصام بين أسوأ ما في الشرق من تشدد ورجعية، والأكثر اسودادا في الغرب من أوجه العنصرية والعنجهية. الخلطتان واردتان. وكل واحدة منهما يمكن أن تنتج شخصية تعيش في العالم الغربي وفق معطيات. ستجد الحاصل على جائزة نوبل للآداب ممّن مثل التلاقح الايجابي بين عالمين بلسانين مختلفين، وستجد الإرهابي الذي يطعن المارة من دون أيّ هدف وهو يصرخ بشعارات دينية.
تعدد اللغات يجب أن يكون ميزة وليس مشكلة. الأمر ليس القدرة على الترجمة، بل هو توفر فرصة الفهم. والذي يعيش بين الثقافات هو في موقع مثالي للقيام بهذا الدور.
ثنائيو اللغة، أو مشروع ثنائيي اللغة، ليسوا محظوظين دائما كما يعتقد البعض. عندما ينتقل طفل يتحدث العربية من سوريا إلى بلد غربي، سيعاني. يجلس أولا بين التلاميذ وهو غير مستعد. وعندما يلاحظ المعلم عليه عدم التجاوب، يعامل أسوة بالأطفال بطيئي الفهم أو من ذوي الاحتياجات الخاصة. هذا تأسيس سيء لشخصية الفرد الرابط بين ثقافتين. من مثل هذه المشاكل، تنشأ الاشكاليات بدلا من صنع الفرص. كان اللجوء إلى عالم الجريمة هو النتيجة الطبيعية فيما سبق. اليوم، الخطر الأكبر هو الإرهاب. ثنائية اللغة، أي ثنائية الثقافة، تنقلب ضدنا بدلا من أن تصنع الفرصة. بل في أحيان كثيرة تصنع خطيبا مفوّها بلغتين لخطاب الكراهية.
لا شك أن الحالات المتطرفة ليست القياس. البحوث الجديدة في رصد النشاط الدماغي تقول إن ثنائي اللغة يمارس ضبطا أكبر للسانه. ثنائي اللغة أو متعددها، يعتاد على لوك الكلمات قبل أن تخرج من فمه. باللاوعي، هو يخشى أن تهرب كلمة من لغة في ركن من عقله، إلى لسان آخر من الألسن التي يتقنها. باللاوعي أيضا، هو متريث ويعطي نفسه فرصة أكبر للتعبير. هذا لا يعني أنه أكثر حكمة بالمحصلة، لكنه أهدأ نسبيا. وهذا شيء يستحق منا، نحن المهتمين بالتواصل بين الثقافات والحضارات، أن نستثمر فيه. الكردي غير الغاضب أو الأمازيغي المتصالح مع بيئته، هما طاقة إيجابية عموما في مجتمعاتهم العربية. العربي الذي يعيش في الغرب، من خارج دائرة المزايدين عرقيا أو دينيا، هو طاقة إيجابية بالعموم. البعض يشكل حالة متميزة حقا. سواء أكان طبيبا أم سائق سيارة أجرة، هو عنصر مفيد.
المثقف الذي يتحرك بين الألسن واللغات، هو عربة التغيير والتواصل. أتحسر كثيرا عندما ألتقي بمثقفين أو مؤرخين أو سياسيين أو إعلاميين أغلقوا على أنفسهم باب لغة واحدة. بالحد الأدنى، نقرأ بلغة أخرى عن الكيفية التي نظر إلينا بها الآخر، وكيف ينظر. هذه مسألة لا علاقة لها بتوافر أدوات الترجمة، بل بالإحساس بالبيئة التي كُتبت فيها النصوص التي تتحدث عنا. وهذا لن يتم من دون هذا البعد اللغوي الجميل.
للمفارقة، فإن متعددي الألسن يصابون بالخرف مثلهم مثل الآخرين، لكن الخرف يتأخر عندهم بين أربع إلى خمس سنوات عن أمثالهم من أحاديي اللغة. الاستثمار في متعددي اللغة، بلغة المصالح، يعطي عائدا أكبر. هناك ربع مليون مفردة عربية. هناك نصف مليون مفردة إنجليزية. يبدو أن الدماغ يتفاعل بشكل إيجابي أكثر كلما ضغطنا عليه لزيادة خزينه من المفردات. كأن الدماغ يقول أريد أن أكون عقلا بلغتين لكي أعيش أطول.
ربما علينا أن ننصت لصوت العقل.