صورة النقد بين النقد الأدبي ونقد النقد
ولكن المشكلة لا تقع على النقد أو النص النقدي بل على تلك الطريقة التي ينتج بها هذا النص والذي أصبحت فيه الكثير من التعارضات ما بين الأكاديمي الذي لا يريد اجتراحات أخرى لعملية إيجاد علائق وعلاقات جديدة مع النص بحكم ما قيل عن فوضى استخدام المصطلحات والتطاول على النظريات والقفز على شروحات العملية النقدية التي جاء بها النقاد الكبار في العالم، بمعنى أن هناك اتهامات دائما تطلق من النقد الأكاديمي إلى النقد غير الأكاديمي، وهو ما ولّد صراعا كبيرا بين الفئتين إن جاز هذا التصنيف.. وقد خلف هذا التعارض أو الندية إن أردنا تخفيف المشكلة وحيثياتها إلى إيجاد نوع من فرضية المؤامرة على النقد، أو إن النقاد غير الأكاديميين يسيئون إلى النقد ومصطلحاته مثلما يعتدّ الطرف الآخر بجمود النقد الأكاديمي وعدم تخلّصه من قول الأولين وكأنهم يمسكون بأقوال مقدّسة لا يمكن الاقتراب منها، أو إن المصطلح صار شيئا لا يقبل المساس بشرحه وشروحاته، لأنه لا يجوز المساس بالطروحات الفردانية لهذا المفكّر أو ذاك، وهذا الناقد أو ذلك، وهو ما ولّد نوعا من عدم الراحة بين الاثنين، لأن الطرف الثاني غير الأكاديمي يعتقد أن من حقّه ولوج مناطق آهلة ومأهولة بالكثير من الشعب النقدية التي تتيح له حريّة طرح الآراء، خاصة وأن هذا الطرف أكثره من منتجي النص الأدبي وأصبحت لهم خبرة في طرق الكتابة وإنهم النقاد الأوائل لنصوصهم ونصوص مجايليهم حيث يتم تبادل المخطوطات في ما بينهم مثلا لمعرفة نواقص النص قبل طرحه كإنتاج نهائي.
وهنا لزم التفريق بين النقد كمحمول أدبي وبين نقد النقد كمحمول فكري على الرغم من أن الثاني ولد كما نعتقد من رحم الأول لأنه لا بد من المرور بالمحمول الأدبي قبل الولوج إلى المحمول الفكري الذي يحدد ماهية المصطلحات وأهميتها، وإن عدم التفريق بين الحالتين هو الذي أوصل إلى هذه النقطة من الصراع أو إيجاد مشكلة إقصاء الآخر أو البقاء في منطقة الانتقاص والإبتعاد عن النقد والانتقاد. وإذا ما اعتبرنا أن نقد النقد خطاب أيضا، فإن الاختلاف عن النقد الأدبي كونه يبحث في أدوات النقد ذاتها وليس عن آليات اشتغال النصوص، ولو إنه أيضا يعتمد في ولادته على النصوص المنتجة أيضا، حتى لو كانت نقدا أدبيا إذا ما سلّمنا بأن النقد هو نص أدبي قد لا يكون مخياليا وخياليا خالصا، وهو ما يعني أن نقد النقد هو الضابط الحقيقي لانفلات النقد الأدبي من آثاره العلمية وهو الذي يعطي المنطقة الوسطى لونها وأهميتها وملامحها والحفاظ عليها من فوضوية الإخوانيات النقدية الظاهرة، حتى لا يكون هناك تهديد للثراء المعرفي. لكنه من جهة أخرى تبقى كلّ تلك المسميات منوطة بالناقد نفسه، هل هو ناقد أدبي أو مشروع ناقد أدبي، أم هو يبحث عن آليات اشتغال نقدي جديد، فينتقل من حقل النقد المتعارف عليه إلى نقد النقد للتخلص من تبعية النقد إلى النص.
إن هذا الصراع نفسه قاد إلى حصول عشوائية في فهم الآليات التي هي بالأساس آليات متحرّكةٌ غير جامدة ومن حق أي واحد امتلاك أدوات المشروع النقدي التي لم يصل بها إلى مشروعية الناقد وهو ما معمول به في الكثير من دول العالم سواء في الصحف أو حتى دور النشر، حيث يوجد الصحافي الثقافي وهو ليس بناقد وكذلك المروّج الثقافي أو المندوب الثقافي الذي يقوم بالتعريف بالنص المنتج والترويج له، وهو يقدم ملمحا نقديا عنه بطريقة تنم عن فهم النص، حتى لو كان بطريقة الدعاية التجارية. بمعنى أن وضوح المنهج الإجرائي أو المستوى المنهجي للكتابة النقدية لا يعني وجود تقاطع بين الحالات النقدية وإن تعدّدت، لأن المهم هو أين يضع الناقد أو كاتب النص الأدبي نفسه لأنه لا بد من التفريق بين كونه كاتب نص نقدي أدبي وبين أنه يمارس فعل نقد النقد، ليؤشّر على أنه ناقد مفكر يأتي بالجديد المميز أو المبدع المخالف أو المناقش أو حتى المشاكس.
إن النقد الأدبي لا يعني حصول الشمولية في الرؤية الكاملة للعملية النقدية كما هي مطلوبة ومفروضة في وجودها في عملية نقد النقد وحتى هذه المساحة التي نكتب فيها الآن ليس مفروضا أن تقدم الحلول النقدية المنهجية الجامدة، بل هي محاولة لمناقشة الأمر، لوضع حد لهذا الصراع الذي بدأ بالتزايد، وصار هناك انتقاص من كاتب المقال النقدي الأدبي على أن كل من هب ودب يكتب نقدا، وهو يكتب رأيا نقديا لا يدخل ضمن فعالية نقد النقد الذي يختص به الناقد الأكاديمي في تقريب التوصيف كونه منتجا فكريا.. والحقيقة أن الصراع يتبوّب باعتقاد الناقد الأكاديمي إنه الأحق بالحفاظ على قيم المصطلحات التي جاء بها الآخرون، وإنه الأحق بالبقاء في هذه المكانة والإشارة إليه.
إذن.. هل هناك تعريف ثابت للنقد؟ إن الإجابة ستكون إن النقاد الكبار الغربيين تحديدا لم يكن عندهم التعريف في مكانة واحدة بل وصل أيضا إلى ما يطلق عليه ميتات الميتاميتا النقدية المتناسلة وهو أيضا تقدّم وإبداع يحاول مجاراة الواقع اليومي الذي لا يقبل السكون والركون إلى تعريف ثابت، لأن التحوّل في التقنيات مثلا يساهم مساهمة فعالة في التأثير على العلائق الاجتماعية والاقتصادية وحتى الدينية، وبالتالي فإنه يؤثّر على ثوابت النقد، لأنه دائما هناك تبعية نقدية تابعة لظاهرة نقدية سابقة والعكس صحيح.. خاصة إذا ما تمّ التفريق الجديد أيضا بكون الناقد الأدبي ليس منظرا في حين بالإمكان أن يكون ناقد النقد منظّرا لما هو جديد، وهو الذي يضع التوصيفات الجديدة لأنه يمتلك إمكانية المناقشة وطرح المفاهيم الجديدة بلا عشوائية، وإنه يمكن الاستفادة من كلّ العشوائيات المطروحة بسبب ما يعتقد بغياب المنهجية في النقد الأدبي من خلال تبويب النقد العشوائي وجعله بمسارات صحيحة من خلال ترتيب الفوضوي والعشوائي بعلميته وفكره.
بمعنى أن النقد الأدبي يمكن أن يكون محمولا جديدا أو انبثاق فكرة جديدة لكي يكون نظرية جديدة، لها محمول ميتاوي جديد إن صحّت التسمية، لأن الميتات العديدة لن تتوقّف عن التناسل والتقدم، حالها حال التطبيقات التقنية التي تجتاح العالم.. وهنا يمكن التأشير الكلّي للمعنى: إن النقد الأدبي لا يعني اختصاصا علميا أو إنه منحصر في ذات نقدية، بل هو أمر مشاع لا يدخله إلا من هم منتجو النص لأنهم الأدرى بتلك العلائق النصية التي ترتبط في كيفيات نشوئها.. في حين إن نقد النقد يحتاج إلى منظر مفاهيمي ومنتج لمصطلحات علمية قابلة لتبيان المعنى الحقيقي للنقد، لتكون له أهمية ومسؤولية في إظهار النقد على أنه نصّ آخر، وإن نقد النقد بناء نص جديد يضم النقد والنص معا، وتلك المفاهيم التي هي موجودة في الطريق على قول الجاحظ إن المعاني مطروحة في الطريق، وكأنه اختصر الطريق في بقاء جدلية المعنى واللفظ والتي تحتاج إلى معرفة المفاهيم ذاتها، على أنها ليست جامدةً ومن حق أي واحد الدخول في حيثياتها وإنه حتى لو كان عشوائيا، فإن المنظر النقدي بإمكانه الاستفادة من هذه الفوضى والعشوائيات لإنتاج منهج علمي قادر وقابل على ملاحقة المنجز النقدي كونه معنيا بنقد النقد.