ضحايا وجلادون في مواجهة روائية
يبني حدّاد عنوان روايته -نشرتها دار الريّس، بيروت 2014- على عنوان رواية نيكوس كازنتزاكيس الشهيرة “الإخوة الأعداء”، ويضع “السوريّون” بدلاً من “الإخوة”، في إشارة إلى الأخوّة الواقعيّة والمفترضة والمنشودة، رغم سيل الفتن التي تعرّضوا لها، وكيف أنّ رباط الدم ينبغي أن يظلّ في سياق الحرص على سلامة الإخوة لا الفتك والتنكيل بهم من قبل إخوتهم المفترضين، ثمّ كيف أنّ السلطة تعمي البصائر وتفسد الأخلاق، وتدفع الأخ إلى قتل أخيه والقضاء عليه.
يخصّص حدّاد الشطر الأكبر من روايته لسرد الأحداث الدموية التي شهدتها مدينة حماة السورية في أوائل الثمانينات من القرن العشرين، ويعود إلى ما قبل ذلك بعقود، ليصف التدرّج الذي أوصل الأمور إلى ما آلت إليه من خراب ودمار، كما يصف أدوار بعض الشخصيات في المجريات والمهام المنوطة بها، حيث يتبدّى كأنّه يؤرّخ ما تعامت عنه الرواية الرسمية، ويوثّق روايات الشهود وحكايات الضحايا.
خطوط الدم والعنف
يبرز صاحب “المترجم الخائن” امتدادية النظام بين الأمس واليوم، واستمراريّته على سياسة التفتيت التي انتهجها داخل البلاد وخارجها، وانتهاجه خطّ الدم الذي وصل من خلاله إلى سدّة الحكم، والتزامه بخيط العنف الذي يربطه إلى جذوره ويبقيه قائماً بقوّة السلاح والفتك والتدمير والتنكيل. ويظهر واقع استمرارية المعالجات الأمنيّة الدمويّة التي استعان بها لنسف مدينة حماة ومعاقبتها عقوبات جماعيّة بغية جعلها عبرة لكلّ المدن السوريّة التي قد يخطر لأبنائها الثورة على النظام أو معارضته.
تتصاعد أحداث الرواية في عدّة محاور واتّجاهات، يدور صراع معلن بين الشخصيّات التي يمثّل كلّ منها طرفاً أو تيّاراً ما. من الشخصيّات الرئيسة؛ النقيب سليمان الذي يتحوّل إلى المهندس ويكون المجرم الشبحيّ في النظام، يكون طائفيّاً حتّى النخاع، يبدأ مسيرته بالوشاية بخاله المعارض لممارسات الأسد في بدايات انقلابه، ولا يهتمّ سليمان لنبذه من قبل أسرته، بل يسير وراء هوسه بالسلطة، تعميه شهوة القتل والتسلّط، يحمل كثيراً من العقد النفسيّة في داخله، يكون مشوّهاً في قرارته، يحاول التعمية على قلقه ووساوسه المرضيّة بتقديم ولائه المطلق لسيّده الذي يستغلّ تلك الروح العدوانية لديه، وينقله من الجامعة التي يفشل على مقاعد دراستها إلى صفوف الجيش ليمارس دوره في الوشايات والفتن، ثمّ لينقله إلى القصر ليكمل دوره المنوط به.
في المقابل يكون هناك الطبيب عدنان الراجي ابن مدينة حماة، الذي يقتل النقيب سليمان جميع أفراد أسرته في منطقة الكيلانية بحماة أثناء الأحداث، وينجو ابنه الرضيع الذي يوصله المحسنون إلى عمّه المحامي في العاصمة دمشق، ليتكفّل به ويرعاه. يدخل الطبيب الراجي في متاهة الاعتقال ويكاد يُعدَم في أكثر من مرّة ومناسبة، لكنّ الموت يغافله، ويظلّ الشاهد الشهيد على إجرام النقيب المتجدّد وإجرام النظام اللامحدود.
يتحرّك النقيب؛ الذي يخرجه رئيسه من الجيش ويوظّفه في القصر، انطلاقاً من حساسيّته الاستخباراتية إزاء ما يسمّيه مؤامرات، إذ لديه حسّ خبيث بالدسائس وتلفيقها، حيث يوقف نفسه لتخطيطها وتدبيرها وعرضها على سيّده الذي يمنحه سلطة مفتوحة للقتل والإجرام، يتغاضى عنه لأنّه ينفّذ رغباته المجنونة، ويفتك بأعدائه المفترضين، ويسعى إلى إرساء سلطته من خلال الاغتيالات والتصفيات، ويبتكر له أساليب قذرة في سبيل دعم مواقفه والسعي لتأبيده وتأليهه. وتكون هناك لميس التي تكون معادله الأنثويّ، المنقادة لشهوة تكنيز المال عبر أساليب ملتوية.
يتحرّك صاحب “جنود الله” في أكثر من اتّجاه، يسير وفق إيقاعات مختلفة، هناك خطوط السجن وما يعترك فيها، وهناك دهاليز القصر والسلطة وما يدور في خفاياها، كما أنّ هناك خطّ البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنقابية وكيف يتمّ تصويرها وتكييفها وقولبتها بما يخدم شخص الرئيس الطائفيّ الذي يجيّر الطائفة لخدمته ويضع الكثير من أبنائها في فخاخ سلطة القتل والإجرام، عبر استدراجهم من خلال المناصب والامتيازات إلى مستنقعه وتقييدهم بالولاء المطلق له.
يصوّر حدّاد تفاصيل سجن تدمر الصحراويّ المرعب، ذاك الذي كان شاهداً على إجرام سلطة ما فتئت تمارس أفظع أنواع التعذيب والتنكيل بالسجناء، تجرّدهم من إنسانيّتهم. ويكون تصوير واقع السجن مؤثّراً ناقلاً لعوالم الجنون والضياع، حيث يتمّ تحويل السجين إلى وحش ينهش نفسه وزملاءه السجناء، والاشتغال على اقتصار عالمهم على مشاعر الانحطاط والدونية والقذارة.
يقتفي الروائيّ أثر الممارسات السلطويّة وسياساتها القمعية ودورها في تحويل الدولة إلى إقطاعة بأيدي عائلة الأسد والمنتفعين المتحلّقين من حولها. يستعيد تفاصيل الأزمات التي مرّت بها المنطقة، والدور الخبيث الذي اضطلع به المهندس في الظلّ في حرب لبنان أثناء الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت وما بعدها، وصولاً إلى تأليب اللبنانيين على بعضهم بعضاً والتنكيل بهم، عبر الاحتلال المباشر بتفويض عدائيّ.
يكشف حدّاد النقاب عن فساد السلطة وإجرامها، وكيف أنّها كانت وما زالت تحمي المتورّطين معها، وفي المقابل كيف كانت وما زالت تقضي على مَن يتجرّأ من داخلها على إبداء أيّ تذمّر أو معارضة لرغبات الطاغية أو أوامره، ويكون الجميع في حالة استعداء وكراهيّة وتباغض، تعميهم شهوة الإجرام والسلطة، يتربّصون ببعضهم ليمارسوا الفتك تجاه مَن يخمّنون لديه توجّهاً مختلفاً.
تشويه الحياة السوريّة
يظهر صاحب “خطوط النار” سبل النظام في تشويه الحياة العامّة في البلاد وتعكير صفوها، عبر إفساد الجميع، وجعلهم مدانين وتحت الطلب، وإبقاء ملفّاتهم على رفوف تنتظر اللحظة المناسبة لفتحها والفتك بأصحابها. كما يبرز أثناء ذلك صيغ نسف بنية مؤسّسات الدولة وتحويلها إلى دوائر تابعة للمخابرات والأجهزة الأمنية المتعدّدة المتضاربة المتصارعة فيما بينها، ويركّز على سلك القضاء الذي يكون الضحيّة الكبرى، ويصف كيف أنّ البلد ظلّ من دون قضاء عادل طيلة عقود، وظلّ رهن رغبات المخابرات والسلطة لا غير، حيث أنّ العدالة المفترضة ظلّت سيفاً مسلطاً على رقاب الفقراء والبسطاء والأبرياء لا غير.
يستعيد الروائيّ مراحل هامّة شكّلت منعطفات مرّت بها سوريا، وظلّت في ذاكرة السوريّين من دون أن تعرف طريقها إلى التوثيق أو الرواية، منها الصراع بين حافظ الأسد وأخيه رفعت على السلطة، وكيف وصلت الأمور إلى ذروة الاصطدام والمواجهة بينهما، وأوقات الترقّب لدى المرتزقة لتقديم ولائهم لهذا أو ذاك في صراعهما للاستيلاء على سوريا وتحويلها إلى مزرعة خاصّة وتوريثها فيما بعد.
كما ينتقل لتوصيف الأوضاع التي استجدّت في سوريا بعد اندلاع الثورة السوريّة في مارس 2011، وكيف تمّ اللجوء إلى الأساليب القديمة التي انتهجها النظام في حماة للقضاء على الثورة وتحويل البلاد كلّها إلى كتلة من اللهب والنار والدمار. والشعار الذي رفعه النظام “الأسد أو نحرق البلد” وأثناء ذلك يصف الصراع المحتدم بين أركان السلطة، والمسارعة إلى تقديم الولاء عبر تقديم مقترحات إجراميّة للقضاء على التحرّكات والاحتجاجات الشعبيّة.
يشير الروائيّ إلى أدوار بعض المثقّفين الطائفيّين في إفساد واقع الثقافة في البلاد، وكيف أنّهم كانوا أداة بيد السلطة، وفي الوقت نفسها استغلّوا السلطة لتصدير أنفسهم وتحقيق الامتيازات الكبرى بسلوكيات انتهازية رخيصة، وظلّوا مواظبين على طائفيّتهم المديدة التي ظلّت بالنسبة إليهم قوقعة ودريئة في الوقت نفسه، مع زعمهم التحرّر والتجديد والانفتاح، إلّا أنّهم ظلّوا في سلوكيّاتهم وممارساتهم أذيالاً للنظام وواجهات ثقافيّة له في الوقت نفسه، يجمّلون قباحاته، ويحاولون إضفاء الشرعيّة عليه، ولو بتمثيل جانب المعارضة الشكليّة واستعراض بعض المزاعم الجوفاء، في حين أنّهم في حقيقتهم وجوهرهم مدفوعون بطائفيّة تنخر أرواحهم وبنيانهم.
يختم حدّاد روايته بإجراء مواجهة بين المجرمين وضحاياهم، يقف الطبيب في مواجهة المهندس، يتعرّف إليه، ويسعى إلى الانتقام منه تالياً، وحين يقف أمامه حاملاً المسدّس وقادراً على قتله، لا يقدم على ذلك، لا يريد أن يتحوّل إلى قاتل، يتركه للعدالة المفقودة التي عساها تتحقّق، يمضي إلى دوره في معالجة جراح أهله في الأماكن التي يكون فيها فاعلاً ومؤثّراً، ويبقيه ليواجه مصيره، وبالفعل تتحقّق نبوءته، إذ يقع في براثن شروره وشراك جرائمه، ويصل إلى نقطة يُطلب منه الانتحار على طريقة نحر المسؤولين الذين كان يصفّيهم النظام حين تنعدم الحاجة إليهم، أو حين يتجاوزون الخطوط المسموح لهم بها. وبينما يهمّ بتصويب المسدّس إلى نفسه يعرض افتراضه المبتور الذي لا يقدّم ولا يؤخّر بعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
يضع فوّاز حدّاد النقاط على الحروف في روايته، ينطلق من مركزيّة دمشقيّة في مواجهة مدّ طائفيّ اشتغل عليه النظام لعقود في مسعى منه لتشويه دمشق وأهلها وتاريخها، يسمّي الأمور والأشياء بمسمّياتها الحقيقيّة من دون ترقيع أو تهرّب أو تجميل، يحاول سدّ الفراغ التوثيقيّ في الرواية السوريّة المعاصرة، ويتغلغل في دهاليز قصر الطاغية وأروقته ليرصد التحرّكات التي كان يشهدها، والتي كانت ترسم مخطّطات التآمر على البلد والبلدان المجاورة، وبخاصّة لبنان، ويلتقط تفاصيل يهجس بها الطاغية لنفسه، يقوم بتظهيرها كصور ومشاهد روائيّة، يقدّمه في حلّته الوحشيّة وينزع عنه أقنعته الكثيرة ليبرز وجهه العاري.
يركّز الروائيّ على سرد تفاصيل كثيرة، سواء تفاصيل ما حدث في حماة، أو في السجن، أو في لبنان، أو في القصر، أو في الثورة وما تلاها، وتنساق الرواية وراء الجانب التقريريّ والإخباريّ في بعض المواضع، مع تكرار لبعض التفاصيل واستعادة لها. ويقدم سيَر عدد من الفاسدين الذين يمكن التكهّن بأشباههم في الواقع السوريّ، والتعثّر بنسخ لهم في أكثر من مكان.