ضرورة نقد الضحية
من “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” إلى “طبائع المعذبين ومصارع الموهومين”، من عنوان رسالة عبدالرحمن الكواكبي إلى افتتاحية نوري الجراح، إنها مسافة مئة عام من الهزائم والنكسات والخيبات، مصحوبة بصخب الثرثرات المدويّة بلا فائدة، وفي النهاية خرجنا خاوين بالكامل، منخورين من الداخل، ويا له من مآل! غير أن للحكاية تفاصيل باقية: عندما صار الداخل خاويا أصبح الخروج ملاذا تلقائيا مثل العصيانات العفوية، وهكذا تداعينا في لحظة حلم خاطفة، وفي غفلة من الزمن ومنا أيضا، لأجل الخروج من الداخل المنخور إلى داخل من نوع آخر.. ثم خرجنا على حين غرة.. لكن إلى أين؟
الدرس نفسه ننساه لكنه لا ينسانا: لا نخرج من الاستبداد إلا لكي نقع في أتون الفتنة، ولا نخرج من جحيم الفتنة إلا لكي نسلّم رقابنا لاستبداد ننحته بسكاكين حادة، ثم نغمدها في انتظار أن تحين ساعة الفتنة التي لا تبقي ولا تذر، قبل أن نلقي باللائمة على المتآمرين علينا، وكل ذلك ضمن حلقة مفرغة من خروج يعيدنا مرة بعد كل مرة إلى المربع الأول، إلى حظيرة القطيع، حيث مجمل خياراتنا أن نختار من يذبحنا؟ طبيعي والحال كذلك أن تتعامل كثير من العقول مع التدخل التركي والإيراني في المنطقة العربية بمنطق أن الاحتلال مثل الصدقة في الأقربين أولى !
حين أسمع تعقيبا على النحو التالي، أن تستعمرنا إيران أو تركيا لهو أزكى لنا من أن تستعمرنا فرنسا أو أميركا، أشعر بأن سؤال الحرية بعيد كل البعد عنا، وبأن سؤالنا الأوحد الذي لا نطرح سواه هو لمن نسلم أعناقنا بعد أن سلمنا عقولنا؟
ذلك هو الحال كما كان ولا يزال إلى الآن، منذ الفتنة الكبرى وما قبلها إلى غاية الحروب الأهلية الجارية اليوم وما بعدها. كأن قدر التاريخ الهجري أن يكون خلدونيا محكوما بالدوائر التي تدور مثل الرحى بين جحيم الفتنة وجمر الاستبداد.
أين المعضلة؟
تكمن المعضلة في أن كل واحد منا يحمل أصناما وألغاما داخل كينونته، وهي التي تحدد له سلفا حدود الطاعة والحرية، وترسم له الأفق الممكن وغير الممكن في اللاهوت والسياسة. وحين يقول الخطاب القرآني “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فلأن أفق التغيير الممكن مرسوم داخل الأذهان قبل الأعيان.
قبل أن تندلع الحرب الأهلية داخل المجتمع فإنها تندلع داخل كل ذات على حدة، حين يجد المسلم نفسه في حرب أهلية مع عقله، حواسه، جسده، ميوله، أسئلته، خياله.. إلخ، يسهل عليه الدخول في حرب أهلية مع الآخرين، كل الآخرين، مع الجميع.
من غير المؤكد أن الاستبداد سينهار قريبا، لكن المؤكد أن الثورات قد انهارت بالفعل، بل لعلّها لم تكن في أساسها سوى طبعات متأخرة لـ”الثورة المغدورة”، غير أن المتأخرين يعاقبهم التاريخ كما يقال، ثم إن كل ثورات التاريخ ليست سوى نسخ متكررة للثورة المغدورة، طالما لا تأتي النتائج وفق التوقعات، هي الحكاية نفسها على الدوام. فهل كنا نأمل في آمال مغايرة هذه المرة؟
الحوار الذي أجراه نوري الجراح مع عبدالرحمن الكواكبي في قبره، وهو مثل المناجاة في اللحظات العصيبة، كان جميلا وجليلا، لكنه لم يكن مجرد حوار بين الأفكار، بل كان حوارا بين أفقين للتفكير: من جهة أولى “طبائع الاستبداد” التي توجه سهام النقد نحو منظومة الاستبداد، و”طبائع المعذبين” التي توسع من دائرة النقد لتشمل “الضحايا” أيضا. إن الخطأ القاتل في تاريخ “الضحايا” ليكمن في اعتبارهم محصنين من النقد لا لشيء إلا لأنهم ضحايا. هذا الخطأ له اسم محدد: عصمة الضحايا.
في كل الأحوال، لا خلاص في الأفق القريب أو الأقرب، وبهذا النحو نكون قد التقينا بالسؤال اللينيني في المكان الذي لا نتوقعه: ما العمل؟
قدرنا هو العود إلى البدء، غير أن العودة يجب أن تكون كما ينبغي هذه المرة:
البدء أبداء عديدة، وهذا أحدها: اِقرأ. ألسنا أمة اقرأ؟
التعليم، الثقافة، التربية، التنوير، هو شغلنا الحقيقي الذي انتبه إليه الكواكبي قبل أن نغفله أو نغفل عنه في غمرة أوهام السياسة. وأوهام السياسة لا حصر لها، من ضمنها الاعتقاد بأن السياسة بوسعها أن تحلّ كل مشاكل الحضارة والوجود والعقل والتاريخ وهلم جرا. وهذا مجرد هراء.
المسافة الزمنية بين عنوان الكواكبي” طبائع الاستبداد، وعنوان الجراح “طبائع المعذبين”، تحتلها كثير من النظريات في الفلسفة السياسية، يمكن استحضارها.
مثلا: وفق مقاربة ميشيل فوكو لمفهوم السلطة، ليست السلطة جوهراً متعالياً، بل روح تسري فينا جميعاً وتنتشر في كل تفاصيلنا اليومية، ثم يملك كل واحد منا نصيبه من التواطؤ فيها، حتى وإن كانت تسحقه في الأول أو في الأخير. لا تنحصر السلطة في مكان محدد، ولا تهبط علينا من فوق، لكنها تنتشر أفقياً وعمودياً وتسري يومياً في كل المسارات والساحات والمؤسسات. لذلك ليس سلوك الحكام سوى قمة ظاهرة من هرم عريض في القعر، يمتد في الأعماق ليشمل كل التفاصيل المرئية وغير المرئية للمجتمع: أنظمة الرموز والدلالات، نمط الإنتاج الاقتصادي، نمط إنتاج الحقيقة، اللاوعي الجمعي، بنية الأسرة.. إلخ. هنا يكمن مغزى مقولة تشرشل “كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها”. وهي مقولة تشبه حديثاً منسوباً إلى رسول الإسلام “كما تكونوا يولى عليكم.”
هل معنى ذلك أن الإجابة عن السؤال “ما العمل”، هي أن لا شيء ممكن؟
يرى ميشيل فوكو أننا ليس بوسعنا أن نفعل الكثير، لكن لا بدّ من أن نفعل شيئاً ما، إذ هناك دوماً ما يمكن فعله. وطالما السياسة فن الممكن كما يرى لينين، فما هو الممكن الآن؟
المعطى الأساسي أن النظم السياسية لا تتغير جرّاء تغيير الحكام، أو تغيير المسؤولين أو طردهم – حتى ولو كان طرد بعض المسؤولين يحمل بعض الإنصاف أحياناً – لكن يتغيّر النظام السياسي جرّاء تغيير تلك الرّوح التي تسري في كل الحيثيات والجزئيات التي نصادفها يوميًا. لعلها مهمة شاقة على الحالمين، محبطة للناقمين، طالما أنها تراهن على تغيير العقول والأذواق، رويدا رويدا، وبعيداً كل البعد عن عقيدة الخلاص، لكنها في الحساب الأخير تظل المهمة الثورية الفعلية بكل المقاييس، دونها ستغدو الممارسات الثورية مجرد حملات دونكيشوتية، أو حفلات تنكرية، أو دوران في حلقات مفرغة تعيد إنتاج نفس التسلط بأقنعة مغايرة.
إن كان منتظراً من المثقف أن يكون شخصاً مزعجاً للسلطة كما يقال، فإن التعبير الأدق أن يكون مزعجاً لروح السلطة التي تسري في كل التفاصيل، من القوانين الجنائية إلى تقاليد الزواج، ومن مؤسسات الدولة إلى نمط اللباس، ومن نمط الإنتاج إلى طريقة تناول الطعام. دعنا نقولها بوضوح: جبهتنا القادمة، وهي الجبهة الباقية أيضا، تتعلق بإصلاح العقل والحضارة والكينونة.
نتحدث تحديداً عن المثقف اللّاخلاصي – ولعل فكرة اللاخلاص جوهرية في نص نوري الجراح – بحيث يبقى أفق المثقف اللاخلاصي خارج حسابات السلطة. إنه لا يحرّض أحداً على أحد، طالما هو ناقد عمومي للجميع، للدولة والمجتمع، للسلطة والرأي العام، للنخب والجمهور، إنه ناقد لروح السلطة بمعناها العام. ذلك أن التغيير بالمعنى الفوكوي ليس وسيلة لإقامة نظام نهائي ومطلق، بل سيرورة دائمة ومتواصلة، يتعلق الأمر بنوع من الثورة الدائمة إذن، لكن دون أيّ أفق خلاصي هذه المرة، بحيث لا غاية أخرى سوى أن لا تتوقف صيرورة الحياة.
ليس ضرورياً أن أؤمن بأن الجنة غداً حتى أتصرف الآن؛ ذلك أن الإيمان بالخلاص الدنيوي هو أصل الإحباط الذي يصيب كثيراً من الثوريين وبالتالي يتحولون في كثير من الأحيان إلى مرضى ناقمين على كل شيء، ساخطين على كل شيء، متذمرين من كل شيء، قبل أن يلجأ بعضهم الآخر إلى استبدال الخلاص الأخروي بالخلاص الدنيوي.
علينا أن نتعلم درس التغيير
المهمة الأكثر ثورية في التاريخ أن نُعلّم الناس كيف يفكرون؟ وكيف يختبرون بأنفسهم إمكانيات أخرى من التفكير وبما يقلص من الانفعالات السلبية التي هي شرارات الفتن كلها؟ ذلك أن تحسين شروط التفكير لدى الناس من شأنه أن يقود عملياً إلى تحسين السلوك المدني، وتحسين شروط الحياة، بعيداً عن خرافة عصر ذهبي قادم في الأفق، أو عائد من جديد، بعيدا كل البعد عن أساطير الخلاص.
ليس الثوري من يُعلّم الناس الشؤم والشكوى والتذمر وما إلى ذلك من أمراض الروح، لكنه من يعلّمهم مهارات الحياة، ويؤجج إرادة النمو باستمرار سواء في ذاته أم في سائر الذوات التي تقاسمه الحراك، وذلك بالعمل على انتقاء الصياغة المناسبة للأسلوب الحكيم، كما ليست مهمته أن يبشّر الناس بوعود عظيمة مثلما يفعل الأنبياء وأشباههم.
بعد كل ذلك فإنه لا يعلم إن كان سيحقق نتائج جيدة خلال حياته القصيرة، لكنه في كل أحواله يعيش معافى من الحقد والكراهية والتذمر، فيحقق لذاته ذلك النمو الذي هو على نفسه حق، وتلك البهجة التي هي على نفسه حق كذلك، فيكون سيد نفسه بالفعل، وبالجملة فإنه يحيا باعتباره مواطناً إيجابياً جديراً بالمواطنة، في نفس الوقت الذي يعيش فيه حياة كريمة جديرة بالحياة. وهذا أعز ما يُطلب في كل الأحوال والأهوال.