طائر الجنة
عندما كنت في العاشرة كنت مهووساً بصناعة التماثيل الصغيرة وقراءة مجلة بساط الريح. أكثر ما كان يلهب خيالي فيها هو ذلك الصراع المستمر بين رعاة البقر والهنود الحمر في قصص الويسترن الشيقة. فأحمل في الظهيرات كتلة كبيرة من الطين الحرّي مغطاة بقطعة جوت رطبة وأصعد بها إلى السطح لأجسد أبطالي في عالمي الخاص الذي أقمته هناك. عشرات الخيول وقطعان الأبقار ورجال العصابات الأشقياء وزعماء الهنود الحمر الذين يوشون رؤوسهم بأكاليل ريش الصقور ويدهنون وجوههم باللون الحمر.
كنت أستعين بشظايا القصب وبقايا التبن ومكعبات الطين الصغيرة المجفّفة. وكان عالمي ينمو يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر حتّى تحوّل إلى مستعمرة كبيرة امتدت على جانب لا بأس به من سطح الدار المنزوي الذي تظلّله نخلة وارفة تنبت في فناء البيت المجاور لبيتنا. حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي جلبت فيه شهادتي المدرسية راسباً في الصف الخامس الابتدائي بمادتي الإنكليزي والرياضيات، وعلى الرغم من أنني كنت أملك فرصة أخرى لاجتياز امتحان الدور الثاني، إلا أن أبي صعد إلى السطح وسحق عالمي كله مبدداً جهود أشهر طويلة من العمل المضني الذي لم يكن يخلو من موهبة واضحة آنذاك.
لم يطّلع على عالمي ذاك قبل تدميره في الحقيقة سوى فاطمة ابنة الجيران التي كانت تطل برأسها مُندهشة وهي تتأمل كائناتي الصغيرة ودقّتها، فراحت تبكي بحرقة على مدى ثلاثة أيام متواصلة، بينما اكتفيت أنا بكتم حقدي الدفين واحتواء حزني، فقد شعرت لحظتها كما لو أن صدري الصغير قد هصرته شاحنة كبيرة، وقررت منذ تلك اللحظة الانكفاء إلى داخلي.. وصرت أبحث عن بديل لا يصل إليه أحد لأقيم فيه عوالمي الخيالية ومحاكاة ما أقرأه من مجلات وكتب، فكانت القصص التي رحت أتخيلها وابني عوالمها في رأسي بعيداً عن غضب أبي، المشكلة الوحيدة التي واجهتني هي كيف ستتمكن فاطمة ابنة الجيران من الاطّلاع على تلك العوالم، وبعد مناقشة مطولة عبر سياج السطح اقترحت عليّ تدوينها كتابة.
فبدأت من تلك النقطة تحديداً حكايتي مع القِصَّص. كانت أمي قد لاحظت انكفائي وعزلتي مع كتبي ومجلاتي، وسألتني أكثر من مرّة عن سبب تركي لهوايتي السابقة في صنع عوالمي الطينية، وعرضت عليّ حمايتها من غضب أبي إن كان الأمر يريحني، فأخبرتها وقتها بأنني وجدت طريقة أخرى لبناء تلك العوالم في مكان بعيد لا يمكن أن يصله أبي في حال غضبه، واندهشت للفكرة لكنّها تحمست لها كثيرا، لا سيما وأنّها كانت قارئة جيدة للمجلات ومتابعة للأفلام الأجنبية التي كانت تعرض في التلفاز.
وهكذا راحت قِصصي تتوالى وتتطور باستمرار، لكن حتّى تلك المرحلة كانت فاطمة قارئتي الوحيد المأسور بما أكتب، وكانت أمّي تخوض النقاش تلو النقاش مع أبي من أجل أن يتركني أقرأ واكتب، وراحت توفّر لي الحماية وكل ما يلزم لأواصل موهبتي التي آمنت بها مبكراً جداً، وعندما أصبحت في المرحلة المتوسطة أعجب مدرّسي بإحدى قصصي وقرر إرسالها إلى صديق له يعمل في إحدى الصحف، وبعد أيام فاجأني وهو يحمل الجريدة التي نُشرت فيها قصتي الأولى «بصيص من الأمل» فتغيرت نظرتي للعالم كليّاً منذ تلك اللحظة. وفي المساء فردت أمي الجريدة أمام أبي الذي كان مسترخياً ويشرب الشاي.. «أنظر.. اسم ابنك منشور في الجريدة.. ألم أقل لك إن هذا الولد مختلف؟..
الآن ستدرك بأن الحقّ كان معي حين حميته وافتخرت به..». نظر أبي إلى الجريدة بغير اهتمام، قرأ عنوان القِصَّة واسمه المقرون باسمي الأول، ثم سرعان ما ألقاها جانباً بتبرم وقال «وماذا يعني؟.. هل سنأكل الخبز بهذه القصة المنشورة؟..»، فشعرت بالحزن يُذيب روحي ويحطّم نفسيتي، لكن أمي أخبرتني لاحقاً بأنه يحبني وإنما أخذته العزة بالإثم، وهو سعيد بداخله الآن لكنه من النوع الذي لا يجيد التعبير عن حبه وسعادته، فصدّقتها، وهكذا استمرت أمّي بالتحرش به كلما نُشر لي نص جديد، وفي كل مرة يلقي أبي الجريدة أو المجلة جانباً، أحياناً يكتفي بالتبرم وأحيانا يُعلّق تعليقات ساخرة من الأدب والثقافة عموماً.
حتّى جاء اليوم الذي فازت فيه إحدى قِصصي بجائزة قيّمة ومنحوني مبلغاً لا بأس به من المال، فسلّمته فرحاً لأمّي التي احتضنتني وقبلتني، وكانت المرّة الأولى في حياتي التي أمنح فيها المال لعائلتي، بعد أن كنت على مدى سنوات طويلة أخذ مصروفي اليومي منهم وأرهق أبي بطلباتي. وفي المساء، عندما عاد أبي من العمل وضعت أمي المال الذي أعطيته لها بيده، فنظر أبي إليه مليّا وسأل أمي عن مصدره، فقالت له بفخر بأنّه مكافأة للقصص التي أكتبها، فاندهش أبي أوّل الأمر كما لو كان غير مصدّق، ثم قال لي متسائلا: هل يعطوك المال مقابل تلك القصص التي تنشرها حقّاً؟.. فأجبته بنعم، قال: «لكنه مبلغ كبير!؟»..
قلت: «نعم.. هو مكافأة عن قصة جيدة فازت بجائزة مهمة».. كانت أمي تنظر إليه وتبتسم بحب بينما اكتفى هو بقسم المبلغ إلى قسمين احتفظ بنصفه وأعطى النصف الثاني لأمي كي توفره لي في حال احتجت إلى أيّ مصاريف. وفي الليل عندما تصنّعت النوم اقترب أبي مني وقبلني على جبيني وداعب غرّتي وأحكم الغطاء حولي.
في السنوات اللاحقة، وبعد أن صدرت لي الكتب وتحولت إلى شخص آخر مختلف كلياً عن إخوتي وأخواتي، ظلت أمي تفخر بما أنجزته وتتباهى أمام أخواتها وأقاربها، وعندما أزورهم تحرص على صنع أفضل الطعام لي وتحث أخواتي وزوجات إخوتي على المبالغة في الاحتفاء وهي تقول «ويلكن.. هذا ابني الأديب والكاتب المعروف يزورني.. هذا ثمرة تعب السنين الذي رأيت فيه ما عجزت عن تحقيقه بسبب انشغالي بتربيتكم، هذا المختلف عنكم جميعاً الذي يصر على رفع صحنه بيده بعد الأكل ليغسله بنفسه، هذا صديق أخواته والحاني عليهن والمُدافع عن حرية اختيارهن، كلكم تدينون له بحياتكم».
الآن وبعد كل هذه السنين، رحلت أمي إلى دار الحق ولم أكن لحظتها في العراق، وعندما عدت بعد أشهر، زرت قبرها وجلست ساعة كاملة عند قدميها أناجيها وأحدثها عن القصص والروايات التي كتبتها والتي سأكتبها، حدّثتها عن «خان الشّابندر» و»لا عذارى في حلب» و»ببغاء المجنّدة»، أقصد حدّثتها عن فخرها وإيمانها بي منذ نعومة أظفاري حتّى صرت كهلاً، وكيف كانت لي وطناً وخيالاً وأمانا ودافعاً للتحليق بأجنحتي الخاصّة في خضم الحياة المضطرمة، وتساءلت في سرّي، كيف يصبح المرء كاتباً من دون أمّ؟ أقصد كيف يتسنى له الإبحار في الخيال من دون طائر جنّة أخضر يحرسه في الليالي ويحطُّ على حافّة الروح؟