طائر الجنة المفقودة
في عام 2012 اضطر خيري الذهبي إلى الخروج من سوريا، مرغماً كما الكثيرين. عندما غادرها لم يكن في حساباته عدم العودة إليها، مدركاً أن مشواره في الداخل قد تعطل، وحان الوقت لمعاودته من الخارج. تابعه في القاهرة والإمارات وعمان، واختتمه في فرنسا، وكأن الموت في المنفى قدر هؤلاء الذين يناضلون بلا كلل، وحتى الرمق الأخير.
كان البقاء في سوريا مستحيلاً، خاصة أنه واحد من المطلوب إسكاتهم، وإذا كان قد سكت نحو عام كامل، أي لم يتكلم بصوت عال ليسمعه من يريد إيصال صوته إليهم، فعلى أمل انتصار الثورة، وسقوط النظام. أما وقد بدأت الثورة بالتراجع، بعدما غُدر بها، وأصبحت رهينة الدول الكبرى والإقليمية، ورهينة إرهاب النظام وإرهاب الظلام، فالصمت أصبح جريمة. اعتاد خيري الانتظار لا الصمت.
خلال مشواره الأخير بين البلدان التي حل فيها، أعطي خيري المثال الأكثر وضوحاً على نشاطاته التي لم تهدأ، رغم أن الحياة في الغربة بعيداً عن دمشق، ثقيلة ومرهقة وغير مستقرة، ولو كانت من دون رقابة ومخابرات ووشاة، والأوغاد من مثقفي النظام.
ما أعطاه خيري خارج سوريا، لا يقل أبدا عن رحلة العمر الذي قضى أغلبها في الداخل، أخذت الدكتاتورية أربعة عقود من حياته. عموما، كانت حصيلة الصدام مع السلطة بوجوهها كافة، وعلى عدة مستويات، متعددة ومتنوعة، ولو كانت نتائجها محبطة، كفيلة بمنحه مكانة استثنائية على الخارطة السورية في الزمن العربي المتقلب. لم يفتر طوالها، لاسيما في سنوات الغربة عن شن حملة تكاد تكون يومية، تفضح مسيرة النظام الإجرامية التي اعتمدت الحديد والنار، والسجون والتعذيب، فالدولة الشمولية الساعية للبقاء إلى الأبد، استقوت بالوراثة والنظام الأمني.
ليس من الصعب، الإدراك بعد التعرف إلى خيري الذهبي أنه أعد نفسه لدور كبير يلعبه في سوريا على صعيد الأدب والتاريخ، الفن والسياسة، فلم يمض على دروبها مُسيّراً ولا حسب اتجاه الريح. كان قد اختار طريقه مبكرا، مع حرية الرأي ضد القمع، مع الديمقراطية ضد الدكتاتورية، مع الدولة المدنية ضد الطائفية.
كانت الرواية فضاءه الأكبر، بينما اهتماماته متنوعة، تشمل كل ما يهم السوريين، لم يتنقل بينها، عمل عليها كمجموعة وكانت تخرج من تحت يديه أشبه بسبيكة واحدة، ففي الوقت الذي كان يكتب سيناريو لفيلم أو مسلسل تلفزيوني، كان يخطط لرواية، أو يقرأ في التاريخ باحثا فيه، وطارحاً رؤاه وتساؤلاته، أو يعبر عن آرائه في مقال أو محاضرة. لا يعوقه عائق عن اتخاذ موقف سياسي عرّضه للفصل من وظيفته، والمنع من السفر.
اهتم خيري الذهبي كمثقف بالشأن العام، وكان معارضا وطنيا، يساريا وليبراليا. كان هذا كله، أما إذا كان دمشقيا حتى العظم، فلأنه ليس بوسعه إلا أن يكون الحارس الدمشقي، حامي المدينة، العاشق لها والمسكون بها، لذلك كثيرا ما كنا نصادفه يتجول بين أزقتها، وأحيائها القديمة ومساجدها وتكاياها وزواياها. كان حريصا عليها، وكأنه الموكل بها، مهتماً بتراثها الفريد وتاريخها العريق كما بنكباتها وكبواتها وأمجادها عبر العصور.
لم يتواطأ خيري الذهبي مع الممسكين بزمام الثقافة، ولم يتقرب إلى السلطة، فلم تواته الظروف، بل عاكسته، وربما لأنها عاكسته، حرضت فيه تلك النزعة إلى المجازفة في تحدي رؤوس الثقافة المريضة وأزلامهم، ومحترفي النقد الأيديولوجي وصبيان الصفحات الثقافية. كان حريصا على خياراته الصعبة، منذ بداياته الأدبية، لم يتنازل عمّا يؤمن به، كانت مواقفه منسجمة مع ما كان يدعو إليه. اختار المنفى، ولم يتواطأ مع النظام، وتشهد مواقفه الصريحة في وسائل التواصل، أنه أراد سوريا واحدة وموحدة لجميع السوريين، دولة يسودها القانون.
كان صاحب أفكار جدالية، أكثر ما بدت في كتابيه “تدريب على الرعب” و”عود ثقاب قرب حقل جاف”. كذلك نظرات مشاكسة في التاريخ، وأسهم بالإشراف على إعداد سلسلة تاريخية أعيد فيها طبع كتب قديمة عن دمشق. أما طروحاته في الفن الروائي، ففي كتابه “محاضرات في البحث عن الرواية”. كما كان له نصيب وافر في المشاركة ككاتب سيناريو في السينما والإذاعة والتلفزيون.
ظفر خيري بلقب شيخ الروائيين، بعد رحلة روائية امتدت على أربع عشرة رواية، نسجت على إيقاع تجريبي وتاريخي حداثي، من روايته الأولي “ملكوت البسطاء” إلى الأخيرة “الجنة المفقودة” وكانت جوهرة العقد، ثلاثيته الروائية “حسيبة – فياض – هشام أو الدوران في المكان”. وكأنما في وحدة تكمل بعضها بعضاً، انعكست على سيناريوهاته ومحاضراته ومقابلاته، تعاضد فيها التاريخ مع الرواية والفكر، شكلت كشفا للحساب مع الحياة والوطن والناس، لقد أنجز ما عليه.
مضى خيري الذهبي من عالمنا مطمئن البال إلى رحلة أخيرة، واتخذت الروح طريقها نحو دمشق: الجنة المفقودة.