طريق الخير
إنّها لحقيقة معترف بها عالميّا أنّ أفضل النّاس هم أوّل من يرحلون. ورغم أنّه قلّما يعرف الباقون دواخل نفوسهم، فإنّ هذه الحقيقة عالقة بأذهان المعزّين في المآتم إلى درجة أنّك تجدهم يردّدونها تِباعًا على مسامع أهل المرحوم بينما تعلو الزفرات من صدورهم. وخلال عزاء سلوى، لم يكتف المعزّون بترديد تلك المقولة، بل ذكروا أيضا أنّ سلوى كانت فتاة رقيقة الحاشية، عطوفا وحنونا مع الجميع. كانت لا يطلب منها أحد طلبا إلّا وتسرع بالاستجابة إليه، ولا يستجدي منها أحد عونا إلّا وتهبّ لنجدته، حتّى أنّها كانت تنسى نفسها وما تحتاجه لتنغمس في تلبية رغبات الآخرين. كانت تتوقّف كلّما استوقفها أحد المارة طالبا المساعدة، وترى الطفل الصغير يبكي وقد أضاع والديه في السوق فترافقه وتبحث عن وليّ أمره ولا تتركه حتّى تسلّمه إليه.
لقد كانت سلوى قدوة في إيثار الغير على نفسها ونجدة المحتاج، ومثالا في العفّة والاستقامة. زد على ذلك أنّها كانت معتدلة في كلّ ما تقول وما تفعل، ولو كان في البلاد حزب للوسطيّين الغلاة في وسطيّتهم لكانت من بين زعمائه كي تضع قلبها العطوف على ذمّة الوطن. لكن في غياب حزب “الوسطيّين المتطرّفين” عن الساحة السياسيّة، اختارت سلوى أن تسعف المساكين بمفردها.
بدأت مسيرتها في طريق الخير يوم مقتت نفسها. كانت تحسّ أنّها أدنى من الجميع وأن لا قيمة لها وأنّها قليلة الحيلة وفاشلة في فرض وجودها فوق البسيطة. فبقيت طويلا منكمشة ومنعزلة، قلّما تتكلّم مع الناس أو تتواصل معهم. وعلى عكس ما يبدو عليه الأمر، فإنّ لهذا الوضع منافع عديدة. أوّلها أنّ سلوى – كأمثالها في هذه الحال – توفّر على الواثقين بأنفسهم والمتعجرفين عناء تنحيتها عن طريقهم نحو مآربهم، وهو كما نعلم طريق حافل بالخصوم، فلا فائدة من اكتظاظه بمن لا يقدر على النِّزال. وثانيها هو أنّ سلوى صارت تشعر بألم المعذّبين في الأرض وترأف لحالهم، وتمدّ إليهم يد المساعدة كلّما استطاعت إلى ذلك سبيلا. أمّا ثالث المنافع وأهمّها، فهو أنّ سلوى صارت، بمرور الوقت، تشعر بمعنى لوجودها وتستمدّه من أولئك الذين تُعيلهم، وأصبح الضعفاء حاجة أكيدة لتوصيف هويّتها.
وبمعاشرتها لأصناف عديدة من النّاس جرّاء عملها الخيريّ، باتت سلوى تدرك بمجرّد تعرّفها على شخص جديد ما إذا كان قادرا على فعل الخير مثلها. وإنّه من المؤسف أن نعترف بأنّ الأغلبيّة الساحقة التي كانت سلوى تلتقيهم – هذا إن لم نقل جميعهم – لم يكونوا على مثل استعدادها. ولكنها صارت رغم ذلك تعيش قلقا شبه دائم بأن يسبقها غيرها في الإحسان، وباتت تضاعف من جهودها متى شعرت بالمنافسة، وتفكّر كثيرا بمنافسيها، وتضع الخطط كي تُحافظ على مركزها الأوّل في طريق الخير.
في آخر يوم من حياتها، كانت سلوى تتأهّب لقطع الطريق حين قدمت سيّارة نحوها مسرعة وتوقّفت تحديدا أمامها. فتح السائق النافذة وسألها عن ساحة الامتياز، فابتسمت سلوى وقد أدركت أنّ الحياة تمنحها فرصة جديدة للإحسان. أخرجت هاتفها الذكيّ من جيبها وبحثت عن الساحة ثمّ راحت تصف للسّائق طريق الوصول إليها. ولمّا أتمّت حديثها، شكرها الرجل ثمّ مدّ يده نحو الكرسيّ الخلفيّ وأخرج سلّة ورقيّة كبيرة قائلا:
– خرجت لتويّ من صالون مهنيّ دُوليّ لبيع الأكسسوارات والحقائب، ولقد بقيت لديّ هاتان الحقيبتان.
ثمّ أخرج من السلّة حقيبتين يدويّتين للسيّدات، وأضاف:
– سوف أركب الطائرة بعد قليل لأسافر خارج البلاد، وأريد أن أهديك إيّاهما. لقد شعرتُ منذ الوهلة الأولى بطيبة قلبك ونقاء سريرتك.
انشرحت سلوى وهي تفكّر أنّ الحياة تجازيها على حسن خُلقها. لكن وكما يقتضي عُرف الأفاضل والأخيار، فغرت فاهها عن أرقّ ابتساماتها وأجابت بصوت خفيض:
– كلّا، لا حاجة إلى ذلك، العفو يا سيّدي، العفو.
فأصرّ الرجل:
– أنا أقطن في إيطاليا وأعمل هنالك لدى الشركة التي تبيع هذه الحقائب. وعلى أيّ حال إذا ما تجاوزتُ الحدود الأوروبيّة بهذا الفائض من السّلع، وجب عليّ أن أدفع التسعيرة المفروضة على إدخالها مرّة أخرى إلى البلاد. خُذيها. إنّي أهديها لك. لا ترفضيها.
ثمّ وضع إحدى الحقيبتين تحت أنف الفتاة، وقال في نظرة مُغرِّرة:
– انظري، لقد صُنعت من أجود الجلود الإيطاليّة. مرّري يدك على هذه المادّة الجميلة، إنّها من أبهظ الجلود ثمنا! إنّ الواحدة من هذه الحقائب تُباع عادة بما بين ألفين وثلاثة آلاف يورو.
فأسرّت سلوى لنفسها بالقول “كم أنت كريم يا ربّ. تُجازي عبادك الأفاضل الذين هم في طاعتك”، ثمّ قالت بصوتٍ عالٍ:
– لا يا سيّدي، أرجوك، لا يمكنني أن أقبل بمثل هذه الهديّة. أستطيع أن أجزم أنّها جميلة حقّا رغم أنّني لا أهتمّ كثيرا بمظهر الأشياء، لكن لا يمكنني قبولها.
فاستدرك الرجل قائلا:
– طيّب، فلتدفعي لي ثمنا رمزيّا في المقابل. أريد أن أعطيك إيّاها. أشعر أنّها يجب أن تكون من نصيبك.
صارت سلوى في هذه المرّة تبتسم دون تستّرٍ. فرغم غرابة الوضع في ظاهره، ورغم تمسّكها عادة بمبادئ الاستقامة والحذر، تأكّدت حينها أنّ ذلك الرّجل قد بُعث خصّيصا إليها. لم ترغب في الإعراض عن هديّة أرسلتها لها الحياة. واعترافا بالجميل، وفي محاولة في المشاركة ولو بالقليل في ثمن هذه الهديّة الغيبيّة، سألت السائق:
– حسنا. كم تريد أن أدفع لك؟
عندئذ انتبه الرّجل إلى ما حوله وقال:
– مهلا. إنّنا نقف في وسط الطريق، ونعطّل حركة المرور. لم لا تصعدين في السيارة كي نواصل حديثنا؟
فخطت سلوى من تلقاء نفسها خطوة إلى الوراء، وتمتمت:
– لا، شكرا.
بدت علامات الخيبة على وجه الرجل، فقال:
– يبدو أنّك قد شككت في صدقي وأخلاقي. هل تظنيّنني قادرا على إيذائك؟ انظري إليّ! أنا زوج وأب لطفلتين وربّ عائلة. أستطيع أن أعطيك بطاقة عملي. ستجدين فيها عنواني ورقم هاتفي.
نظرت إليه سلوى، ورغم أنّها كانت لا تهتمّ بمظاهر الأشياء كما قالت، إلّا أنّها استطاعت حينئذ أن تلاحظ بدلته الأنيقة، وسيارته الفارهة. فقط كان وجهه دميما دون أن يوحي بالخطر. ومراعاة لمشاعره ولأنّها باتت مقتنعة بأنّه مبعوث إليها من السّماء، قالت له:
– لا، حاشا وكلّا، إنّي أحسّ أنني في أمان طبعا.
فاستطرد الرجل قائلا:
– حسنا. فلتصعدي إذن في السيارة كي نتوقّف عن تعطيل حركة المرور.
وحتّى لا يُكذِّب الفعلُ قولها ولا يكون وجودها سببا في تعطيل حركة المرور، صعدت سلوى في السيارة، وهي تشعر بهالة من القداسة تحيط بها وقد اختيرت من السماء لمثل هذه الهديّة.
لم يُحدّثها الرجل بدءا عن ثمن الحقيبتين، وإنّما سألها عن حياتها. وكانت سلوى من اللطف بدرجة أن سألته إثر ذلك بدورها عن حياته. فأخبرها أنّه هاجر إلى إيطاليا منذ زمن طويل، وأنّه يعمل هنالك منذ أكثر من عقد لدى الشركة التي تصنع حقائب اليد النسويّة، ثمّ ختم حديثه بالسؤال عن الثمن الذي تقترحه سلوى لتأخذ الحقيبتين معها. ولم تدرك الفتاة ما تقوله، فتركت له مبادرة اقتراح الثمن إذ لم تكن تريد أن تحرج هذا الرّسول. وانتهى الأمر بأن اقترح عليها أن تدفع له ما يكفيه لاقتناء قنّينة من العطر لزوجته من السوق الحرّة بالمطار، وقد يكون مبلغ ستّة مئة دينار كافيا.
في تلك اللحظة، ارتبكت سلوى ونظرت بعين الريبة إلى الوضع الذي كانت فيه. فانتبهت إلى أنّها كانت تجلس في سيّارة رجل لا تعرف عنه شيئا، وأنّ بإمكانه أن يختطفها ويغتصبها وحتّى أن يقتلها ويبيع أعضاءها بالتفصيل دون أن يعلم أحد. وكأنّما رأى ريبتها إذ طمأنها قائلا:
– اسمعي…إنّي لا أدفعك إلى الشراء. أريد فقط أن تكوني الفتاة التي ستغتنم هذه الفرصة لامتلاك حقيبتين من أبهظ الحقائب الإيطاليّة وأجملها. إن كنت لا ترغبين بها، فبإمكاني أن أعطيها إلى أيّ فتاة أخرى قبل أن تقلع طائرتي.
فقالت سلوى متلعثمة:
– كلّا، لا، طبعا، أعرف أنّك لا تدفعني إلى شرائهما. أنا… أنا… أنا فقط لا أحمل معي مثل هذا المبلغ.
فأعقب الرجل بالقول:
– سوف أوصلك إلى أقرب موزّع للأوراق النقديّة إن أردت.
أومأت سلوى بالقبول. ولمّا وقفت أمام الموزّع الماليّ، أحسّت بأنّ وطأة غريبة كانت تشعر بها داخل السيّارة قد حطّت من على كتفيها، وتساءلت هل كانت تتصرّف حسب ما يقتضيه العقل. ثمّ استدركت هذا الصوت الشكّاك الذي جعلها تُحقّر هديّة ربّانيّة، فضغطت على الأزرار وأخذت أوراقها النقديّة، ثمّ صعدت في السيارة، وسلّمتها للسائق فمدّها بالحقيبتين. شعُرت سلوى حينئذ برغبة في استئناف الحديث معه والتعرّف أكثر على هذا المبعوث إليها، فاختصر هو القول مُعلنا أنّ عليه أن يلتقي شريكا تجاريّا قبل أن يلتحق بالمطار وأنّه لم يتبقّ له متّسع من الوقت، ولكن بإمكانه أن يوصلها إن شاءت إلى أقرب محطّة، فما كان منها إلّا أن قبلت بعرضه دون أن تنسى أن تشكره على لطفه.
وفي ظرف دقائق، كانت سلوى على قارعة الطريق تحمل في يدها سلّة ورقيّة تحتوي على حقيبتي اليد الإيطاليّتين. وقبل أن تقطع الطريق لتتّجه نحو محطّة المترو، التفتت إلى الوراء، حيث المركّب التجاريّ، فرأت في واجهة إحدى المحلّات نفس الحقيبتين اللتين اشترتهما لتوّها، وقد كان سعر كلّ منهما مئة دينار. أجرت سلوى العمليّتين الحسابيّتين في ذهنها وتوصّلت إلى أنّ الثّمن الجمليّ المعروض للحقيبتين لا يتجاوز مئتي دينار، وأنّها دفعت في الحين إلى ذلك الرجل ثلاثة أضعاف هذا الثمن. استولت عليها الدهشة لوهلة، وتوقّف ذهنها عن التفكير. ولكنّها لمّا ثابت إلى رشدها، قرّرت أنّ الحقيبتين اللتين اشترتهما، إنّما هما من جلد ذي جودة عالية كما قال بائعهما، في حين أنّ الحقيبتين المعروضتين في الواجهة لم تكونا سوى نسختين رخيصتين للموديل الإيطاليّ. ثمّ استدارت نحو الطريق، ورفعت ذقنها وهزّت رأسها عاليا في ثقة، ووضعت قدما ثمّ الأخرى لتقطع الطريق، غير أنّها لم تصل أبدا إلى الجهة المقابلة، إذ قدمت عربة فجأة في سرعة جنونيّة وسحقتها كما تُسحق حبّة الطماطم في المطبخ بضربة واحدة من السكّين.
إنّها لحقيقة غير معترف بها عالميّا أنّ الحياة تحبُّ أن تُخرج الإنسان من سُباته، ولو لحين، بصفعة أو أكثر. فإذا ما استعصت حالتهُ، سخّرت له من الأعوان ما يكفي كي يعود إلى وعيه. لكن بالنسبة إلى سلوى، فلقد ساقت إليها الحياة في اليوم ذاته، اثنين من أمهر الأعوان وأعلاهم رتبة وأطولهم خبرة: الشيطان وعزرائيل.
كانت حالتها مستعصية جدّا.