طيفُ الزفاف الحزين
لم يغب طيفُ نجيب، عن أفراد أسرته، منذ انصعاقهم بخبر موته، في معركةٍ لم يقحمه فيها سوى احتياجه لسداد ما تبقّى عليه من نفقات عرسه. ولم يمر على مغادرته الحياة سوى شهورٍ ستة، حتى جاء يومُ زفاف أرملته سلوى، إلى أخيه وجدي، الذي يصغره بسنتين. بدأتْ مراسيمُ المناسبةِ في هذا اليوم برتابةٍ، حاولت أختُه نجوى الحدَّ من وطأتها، شرعت ترتب المزهريات على الطاولة، مُتَقَمِّصةً وجهًا سعيدًا، فانداحت ابتسامةُ امتنانٍ على شفاه وجدي، فمع شعوره بأن في ملامحها وابتسامتها تكلفًا واضحًا، لمس في موقفها ما يحفز فيه الشعور بالسعادة “لا أريد اليوم أن أرى أيَّ دمعة على خد واحدةٍ منكن”، قال وجدي لنجوى، ملتمسًا ليوم عرسه ما يستطيع من ممكنات المسرة، وإن في مستواها الشكلي المتكلف. هزت نجوى رأسها بالإيجاب، فاتسعت ابتسامة امتنانه لها.
نجوى ـــ هي وحدها مِنْ أُسْرَتِهِ ـــ مَنْ تحاول تخفيف وطأة الحزن والأسى المتداعية من طيف نجيب، وهي وحدها البارحة مَنْ وافقت وجدي على إزالة صورة أخيه المرحوم من مكانها في غرفته هذه التي صارت غرفة وجدي، تظاهرتْ بتفهُّمِ رأيه، الذي بَرّره بعدم استطاعته النظر إلى صورة أخيه في الجدار على الأقل هذه الأيام، على أن تُعاد الصورةُ إلى مكانها فيما بعد. ونجوى هي من فتحت اليوم أغاني العرس بصوتٍ مرتفعٍ، ولم يكن هذا التصرف ممكنًا قبل ثلاثة أيامٍ، حينما اسْتُكْمِلَتْ الترتيباتُ والاتفاقاتُ مع أبي العروس، بما في ذلك تحديدُ موعد الزفاف، يومها غمرت وجدي النشوة، ففتح أغنيةً عرائسية بصوتٍ متوسط، لكن مزّقهُ بكاءُ أمه الذي مضى يشق الأغنية والزمان والمكان، تمامًا مثلما كانت حالها في اللحظة التي وصل فيها نعي نجيب. اضْطُر وجدي إلى خفض الصوت، ومن ثم إغلاقه، ولم يُسمع ثانيةً إلا صباح هذا اليوم على يد نجوى التي قدمت يوم أمس، مع زوجها وطفليها للمشاركة في مناسبة زفاف أخيها.
نجيب ـــ قبل أن يتَخَطَّفه الموت بنحو شهورٍ ثلاثة ـــ كان قد التحق بساحة المعركة، متداعيًا مع موجة أقرانه الشباب، الذين وجدوا في الحرب سبيلًا لجمع المال، لاسيما وأن هناك مبالغ خيالية يحصل عليها الشاب المغامر في مثل هذه المقامرة. بعد شهرين عاد نجيب سالمًا، وغانمًا مبلغًا لا بأس به، مع تثبيت اسمه في كشف اللواء العسكري المستحدث. كان مبلغ مستحقاتِهِ الذي عاد به كبيرًا، وهو ما برهن على مصداقية ما سمعه من الشباب عن الثراء من الحرب، مثلما برهنت حال الشباب الذين زاد وضعهم تحسنًا بعد مشاركتهم في القتال؛، فمنهم من بنى منزلًا ويسير في طريقه إلى فرحة العمر، ومنهم من أقام عرسه واستقرت حياته، ومثلما برهنتْ عودته سالمًا على نسبية الموت المحدودة في تلك المعارك.
بارك الحاج غالب هذا النجاح الذي أحرزه ولده، ولاح لنجيب مستقبلٌ ورديٌّ مُعَبَّدٌ فيه الطريقُ نحو غايته المختزلة في الزواج، مثله مثل غيره من شباب القرية، الذين تركوا المدارس في آخر مرحلةٍ دراسيةٍ، لاهثين وراء الحرب وإغراءاتها المالية، غير المُؤَهَّلين بأدنى خبرة قتالية.
فور عودة نجيب سلّم أباهُ ما بحوزته من نقود، شرع الأب في ترتيبات العرس؛ فالمبلغ سيكفي لتمويل ما تتجاوز نسبته السبعين في المئة من نفقات المناسبة بما في ذلك المهر، أما النسبة الباقية فقد قرر الحاج غالب استدانتها من أصدقائه، على نية قضائها؛ كون نجيب، بعد شهر العسل، حتمًا سيعود من حيث أتى، ومن مستحقاته سيكون القضاء.
ودّع نجيب حياة العزوبية، واحتضنه القفصُ الذهبي بسعادة غامرة، سارت الأيام الأولى من شهر العسل على ما يرام، لكن الأيام الأخيرة منه حملت ما يُعَكِّر بهجته، شعر بتغيرٍ واضح في معاملة أبيه، ولاحظ اهتمامه متحولًا نحو أخيه التالي وجدي، فسَّر نجيب هذه التحولات بأنها من حتميات الزواج، فقد سمع كثيرًا أن الشاب بعد زواجه يخسر نسبةً كبيرة من محبة والديه لصالح الأخ التالي. لم تقف سلبية المعاملة عند هذا الحد؛ إذ تمادى الحاج غالب في مضايقة الولد، فتعالت حِدَّتُها، ووصلت إلى ذروتها مع آخر يوم من شهر العسل، حيث أسرف في تعنيفه لفظيًا: يوبّخه، يتهكم عليه، يشتمه على مسمع ومرأى من عروسه سلوى، وفي كل تعنيف يذكره بالدَّيْنِ الذي لن ينقضي إلا بسرعةِ عودته إلى المعركة؛ لأن غيابه يعني مصادرة راتبه ومستحقاته.
كان نجيب يُضْمرُ البقاء، فتلكأ وماطل في تنفيذ توجيهات أبيه، كل يومٍ يختلق عذرًا، لم يهن عليه أن يغادر حياة العسل التي شعر بأن تأطيرها زمنيًا بشهر واحدٍ تعسفٌ جائرٌ للغاية. أبدى استغرابه من إصرار أبيه على مغادرته هو إلى الحرب متغافلًا عن وجدي، فكان الرد “وجدي لا يرغب في الزواج مثلك، رغبت أنت في الزواج فزوجناك، ولا بد من تسديد الدَّيْن”.
أدرك الحاج غالب بحدسه أن نجيب قد استطاب الدعة، وأنه يضمر عدم العودة مطلقًا، فاتخذ قراره القاسي مع الأيام الأولى من الشهر الثاني؛ إذ فرَّق بينه وبين عروسه، وأمره أن ينام مع إخوته في غرفتهم، وفي الوقت ذاته أمر ابنته الصغرى ريم بملازمة سلوى، ومؤانستها والنوم معها في غرفتها.
رأى الحاج غالب أن في هذا القرار ما يكفي من الضغط على الولد لمغادرة الدعة التي استطابها، انقضى الأسبوع الأول على هذا القرار، ثم الأسبوع الثاني، فالثالث، يئس نجيب، وأحبطته خيبةُ ظنه في عطف أبيه، وفي أن يتراجع ـــ على الأقل ـــ عن قرار التفريق بينه وبين عروسه، كان الحاج غالب كلما سمع محاولةً للنقاش في ذلك احتد غاضبًا “ليذهب أولًا إلى المعركة؛ نحن بحاجة إلى تسديد الدين”.
فقَدَ نجيب الأمل حينما وجد كل الطرق مسدودةً في وجهه، باستثناء طريق واحدة هي ما يصر عليها أبوه، لم يجد مناصًا من الانصياع للتوجيه، أبدى استعداده الكامل للسير في هذا الطريق، واستعطف الحاج غالب استعطافًا أخيرًا، التمس فيه السماح له بالمبيت مع عروسه ليلةً واحدة، على أن يسافر الصباح التالي مباشرةً، رقّ قلب الأب، فمنحه الإِذنَ، بعد أن اطمأن إلى نيته الصادقة.
لم يشعر نجيب بأدنى قدرٍ من السعادة تلك الليلة، كانت ليلةً وداعية بامتياز، دمعًا وبكاءً وتمزقًا بمصيرٍ مجهول ومشؤوم. في الصباح كان نجيب الأسبق استيقاظًا في البيت كله، أفطر على عجلٍ مع عروسه، ثم ودعها وعيناه ماطرتان بالدموع ومثله كانت عيناها، تَبعتْه إلى ساحة المنزل، حيث ودع أمه وشقيقاته، وحيث كان يتقطع صوتُه وهو يقسم لهن أن قلبه يحدثه بأنه لن يعود، أشفقن عليه، لكنهن حاولن التماسك حتى لا تهون عزيمته، فخذلتهن الدموع مع أول خطوةٍ من خطواته مغادرًا المنزل. لم يودع وجدي، لأنه لم يستيقظ بعد، فقد اعتاد مثل غيره من شباب القرية على السهر كل ليلة، ثم النوم حتى ظهيرة اليوم التالي.
وصل نجيب مزرعة القات التي يملكها والده، والذي كان قد سبقه إليها، حينما همَّ بقطف احتياجه من أغصان القات، منعه الحاج غالب “لا تقطف شيئًا يا نجيب، فما بعدك إلا الضرر والخراب!”، رق له قلبُ صاحبةِ المزرعة المجاورة، فاقتطف من أغصانها حاجته. لم يفقد الأمل في استدرار شفقة أبيه، فكرر المحاولة الأخيرة، مستثمرًا لحظة توديعه، متخليًا عن كرامته المسحوقة وشخصيته الممزقة، مستسلمًا لنوبة بكاءٍ مقتضبةٍ لم يستطع السيطرة عليها، ناعيًا نفسه، متحدِّثًا عن إحساسه المختلف هذه المرة، وعن يقينه بأن الموت في انتظاره، لكن لم يلن له قلبُ الحاج غالب الذي ودعه بجمودٍ قاسٍ.
في اليوم الخامس من سفر نجيب، رن هاتف الحاج غالب، ولاحظ على شاشته ومضًا باسم نجيب كهويةٍ للمتصل، ردّ عليه “خير، ما بك؟ هَزّك الشوق!”، كان المتصل شخصًا آخر “يا عم غالب معك زميل نجيب، أعظم الله أجرك، نجيب…”. انفجر الأب باكيًا “لا، لا،….”. ليس بمقدوره إخفاء النبأ، فقد كان اتصاله على مسمعٍ من أفراد أسرته، بمن فيهم سلوى عروس نجيب، غرقوا كلهم في البكاء، لم يكن في حسبانه هذا الاحتمال مطلقًا. رن الهاتف ثانيةً، تشبث صاحبه بآخر احتماليةٍ يمكن أن تكون مختلفة، أسكت الباكيات، وكان التشبث ذاته هو الفاعل في استجابتهن لأمره “كما تعرف يا عم غالب أنه ليس باستطاعتنا جلب الجثة إلى القرية، والدفن سيتم هنا، والإجراءات الأخرى سأبلغك بها، الآن أنا مشغول، سنتواصل لاحقًا”، تأوه الحاج غالب بحشرجةِ بكاءٍ مُرّة “حتى الجثة غير ممكن دفنها هنا! حتى نظرة الوداع غير ممكنة!”، وتمزق في نوبةِ بكاءٍ تمَوَّجتْ بنحيب الأسرة كلها.
أيام العزاء الثلاثة لم يشعر الحاج غالب بالتعازي كشعوره بسياط اللوم تجلد ذاته في كل تعزية، في يوم العزاء الثالث جاء أهل سلوى، قاموا بواجب العزاء، ثم أخذوا معهم سلوى حينما غادروا؛ فمن غير الممكن بقاؤها بعد الآن إلا في بيت أهلها.
طيلة شهور خمسةٍ انقضت بعد هذه المأساة، قام زملاء نجيب بمتابعة المعاملات الكفيلة باستمرار راتبه الشهري، والمعاملات الخاصة باستلام مستحقاته، ومستحقات الوفاة التي تفوق مبلغ الدية. كل ذلك، وصل الحاج غالب عبر شركات الصرافة. وفي هذه المساحة الزمنية ذاتها، كانت قد نضجت فكرةٌ تضمنت إمكانيةَ زواج وجدي بسلوى، كانت قد بدأت الفكرة عابرة، ثم تنامت، حتى تعاطى الجميع معها بجدية، ومن ثم بإجراءاتٍ عمليةٍ متتابعة.
استحسن وجدي الفكرة، ثم تحمّسَ لها، تناقلت الجارات الخبر بحسرة وأسى، وكل واحدةٍ منهن تبدي استغرابها من هذه المستجدات الصادمة، أخوين اثنين: الأول منهما بارٌّ بوالديه، يلقى حتفه مظلومًا، والآخر على النقيض، عاقٌّ، غير مكترثٍ بشيء، متأهبٌ لزواجٍ لا يكترث بمعانيه، يقيم عرسه على أرملة أخيه، وبمال أخيه الذي دفع حياته ثمنًا للفوز به، وبراتبه سيعيش أيامه القادمة!
كان المبلغ الذي وصل الحاج غالب كمستحقاتٍ للمرحوم نجيب كبيرًا، مكَّنهُ من طلب يد سلوى لوجدي، ومن دفع المهر كاملًا، ومن تغطية تكاليف العرس كلها. فسارت الترتيبات على نحو متسارع، وأطل شهر العسل الثاني لسلوى، بدأ ببكاء حماتها المنسرب في صوت الأغنية التي فتحها وجدي، قبل يومين من هذا اليوم المزدوج في مشاعره.
منذ الصباح ومراسيم هذا اليوم بالغة التصنع من كل أفراد الأسرة، ليمرّ بسلام، ومع غروب الشمس انداح الحزنُ باندياح صوت الأغاني العرائسية. حينما لاح موكب العروس متهاديًا نحو القرية، بدأت المفرقعات النارية تغريدها الخاص، وارتفع صوتُ الأغاني بما يليق بهذه اللحظة الفارقة، حتى استقرت سلوى بجانب وجدي على المنصة التي سبق وأن قامت نجوى بترتيبها، داهمت سلوى تفاصيلُ زفافها السابق، لم تجد في هذه اللحظة شيئًا مختلفًا عن تلك اللحظة المُطِلَّة من شرفات الذاكرة: الغرفة ذاتها، المنصة ذاتها، الأثاث ذاته، العريس هو المختلف. تسحقها الذكرى، تسقط على وجنتيها دمعتان، يمسحهما وجدي، غير منتبهٍ إلى أنه هو الآخر على خديه دمعتان لم يشعر بهما، وغير منتبهٍ ـــ في الوقت نفسه ـــ إلى أن أباه لم يخرج من أمامه في هذه اللحظة إلا ليوفر على ابنه مرأى دموع الأب المكلوم، ولا عِلْمَ له أن أخته نجوى لم تغب في هذه اللحظات إلا لأنها ترقد على أحد الأسرة في المركز الطبي القريب من القرية، وأنها لم تفق بَعْدُ من حالة الإغماء التي داهمتها قبل وصول العروس بأقل من نصف ساعة. وغير منتبهٍ إلى أن هذه القلة من النساء حوله ـــ المحاولات خلقَ فرحةِ لحظته هذه ـــ ليس من بينهن أمه وشقيقاته الأخريات، لأنهن لم يستطعن الصمود أمام نوبة بكاءٍ حادةٍ، استسلمن لها منذ أن تراءى لهن موكب العروس قادمًا، وما زلن في نوبتهن تلك، ولا يبدو أن زفة البكاء ـــ التي انتظم إليها عفويًا عددٌ كبيرٌ من الجارات ـــ ستتوقف طيلة هذه الليلة النائحة، هذه الليلة التي تغزل من ذكرى نجيب طيفًا في زفافها الحزين.