ظاهرة الأعراف الثقافية في المجتمعات العربية

تفيد ملاحظات عامة الناس وخاصتهم أن لكل المجتمعات البشرية قواعد تنظم سلوكيات الناس فيها. وتتجلى هذه القواعدُ في شكليْن رئيسيين وهما الأعراف الثقافية والقوانين.
الأربعاء 2018/08/01
الختان يمثل ظاهرة اجتماعية في العديد من المجتمعات المختلفة

وتجوز تسمية هذه الأخيرة بالقواعد الرسمية التي يتعرض الخارقون لها إلى عقوبات قانونية رسمية تحدد طبيعتَها المجتمعاتُ. أما الأعراف الثقافية فهي قواعد ثقافية اجتماعية غيرُ رسمية توجه سلوكيات الناس بقوة أشد أحيانا من قوة القوانين الرسمية كما سنرى في بعض الأمثلة التي سنذكرها من واقع المجتمعات العربية اليوم. تنظرُ العلوم الاجتماعية المعاصرة إلى القوانين والأعراف الثقافية على أنهما جزء هام مما تسميه هذه العلوم المنظومة الثقافية: اللغة والفكر والدين والمعرفة/العلم والقيم والأعراف الثقافية التي لا يتحقق وجود المجتمعات الإنسانية دونها. وهو ما يسمح بالقول “إن البشر ومجتمعاتهم هم كائنات ثقافية في الصميم”. يركز هذا البحث على إلقاء الضوء بالتحديد على التأثير الكبير لما نسميه الأعراف الثقافية الخاصة على سلوكيات الناس في المجتمعات العربية. وهو موضوع جديد في العلوم الاجتماعية المعاصرة حسب علمنا. فماذا يعني مصطلح الأعراف الثقافية الخاصة عندنا؟

يقوم هذا البحث بإبراز صنفين من الأعراف الثقافية التي تؤثر في سلوكيات الناس. فمن ناحية، تُوجد ما نسميه “الأعراف الثقافية العامة” التي تتقيد بها سلوكياتُ أغلبية الناس في المجتمع. وبعبارة أخرى، فالأعراف الثقافية العامة السائدة في المجتمعات تسمح بحدوث السلوكيات المنحرفة عنها.

ومن ناحية أخرى، تمنعُ/تُحرّم “الأعراف الثقافية الخاصة” بالكامل سلوكيات الانحراف عنها في المجتمعات العربية، موضوع هذه الدراسة. فهي، إذن، أعراف ثقافية يتبعها كلّ أفراد المجتمع العربي الصغير أو الكبير بطريقة مطلقة. يقع هنا ذكر وتحليل ظاهرتين اجتماعيتين في المجتمعات العربية هما نتيجة لتأثير الأعراف الثقافية الخاصة في هذه المجتمعات. تتمثل الظاهرتان في: 1- الالتزام المطلق/التام لدى جميع العائلات المسلمة في المجتمعات العربية بعرف ختان أبنائها الذكور. 2- ظاهرة تربية ماشية الذكور فقط في الشمال الشرقي للبلاد التونسية.

لزوم ختان المسلم

 يشمل عرف ختان الأولاد الذكور كل الفئات والطبقات الاجتماعية المسلمة في مجتمعات الوطن العربي. أي ليس هناك استثناء في قيام العائلات العربية المسلمة الفقيرة والمتوسطة والغنية على حد السواء بالختان والاحتفال به في فصل الصيف على الخصوص أو في غيره من فصول السنة. فالتمسك الكامل بالعرف الثقافي للختان ينطبق على جميع العرب المسلمين في المجتمعات العربية.

يرى عالم الاجتماع الدارس لظاهرة الختان أن وجه التشابه بين الظاهرتين (1و2) يتمثل في التالي: انتشار كل من الظاهرتين بطريقة شاملة وكاملة بين كل الناس. فمن جهة، لا يربي جميعُ سكان تلك المنطقة التونسية الماشية الأنثى من بغال وخيول وحمير. ومن جهة أخرى، تقوم كل العائلات المسلمة في المجتمعات العربية بختان أبنائها والاحتفال بهذا الحدث.

تتجلى لعالم الاجتماع في هاتين الظاهرتين قيمةُ مدى اهتمام الناس على مستوى رؤيتهم الثقافية وتقديرهـم لعامل الذكورة فـي الظاهرتين ( شرابي 1992). يتضح هذا في الشعور في الحالة الأولى بالعار إزاء تربية الماشية الأنثى في تلك المنطقة. ويتجلى الأمر في الحالة الثانية في اعتبار أن ذكورة الولد ورجولته لا تتمان دون عملية الختان.

عدم تربية ماشية الإناث يمثل في حد ذاته انحرافا عن طبيعة الأشياء في دنيا تربية الماشية. فالعـُرف وطبيعة الأشياء يقتضيان أن يقوم السكان بتربية الذكر والأنثى من الماشية على حد السواء. ولا يعنـي هذا بأي حال من الأحوال أن يتساوى عدد الإناث مع عدد الذكور من الماشية في هذه المنطقة، وإنما يعني أن يتواجد جنبا إلى جنب جنسا الذكور والإناث من الماشية بنسب معقولة تسمح في نهاية الأمر بالتناسل الذي يضمن استمرار وجود التوازن بين الجنسين

وهكذا، يسجل عالم الاجتماع في سلوك الالتزام المطلق بختان الأولاد الذكور مدى صدارة الذكورة كقيمة ثقافية اجتماعية مركزية في صلب النسق الثقافي الاجتماعي للمجتمعات العربية.  ومن ثمَّ، يجوز القول إن التأثير الثقافي الجماعي المطلق بإيحاء منظومة الرموز الثقافية هو مفهوم جديد لا نجده في أدبيات علم الاجتماع المعاصر.

فعالم الاجتماع الكبير إيمانويل ولرنستاين Immanuel Wallerstein لا يُقر بوجود مفهوم التأثير الثقافي الجماعي المطلق كما يوصف في هذا البحث. إذ يقول “فنحن نرى أنه من المسلّم به أن معايير ثقافة المجموعات البشرية (على كل المستويات) لا يقع أبدا التقيد بها بالكامل من طرف كل أعضاء تلك المجموعات” (Calhoun 2007: 427). وهذا مخالف للمعايير الثقافية الواردة في المثاليْن السابقين.

وعلى هذا الأساس، هناك مشروعية للباحث الاجتماعي أن يتساءل: هل أن تأثير تلك الأعراف والقواعد الثقافية على سلوكيات كل الناس أمر ينطبق أيضا على مجموعات ومجتمعات غير عربية وغير مسلمة؟ ومهما كانت طبيعة الإجابة، فإن فهم وتفسير سبب وجود التأثير المطلق للقواعد والأعراف الثقافية على جميع سلوكيات الناس في عينة المثالين المذكورين أمران مطلوبان بقوة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا على الخصوص.

ظاهرة الختان

لوحة: محمد خياطة
لوحة: محمد خياطة

يُعتبر كتاب ‘تاريخ الختان من أصوله الأولى إلى أيامنا هذه’ كتابا فريدا من نوعه في الموضوع لعالم الأنثروبولوجيا والمحلل النفسي مالك شبل الذي ينحدر من الجزائر والمقيم في فرنسا حتى رحيله أخيرا في 2016. وُجدت شعيرة الختان منذ العهود الفرعونية القديمة في التاريخ السحيق. فهي شعيرة واجبة لدى اليهود والمسلمين تمثل في نفس الوقت طقوس تغيير المركز الاجتماعي للفرد passage rites وممارسة دينية وصحية. يتطرق هذا الكتاب إلى كل أبعاد ظاهرة الختان: التاريخية والدينية والاجتماعية والجنسية والشبقية erotic والجراحية.

يذكر صاحب الكتاب أن هناك مليارا من يقع ختانهم اليوم، لكن توزيع ظاهرة الختان في القارات الخمس ليس متساويا. فعلى سبيل المثال، إن القارتين الأوروبية والأميركية لم تكونا ممارستين كثيرا لشعيرة الختان منذ بعض العقود.

ومن ناحية أخرى، فالقارتان الأفريقية والآسيوية (ما عدا الصين واليابان) هما قارتان تسكنهما فئات وشعوب تمارس أغلبية ذكورها عملية الختان رغم الاختلاف البيّن في أسباب ذلك. إن اللافت للنظر بهذا الصدد هو ازدياد نسب الختان في المجتمع الأميركي والكندي والسويسري والهندي.

وفي مقابل ذلك، فانتشارها أكثر بطئا في إنكلترا وفرنسا حيث تمارسها خاصة الأقليات المسلمة التركية والعربية والباكستانية والفارسية والأفريقية التي وصلت إلى هذيْن البلديْن منذ مدة قصيرة (Chebel 1997:37). يبقى المؤلف صامتا عن الأسباب التي تجعل جميع العرب المسلمين يتقيدون بختان الذكور، بينما أن بعض المسلمين لا يمارسون حتى أركان الإسلام الخمسة مثل الصوم والصلاة.

ومن ثمّ، فالرمز الديني للختان غير كاف لتفسير الالتزام المطلق بشعيرة الختان لدى الأطفال الذكور في المجتمعات العربية. فأهمية القيمة الثقافية للذكورة في هذه المجتمعات قد تكون عاملا حاسما في منع الانحراف عن أعراف لزوم الختان. يساعد عامل القيمة الثقافية العالية للذكورة على تفسير ختان جميع الذكور.

مقارنة بوجوب ختان كل الأطفال الذكور المسلمين في المجتمعات العربية، فإن ظاهرة ختان الذكور في المجتمعات الأخرى تختلف عما ذُكر لدى الأطفال المسلمين في المجتمعات العربية.

فالختان يمثل ظاهرة اجتماعية في العديد من المجتمعات المختلفة تشمل الذكور والإناث أو الذكور فقط في الكثير من المجتمعات مثل المجتمع التونسي.

ويمكن تصنيف المجتمعات بخصوص هذه الظاهرة إلى ثلاثة أنواع: مجتمعات لا تمارس الختان ومجتمعات تقوم بختان الأغلبية من الأطفال الذكور ومجتمعات يتعرض فيها جميع الأولاد الذكور إلى عملية الختان، كما هو الحال في المجتمعات العربية.

 تربية ماشية الذكور فقط

لقد أشرنا في دراسات سابقة إلى أن الناس في منطقة الشمال الشرقي التونسي (مدينة رأس الجبل وقرى غار الملح ورفراف وصونين والماتلين والعالية) لا يربون مطلقا ماشية الإناث من بغال وخيول وحمير، الأمر الذي جعل عندهم تربية الأنثى من تلك الحيوانات وصمة عار اجتماعي كبير لا يجوز قبوله على الإطلاق (الذوادي 2006: 269 -292). فأدت قوة رسوخ ثقافة العار هذه وانتشارها الكامل بين سكان هذه المنطقة إلى تحاشي تسمية حتى العناصر الجامدة تسمية أنثى.

تنقل الفلاحين صعودا ونزولا بين الجبال والهضاب والتلال يحتاج إلى نوع من الماشية التي تتمتع بقوة عضلية أكبر. وذكور الماشية تتفوق عموما على إناثها على هذا المستوى خاصة إذا علمنا أن تنقل الفلاحين في هذه المناطق لا يقتصر على مجرد الركوب عليها بل يشمل في معظم الأحيان وضع أحمال ثقيلة عليها بالإضافة إلى ركوبها

فأهل مدينة رأس الجبل والقرى المجاورة يُذكّرون مؤنث “الكميونة” (عربة نقل البضائع والناس) لتصبح عندهم “كميون”، أي مسمى ذكوري!، وبعبارة أخرى، فتأثير الأعراف الثقافية الخاصة على كل سكان هذه المنطقة تأثير شامل وكامل وقاهر لا يعرف استثناء بين المواطنين هنا.

أي أن جميعهم لا يربون إلا ماشية الذكور من أحمرة وبغال وخيول. وإنه لضرب من العار في ثقافتهم تربية الأنثى من تلك الحيوانات. وبالتالي، فذكرُ ماشية الأنثى أمامهم أو الحديث معهم عنها أو مساءلتهم إن كانوا يملكونها يثير ردود فعل سلبية متنوعة تتراوح بين الشعور بالخجل والغضب العنيف.

فثقافة العار إزاء تربية الماشية الأنثى هي الثقافة الاجتماعية السائدة لدى أهل هذه المنطقة من البلاد التونسية، بحيث هناك مشروعية قوية في نعت التأثير الثقافي الاجتماعي المطلق على الأفراد في هذه المنطقة بأنه تأثير اجتماعي كامل وقاهر يشمل الجميع ولا يستثني أحدا.

 يتجلى في هذا المثال مدى مركزية الأعراف الثقافية الخاصة في هوية سكان تلك المنطقة. إذ ثقافة العار المحلية عندهم المانعة لتربية ماشية الأنثى تجعلهم لا يأبهون كثيرا بالأعراف الثقافية السائدة في بقية مناطق القطر التونسي بالنسبة لتربية الماشية. وتتمثل تلك الأعراف الثقافية في أن تربية الماشية من الذكر والأنثى أمر عادي وطبيعي.

وبعبارة أخرى، فقوة أعراف ثقافة العار بالنسبة لتربية الماشية الأنثى تجعلهم قادرين بالكامل على المحافظة على تلك العادة التي تصطدم في وضح النهار مع العرف الثقافي السائد (تربية الإناث والذكور) بالقطر التونسي بصفة عامة. يؤكد هذا المثال مدى مركزية الأعراف الثقافية الخاصة في توجيه وتحديد أنماط السلوكيات لدى الأفراد والجماعات في المجتمعات العربية.

 يرى عالم الاجتماع الدارس لهذه الظاهرة بالمجتمع التونسي أن وجه التشابه بين هاتين الظاهرتين (لزوم ختان الأطفال الذكور والاقتصار على تربية ماشية الذكور) يتمثل في التالي: انتشار كل من الظاهرتين بطريقة شاملة وكاملة بين كل الناس.

فمن جهة، لا يربي كل سكان رأس الجبل والماتلين وصونين ورفراف وغار الملح والعالية الماشية الأنثى من بغال وخيول وحمير. ومن جهة أخرى، تقوم كل العائلات العربية المسلمة بختان أبنائها والاحتفال بهذا الحدث.

وهكذا، فالتزام الجميع بما يمليه العرف الثقافي في الوطن العربي يتم على مستويين: المجتمع الصغير(الميكرو: حظر تربية الماشية الأنثى في الشمال الشرقي التونسي) والمجتمع الكبير(المكرو: كل العرب المسلمين في العالم العربي).

 تتجلى لعالم الاجتماع في هاتين الظاهرتين قيمة مدى اهتمام الناس على مستوى أعرافهم الثقافية وتقديرهـم لعامل الذكورة فـي الظاهرتين.

يتضح هذا في الشعور في الحالة الأولى بالعار إزاء تربية الماشية الأنثى في تلك المنطقة من الشمال الشرقي التونسي ويتجلى الأمر في الحالة الثانية في اعتبار أن ذكورة الولد ورجولته لا تتمان دون عملية الختان.

ومن ثمّ، يسجل عالم الاجتماع في سلوك الالتزام المطلق بختان الأولاد الذكور مدى صدارة قيمة الذكورة كقيمة ثقافية اجتماعية مركزية في صلب النسق الثقافي الاجتماعي للمجتمعات العربية.

خصوصية عربية

وهكذا يجوز القول إن التأثير الثقافي الجماعي المطلق بإيحاء الأعراف الثقافية الخاصة هو مفهوم جديد لا نكاد نجده في أدبيات علم الاجتماع المعاصر مثلا. وكما ذكرنا، فعالم الاجتماع الكبير إيمانويل ولرنستاين Immanuel Wallerstein لا يعترف بوجود مفهوم التأثير الثقافي الجماعي المطلق كما وقع وصفه هنا.

إذ يقول “فنحن نرى أنه من المسلّم به أن معايير ثقافة المجموعات البشرية (على كل المستويات) لا يقع أبدا احترامها (التقيّد بها) بالكامل من طرف كل أعضاء تلك المجموعات”. وهذا مخالف لمعايير ما رأيناه في ثقافة المجتمعات العربية في المثالين الواردين ضمن تحليلنا لتأثير الأعراف الثقافية الخاصة المطلق على سلوكيات الناس بالنسبة للختان لدى العرب المسلمين وبالنسبة لوجوب تربية ماشية الذكور فقط في منطقة الشمال الشرقي التونسي.

ومن ثم، هناك مشروعية للباحث الاجتماعي أن يتساءل: هل تأثير الأعراف الثقافية الخاصة أمر ينطبق أيضا على مجموعات ومجتمعات غير عربية؟ ومهما كانت طبيعة الإجابة، فإن فهم وتفسير سبب وجود تأثير تلك الأعراف الثقافية الخاصة في عينة المثالين المذكورين أمران مطلوبان بقوة من علماء الاجتماع والأُ نثروبولوجيا على الخصوص.

فالإجابة عن ذلك اللغز تحتاج إلى نوع من البحث الأساسي في دنيا نسق المنظومات الثقافية والبنية الاجتماعية للمجتمعات البشرية. وبتعبير علم الاجتماع، فإن الأعراف الثقافية الاجتماعية الخاصة إجبارية قاهرة لا تترك مجالا للانحراف عنها.

 ومن ثم، تصدق عليه تسميتنا لها بالتأثيرات الثقافية الاجتماعية المطلقة على كل السلوكيات. واعتمادا على حقيقة مركزية الأعراف الثقافية في هوية الإنسان في هذه الدراسة، فإن المثالين يشيران إلى وجاهة مصداقية فرضية تأثير مركزية الأعراف الثقافية الخاصة على سلوكيات المواطنين العرب.

 إيثار تربية ماشية الذكور

 نظرا لأن فضاء هذا البحث محدود، نقتصر هنا على شرح أسباب ظاهرة عدم تربية ماشية الإناث في منطقة الشمال الشرقي التونسي. إذ هي ظاهرة غريبة جدا بالنسبة للقارئ. وكما ذكر من قبل، فسكان مدينــة رأس الجبل ونظراؤهم في قرى غار الملح ورفراف وصونين والماتلين والعالية المجاورة لا يربون إلا ذكور الماشية من الخيول والبغال والأحمرة. نطمح هنا إلى الإجابة على التساؤل المشروع التالي: ما هو السبب (أو ما هي الأسباب؟) الذي جعل سكان هذه المنطقة يمتنعون عن تربية ماشية الإناث؟

إذا كانت ليست هناك عقائد دينية إسلامية ولا قيم ثقافية عربية أو غير عربية في ثقافة المجتمع التونسي قد ساعدت على عدم تربية ماشية الإناث في تلك المنطقة الفلاحية من الشمال الشرقي التونسي، فإن ضيق مساحات الأراضي وقلة مواردها الطبيعية الصالحة لتربية عدد أكبر من الماشية وصعوبة التنقل بين جبالها وهضابها وتلالها تصبح العوامل الحاسمة التي أدت إلى الاقتصار على تربية ماشية الذكور

فمثل ذلك التساؤل يعتبر تساؤلا ذا مشروعية قوية. إذ أن الغياب الكامل لتربية ماشية الإناث من تلك الحيوانات لا يمكن إلا أن يشد انتباه أي باحث يتمتع بالفضول المعرفي وبدقة الملاحظة. فعدم تربية ماشية الإناث يمثل في حد ذاته انحرافا عن طبيعة الأشياء في دنيا تربية الماشية. فالعـُرف وطبيعة الأشياء يقتضيان أن يقوم السكان بتربية الذكر والأنثى من الماشية على حد السواء.

ولا يعنـي هذا بأي حال من الأحوال أن يتساوى عدد الإناث مع عدد الذكور من الماشية في هذه المنطقة، وإنما يعني أن يتواجد جنبا إلى جنب جنسا الذكور والإناث من الماشية بنسب معقولة تسمح في نهاية الأمر بالتناسل الذي يضمن استمرار وجود التوازن بين الجنسين.

ما وراء الاقتصار

تفيد استجواباتُنا لعينة الفلاحين أن هناك سببين رئيسيين يقفان وراء اقتصار تلك المناطـق الفلاحية على تربية ماشية الذكور فقط، وهما:

1) ضيق المناطق الزراعية التي لا تسمح بتربية ماشية الإناث لقدرتها على التوالد وبالتالي الزيادة في عدد الماشية.

2) الاعتقاد بأن القوة العضلية لذكور البغال والخيول والحمير تستجيب أكثر لمتطلبات تلك المناطق التي تكثر فيها الجبال والتلال والهضاب.

فظاهرة الغياب الكامل لتربية ماشية الإناث في هذه المناطق من الشمال الشرقي التونسي تفسرها إذن حتمية بيئوية/ إيكولوجية.

فمن جهة، إن تربية ماشية الإناث من خيول وحمير وبقر وماعز وغنم سوف تؤدي إلى اكتظاظ حيواني شبه مؤكد بالنسبة لتلك المناطق الضيقة جدا من حيث المساحة والخالية من السهول، وأن تربية المواشي الولادة تتطلب شهورا وأعواما أحيانا قبل أن يمكن التخلص منها وذلك ببيعها بأثمان تدرّ أرباحا مناسبة.

وبعبارة أخرى، فتربية ماشية الإناث بالنسبة لفلاحي تلك الجهات تنطوي على خطر ازدياد رؤوس الماشية بحيث يصبح من الصعب على موارد وفضاءات بيئتهم الفلاحية الصغيرة الحجم أن تتحملها.

ومن جهة ثانية، فإن تنقل الفلاحين صعودا ونزولا بين الجبال والهضاب والتلال يحتاج إلى نوع من الماشية التي تتمتع بقوة عضلية أكبر. وذكور الماشية تتفوق عموما على إناثها على هذا المستوى خاصة إذا علمنا أن تنقل الفلاحين في هذه المناطق لا يقتصر على مجرد الركوب عليها بل يشمل في معظم الأحيان وضع أحمال ثقيلة عليها بالإضافة إلى ركوبها.

وهكذا يجد السببان المشار إليهما مصداقيتهما في رؤية الحتمية البيئوية. أي أن وعر العمل والتنقل في أراضي تلك المناطق الفلاحية ومحدودية مواردها الفلاحية الصالحة لتربية الأعداد الضخمة من الماشية وضيق المساحات المناسبة لتربية ماشية الإناث وأولادها، كلها عوامل لم تساعد على تشجيع الناس والفلاحين في تلك المنطقة التونسية على تربية ماشية الإناث.

ورغم ما للعامل البيئوي من واقعية ومنطق في إفراز ظاهرة الاقتصار على تربية ماشية الذكور، فإن رؤية العلوم الاجتماعية لا تلغي احتمال وجود مؤثرات أخرى قد تكون هي السبب الأول أو هي السبب المساعد في تبلور هذه الظاهرة الاجتماعية أو تلك، خاصة وأن الظواهر الاجتماعية طالما تكون متأثرة بأكثر من عامل. ومن ثم، فإنه يمكن طرح فرضية العامل الثقافي كسبب رئيسي أو مساهم في انتشار ظاهرة تربية ماشية الذكور فقط في هذه المناطق الفلاحية.

أي هل هناك عقائد دينية وقيم ثقافية بين سكان هذه الجهة عملت على الحد الكامل لتربية ماشية الإناث من الحيوانات المذكورة؟ فعلى مستوى العقيدة الدينية، فسكان تلك المنطقة يعتنقون الديانة الإسلامية مئة بالمئة مثل بقية سكان المناطق المجاورة لهم في الشمال الشرقي التونسي أمثال القرى القريبة كعوسجة والزواوين وهنشير أتيك.

 وليس هناك في الإسلام ما يدعو إلى تحريم أو منع تربية ماشية الإناث، بل هناك ما يدعو في الإسلام بطريقة غير مباشرة إلى عكس ذلك. فعلى مستوى احترام الأنثى من بني الإنسان، فقد انتقد القرآن بشدة عادة وأد البنات في عصر الجاهلية “وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت؟” “وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم” (النحل: 58).

فغير وارد، إذن، أن تكون قيم العقيدة الإسلامية وراء امتناع سكان هذه المناطق عن تربية ماشية الإناث خاصة إذا علمنا أن الآيات القرآنية تحفل بالحديث والإشارة إلى حكمة الله في خلق الذكر والأنثى في كل أنواع المخلوقـات “سبحـان الذي خلـق الأزواج كلهـا” (يسن: 96)، و”أنه خلـق الزوجين الذكر والأنثـى” (النجم: 45)، “فجعل منه الزوجيـن الذكـر والأنثـى” (القيامة: 39)، “قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين” (هود: 43)، “ومن الأنعـام أزواجـا يذرؤكم فيه”(الشورى: 11).

أما على مستوى القيم الثقافية غير الدينية، فليس هناك ما يشير إلى أن سكان هذه المناطق متأثرون بقيم ثقافية حضارية قديمة عرفها القطر التونسي قبل الفتح الإسلامي. فالشخصية القاعدية لسكان هذه المنطقة هي شخصية منصهرة كامل الانصهار، مثل بقية شخصية التونسيين العرب والأمازيغ المسلمين الآخرين، في بوتقة الحضارة العربية الإسلامية. وبالتعبير السوسيولوجي الحديث.

ليس هناك ما يسمح بالقول إن سكان هذه المنطقة يمثلون أقلية مميزة بعقائدها الدينية وقيمها الثقافية الرئيسية عن المجتمع التونسي العربي الإسلامي، بل هم جزء لا يتجزأ من النسق العقائدي الثقافي الإسلامي العربي الكبير للمجتمع التونسي. ومن ثم، فظروف البيئة الفلاحية القاهرة هي المؤهلة قبل غيرها لمدنا برؤية فكرية نظرية تساعدنا على فهم وتفسير ظاهرة غياب تربية ماشية الإناث من تلك الحيوانات.

ثقافة مناهضة لماشية الإناث

إذا كانت ليست هناك عقائد دينية إسلامية ولا قيم ثقافية عربية أو غير عربية في ثقافة المجتمع التونسي قد ساعدت على عدم تربية ماشية الإناث في تلك المنطقة الفلاحية من الشمال الشرقي التونسي، فإن ضيق مساحات الأراضي وقلة مواردها الطبيعية الصالحة لتربية عدد أكبر من الماشية وصعوبة التنقل بين جبالها وهضابها وتلالها تصبح العوامل الحاسمة التي أدت إلى الاقتصار على تربية ماشية الذكور، ومن ثم إلى ظهور قيم ثقافية /أعراف ثقافية خاصة عند سكان تلك المنطقة تنظر إلى تربية ماشية الإناث بنظرة تغلب عليها السلبية.

أي أن نسق القيم الثقافية في المجتمعات البشرية يساعد على تحديد معالم المعطيات الطبيعية (الإيكولوجية) لتلك المجتمعات. فالأمر يتعلق هنا بنوع من الحتمية الإيكولوجية الشديدة التأثير في القيم الثقافية للأفراد والمجتمعات.

 فتربية ماشية الإناث خاصة من البغال والخيول والحمير أصبحت تُعد ضربا من قبيل السلــوك المنحرف. أي أن تربية ماشية الذكور فقط أصبحت هي المعيار الثقافي الاجتماعي الخاص المقبول والمزكى من طرف الأفراد والمجموعات لهذه المنطقة.

يقوم هذا البحث بإبراز صنفين من الأعراف الثقافية التي تؤثر في سلوكيات الناس. فمن ناحية، تُوجد ما نسميه “الأعراف الثقافية العامة” التي تتقيد بها سلوكياتُ أغلبية الناس في المجتمع. وبعبارة أخرى، فالأعراف الثقافية العامة السائدة في المجتمعات تسمح بحدوث السلوكيات المنحرفة عنها. ومن ناحية أخرى، تمنعُ/تُحرّم “الأعراف الثقافية الخاصة” بالكامل سلوكيات الانحراف عنها في المجتمعات العربية، موضوع هذه الدراسة

ومنه بـرزت مواقف وتصورات مزدوجة بخصوص تربية الأنثى والذكر من الماشية. فمن جهة، أصبحت تربية ماشية الإناث تجلب لصاحبها وصمة العار. وهذا ما ذكرتْه إحدى الطالبات المبحوثات من قرية صونين. فأهلها يعرفون بعض الفلاحيـن من منطقة أتيك المذكورة سابقا حيث تربي أنثى الماشية إلى جانب الذكر.

وكان أهل صونين ينظرون إلى تربية ماشية الإناث من طرف أصدقائهم في أتيك بشيء من الاشمئزاز، إذ أن معاييرهم الثقافية الاجتماعية تعتبر تربية ماشية الإناث ضربا من العار المشين. ومن جهة ثانية، فإن تربية ماشية الذكور أصبحت مفخرة عند سكان تلك المنطقة. ولعل تربية الحمار تفصح أكثر من غيرها من الحيوانات عن معاني الذكورة.

فخلافا للبغال والخيول، لا يُعرف الحمار بأعضائه التناسلية الذكورية فحسب بل يُعرف أولا وقبل كل شيء بنهيقه. فنهيق الحمار يمثل رمز ذكورته. وهو ما لا يتوفر بنفس الوضوح والتميّز عند البغل أو الحصان إذا ما قورنت أصواتهما بأصوات البغلة والفرس. أما نهيق الحمار فيتميز بكل جلاء عن نهيق نظيرته الحمارة/الأتان.

وبسبب ذلك، أصبح نهيق الحمار في هذا الفضاء الثقافي الذكوري في تربية الماشية مصدرا للشعور بالافتخار من طرف صاحبه لا يضاهيه في ذلك لا البغل ولا الحصان. وهذا ما تذكره القصص التي يرويها البعض عما يوحي به نهيق الحمار بالنسبة للفرد المنحدر من قرية رفراف أو غار الملح مثلا.

فنهيق الحمار عند هذا أو ذاك يعتبر الصوت المفصح بكل عزة ومفخرة عن البيئة الذكورية للماشية التي ينحدر منها والتي تشبّـع فيـها صاحب الحمار من سيادة سلطة الذكر في كل من عالميْ الماشية والمجتمـع البشـري الصغير الذي ولد وشبّ وكبر فيه. ومن هنا، تأتي مشروعيـة التساؤل عن العلاقة المحتملة بين التصور السلبي لأنثى الماشية، من ناحية، ونظيره للأنثى الإنسانة (المرأة)، من ناحية أخرى، عند سكان تلك المنطقة من طرف الذكور على الخصوص. إن الوضع السابق الذكر جعل عند سكان تلك المنطقة تربية الأنثى من تلك الحيوانات وصمة عار ثقافي اجتماعي كبير لا يجوز القبول به على الإطلاق.

مراجع:

محمود الذوادي (2006) الوجه الآخر للمجتمع التونسي الحديث، تونس، تبر الزمان.

هشام، شرابي (ترجمة محمود شريح): النظام الأبوي: إشكالية التخلف في المجتمع العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية 1992.

• بالإنكليزية والفرنسية

Calhoun،G. editor (2007) Sociology in America: A History، Chicago، the University of Chicago Press.

Chebel،M (1997) Histoire de la circoncision des origines à nos jours، Paris، Editions Balland.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.