عاشقة ماتيس

الأحد 2021/08/01
لوحة: هاني دلة

لم يبقَ ما يجعلني أنتظر، لقد وضع رجال الأمن الأمتعة بالطائرة، ودسّت هي بدورها تذكرة السفر وما تبقى من المال في حقيبتها الجلدية ذات الشرائط اللامعة، وأخيرا، قالت على سبيل الوداع: سنلتقي يوماَ في ظروف أفضل مما أنتم فيه الآن، وطبعت على خدي قبلة لا يمكن وصفها، أتذكر في تلك اللحظة إحساسها جيدا، كيف كانت تُراقب المسافرين في صالة الانتظار، أكاد أسمع دقات قلبها، ارتباكها، حركاتها المرتعشة وهي تقلب الموبايل بين يديها وتضرب بحذائها الأسود على الأرض مثل مهرة غير مروضة، سيظل هذا المشهد ملتصقاً بذاكرتي ما دمت قادراً على فعل التذكر.

باحت لي قبل يومين من سفرها: من الآن لن يكون هناك اضطرابات عاطفية، لا ألم، لا بؤس، بل سعادة مطلقة، سأركل زوجي على عجيزته، لا أريد رجلا مثل دمية ماركيز، يجلس طول الوقت على كرسي ويقرأ في جريدة، ثم أمسكت يدي بعنف وقالت: يجب أن تعرف أن الحياة مع رجل أقرع، صاحب فم كريه، يتبول في ملابسه الداخلية، شيء، والفظاظة والبلاهة والملل وقلة الإحساس شيء آخر تماما. نعم، يلزمك أن تكون مجنونا لترى العالم بشمولية تامة… دفنت رأسها بين ذراعيها وأجهشت بالبكاء. في تلك اللحظات ظننت أني المسؤول عن الحالة التي وصلت إليها، ورأيت من الضروري أن أعالج الأمر بطريقة مرحة، ولأني أعرف عشقها للفن، وبصورة خاصة أعمال هنري ماتيس، قلت لها:

ذات يوم زار بيكاسو أحد المعارض، فقالت له راهبة متذمرة سيد بيكاسو: ما دمت هنا، أريد أن أقول لك شيئا، هنا الجميع يعطون آراءهم العشوائية، ذات يوم تضايق السيد ماتيس، فالتفت إلىّ قائلا: أيتها الراهبة، شخص واحد له الحق ينتقدني، أتسمعين؟ هو بيكاسو.. والله طبعا، فقول ذلك للآخرين؟ فاتخذ بيكاسو طابعه المحملق، وقال: ولماذا لا يقول الله ذلك للآخرين.

كالعادة، ابتسمت عند ذكر ماتيس وأطرقت قائلة: نعم! حينما تنظر إلى اللوحة اقطع لسانك، هذا ما أفعله دوما أمام ألوانه المتوحشة، وظلاله الفاقعة، لذا، كان عليّ أن أجعل حياتي مثل (نافذة ماتيس) مشرعة في وجه العالم، وأن أخدش بأظفاري مثل القطط، أصيح، أبتهج، أرقص عارية أمام المرآة، أحطم جميع الترتيبات والأذواق الفظيعة، لؤم الأزواج، وقاحة الصبية، مراهقة المسؤولين الذين لا ينفكون عن تدوير الحقائق وتشوية وجه العالم، ثمة أشياء خارقة من حولنا، لا يمكن تفسيرها، ثمة أشياء قاتمة، كالليل البهيم، نلمسها حين تسوء الأمور، لدرجة تجعلنا نشعر بأن الحياة قبيحة جدا، قبيحة مثل مؤخرة زوجي التي تشبه مؤخرة البغل.

لقد كان كلامها عن زوجها رغم كبريائها يختزل بصورة ما، كل تناقضات العالم، العجب والرعب، الرغبة العنيفة في انتهاك اللذة، الإحساس، الفحش، الشبق، القضيب النائم، المتعة الفاترة، كل هذا يُبعث بعقلها، وهي تتحدث بعينين ثابتيين كما لو أنها (فريدا كهلو) في إحدى بوتريهاتها.    أكدت لي، وبشكل قاطع، أن سبب احتقارها لزوجها ابن العاهرة لم يكن جديدا، وإنما منذ عشر سنوات، في أحد ليالي فصل الصيف، كانت ترتدي ثوبا من الحرير، عاري الكتفين، وكان زوجها بالمكتب يعمل مع رئيسه بالعمل، فجأة دخل عليها وطلب منها أن تجلس مع ضيفه على انفراد، ودون سابق معرفة، ومن يومها، بدا لها أن شعورا من الخيبة والقلق والنفور يغمرها، وأصبحت تنظر إليه باشمئزاز واحتقار لا حد له، ولا أنكر، بدأت أفهم، لدهشتي، وأنا أصغي لكلماتها دون أن أتكلم، الصرخة اليائسة، ألوان الطابع الجنائزي في فن ماتيس، العشق والانتقام في شعر لوتريامون، لقد كان كلامها يكشف كينونة التأمل وهشاشة المعنى: أن نكون أو لا نكون، أليس العالم يتألف من تلك الفوضى الخلاقة، والعدمية والشعور بالتجذر بدل الاقتلاع بحسب تعبير سيمون فايل.

حينما غادرت، رحتُ أفكر عبر الأزقة، وأنا أروح وأجيء تحت رذاذ المطر، وأتساءل بشهية لا تعرف الاكتفاء، هل من الممكن أن يطيب خاطرها حالما تعود إلى بلادها، ومن يدري؟ ربما سوف تستسلم للتغيرات المحتملة والفظاظة الرتيبة، ومن جانبي، لم يبق لي سوى السؤال عنها، رغم قناعتي التامة، بأنه: يجب على المرء ألا يستدرك ما كان قد افلت منه. فالرغبة الجنسية، التعدد، حب الذات، الإخفاقات، قيمة الكائن، كل هذه الأشياء بما في ذلك قضايا الحب ليست ملكنا، وإنما للآخر، ومن أجل الآخر.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.