عالم ثقافي عربي مرتجل
عالم الدراسات العليا في الاختصاصات العلمية في الغرب عالمان. واحد نظري، يذهب بعيدا في استكشاف آفاق جديدة في الرياضيات والعلوم والهندسة. والآخر تطبيقي، يستعير ما يناسبه من الإنجازات النظرية للعالم النظري ليجد لها تطبيقات في عالم اليوم.
أذكر مثالا بسيطا لتبيان الفرق. مطلع القرن العشرين أنجز عالم بريطاني بحثا في فرع من الرياضيات. قال: “يا لها من رياضيات جميلة. للأسف مكانها الكتب”. تلك الرياضيات عادت مع نهاية السبعينات لتجعل السيطرة على مكوك الفضاء ممكنة، وهي التي تتحكم اليوم بمقاتلة متطورة مثل أف – 35 أو أساس توجيه حزمة البلازما في المفاعل الاندماجي المستقبلي. استل المهندسون تلك الرياضيات من الكتب وطوّروها وسخّروها كي تصبح قابلة للتطبيق ودفع التكنولوجيا خطوات كثيرة وكبيرة إلى الأمام.
عندما تدرس علما تطبيقيا، يطلب منك المشرف أن تتعلم فرعا محددا من العلم وتشتغل عليه. عندما تغامر وتذهب إلى الأصعب، وهو التطوير النظري، فإن المشرف يرمي عليك كتابا أو اثنين ويقول لك اذهب وتأسس نظريا بشكل متين، ثم عد إليّ. كأنه يقول لك تعال قابلني بعد ستة أشهر أو سنة كي نرى ماذا فهمت وماذا لم تفهم.
ما علاقة هذا بالثقافة؟ ربما لا توجد علاقة مباشرة، لكن الإسقاط وارد.
ثمة ارتجال كبير في عالم الثقافة. وللإنصاف، فإن هذا الارتجال موجود في الغرب كما هو في الشرق. الفرق ربما يكمن في أن الغرب لا يأخذ المثقفين المرتجلين بجدية. هم ظواهر عابرة لا قيمة لها. أيّ محاولة لمنحهم قيمة أكبر من قيمتهم تقابل بسخرية.
الارتجال في الثقافة شائع في الشرق، أو عالمنا العربي تحديدا. الارتجال في الثقافة يعني أن المثقف العربي لم يجد “مشرفا” يرمي عليه الكتب التأسيسية في الفكر والثقافة ليطالعها ويفهمها قبل الخوض بالشأن الثقافي. هناك بالطبع عالم واسع من النصابين ومدعي المعرفة ممن يسلقون/يسرقون من الثقافة الغربية بلغاتها المختلفة ويعيدون تقديمها لعالمنا العربي على أنها إنجازاتهم. ليس من باب الصدفة أن الكثير منهم ظل يهرب من السرقة من اللغة الإنجليزية لشعبيتها في عالمنا. بقي يهتم بـ”الاستعارة” من لغات أخرى. هؤلاء في تراجع لاعتبارات تتعلق بالفضائح التي صار من السهل الترويج لها عبر مواقع الإنترنت أولا، ومنصات الشبكات الاجتماعية ثانيا.
المثقف المقصود هو كاتب مهتم، لكنه مستعجل. يريد حضورا لافتا من دون تأسيس، على الأقل بالحد الأدنى.
لا أعرف كم كتابا تأسيسيا في المسرح والنقد المسرحي تكفي لتأسيس مثقف يستطيع أن يكتب بموضوعية في النقد المسرحي. لا شك أن المهمة ستكون أكثر تعقيدا في نقد الفنون التشكيلية. هل لاحظتم الوصفيات المسهبة في الكتابة عن الأعمال التشكيلية والمعارض، وكثرة الأسماء، غثها وسمينها، التي ترمى في سياقات النصوص “النقدية” التي نقرأها في الموضوعات المنشورة في المجلات الثقافية والصفحات المخصصة للثقافة في الصحف؟ لا يتردد “ناقد” سينمائي في أن يرسل مقالة إلى جريدة عن فيلم جديد وتكون عمليا رواية لحكاية الفيلم يقدمها بفقرة وينهيها بفقرة، وهاكم نقدا سينمائيا.
مراجعة الكتب في عالمنا مأساوية. لم أر الكثير من المراجعات الحقيقة للكتب. في أحسن الأحوال فإن ما يسمى مراجعات نقدية للكتب هي عملية استعراض لمحاور الكتاب. في أسوئها، نقرأ “وفي الفصل الثاني قال الكاتب بلا بلا بلا” وفي فقرة أخرى “وفي الفصل السابع يتحدث الكاتب عن بلا بلا بلا”. عمليات قص ولصق من النصوص بلا حد أدنى من الاهتمام. لا أعرف إن كانت هناك كتب تأسيسية في فن مراجعة الكتب، لكن التجارب العالمية موجودة. مثقفنا لا يعرف الإنجليزية، حسنا: ماذا عن تجربة مجلة “الكتب.. وجهات نظر” عن دار الشروق؟ صحيح أنها توقفت، لكن أعدادها موجودة على الإنترنت. نقرأ ترجمات المراجعات لعلنا نتعلم كيف يراجع العالم كتبه.
أنظروا كيف يجري مثقف لقاء مع مثقف آخر. هناك أسئلة مكررة توحي لك أن مثقفنا يعاملها معاملة “الوصايا العشر”. تتكرر وتتكرر. وبدلا من استنطاق المثقف المقابل، تضيع الفرصة. أما “محضر” الاستنطاق نفسه فهو في معظمه س/ج وتفريغ بلا قراءة أو فهم أو مناقشة. يتعقد الأمر أكثر إذا أسهب مثقفنا المستنطق في الحديث. يتعقد أكثر وأكثر إذا كان الاستنطاق لمجموعة مثقفين عن محور ثقافي. يصبح نص المقابلات أشبه بتدوين لما يردده صبية تلاميذ في كتّاب ديني. مثقفونا يرددون كلام بعضهم البعض، ومثقفهم المستنطق ينقل بـ”أمانة” ما قالوه.
أمثلة الارتجال في الدخول في عالم الثقافة كثيرة، ولا شك معروفة بالنسبة إلى العديد من المثقفين، المرتجل منهم والمؤصل بالفهم التأسيسي. وللحق، فإن إسقاطاتي هذه هي نوع من الارتجال. لا أعرف كم أصبت.