عالم لطفية الدليمي
أنهيت مؤخراً قراءة الرواية القصيرة للطفية الدليمي “عالم النساء الوحيدات”، التي تضمنها كتاب حوى – إضافة إلى الرواية – بعض القصص القصيرة للكاتبة؛ فوجدت في الرواية، كما في القصص، ذلك الطواف في عوالم النساء، تبرع الكاتبة في ولوج دواخلهن وتمزقاتهن وأشواقهن وتوقهن.
قد نجد تعبيراً عن ذلك فيما قالته الكاتبة على لسان بطلة الرواية “هل يعرف الناس أن لغرفة النساء الوحيدات رائحة خاصة لا تميزها سوى النساء؟ لا أعتقد أن هناك من يعرف أسرار غرفة النساء الوحيدات سوى النساء، وليس كل النساء؛ فأسرار تلك الغرف بما تعجّ من أفكار وحكايات ومشاعر وتضحيات هي عالم مختلف مليء بالأسرار، برائحة البكاء والحزن يحمل في جنباته لحظات فرح لم تكتمل، ولحظات سعادة سُرقت قبل أن تكتمل، أحلام أمومة رحلت قبل أن تأتي، قصص حب لم تكمل طريقها”.
لكن الأمر لا ينحصر في كون البطلات نساء، وإنما أيضاً لكونهن نساء عراقيات تحديداً، ينتمين إلى البلد المثقل بالأوجاع وذاكرة الحروب المدمرة، وباستشراء الغرائز والنزعات المذهبية والطائفية فيه، التي حولت هذا البلد – المنارة للثقافة والتقدم إلى غابة صراعات تتناسل على مدار عقود، وقُدّر للكاتبة أن تعيش شخصياً معظم فصولها الموجعة.
ليس أبلغ مما قالته بطلة قصة “عشاء لاثنين” التي تضمنها الكتاب في وصف الحالة الموحشة التي آل إليها العراق ”أفتحُ نوافذ الغرف ويدخل البيت هواءٌ نديٌّ مع صخب حياة جموح، يقتحم وحشة غرفتي، كل شيء في الخارج مهدّد بالنهاية، الأمكنة تتبدل معالمها، تنهار وتتهدم، الأشجار تكبر وتشيخ، الأنهار تواصل رحيلها نحو الخليج والصغار يكبرون ونحن تطاردنا محنة الفقد”.
سبق لي كقارئ أن عشت مثل هذه العوالم حين قرأت رواية “سيدات زحل” التي سجلت فيها لطفية الدليمي اللحظات الفاصلة في تأريخ العراق الحديث، حين اجتاحته قوات الغزو الأميركي بذريعة إنهاء الدكتاتورية فيه وإقامة الديمقراطية؛ فاستبدلت دكتاتورية الفرد الطاغية بمنظومة من الدكتاتوريات التي لا تقل طغياناً، وأقامت نظاماً للمحاصصة المذهبية والطائفية التي نالت من الهوية الوطنية للعراق حتى كادت أن تبددها، وأعادت المجتمع عقوداً للوراء، كما عشت مثل هذه العوالم أيضاً في روايتها القصيرة “موسيقى صوفية” التي استوحتها من حياة الشاعر الفيلسوف الراحل عزمي موره لي ورفيقة حياته ناديا نصار؛ ففي سنة 1979 زارتهما في منزلهما الدمشقي حيث عزف الشاعر مقطوعاته الصوفية على العود، فحملتها أنغامه بعيداً لتحلق بها نحو ذكرى زيارة قديمة لضريح جلال الدين الرومي، وبعد عشر سنوات على هذا اللقاء كتبت لطفية الدليمي هذه الرواية التي تحكي عن أرملة تقرر الخروج من ركود الوقت والبيت فتنتفض مثل طائر مائي أثقلت جناحيه أوحالُ البرك الآسنة، فتتمتم لنفسها سأغير كل شيء، وتبدأ بتغيير ستائر البيت حيث جعلتها ستائر رقيقة تشفّ عمّا في الشارع.
لكنّ ما رأته المرأة هنا يختلف عمّا رأته بطلة “عشاء لاثنين”؛ فقد أتاحت لها الستائر الشفافة أن تشهد الحياة، وأن تنبثق قصص الآخرين في اللحظة التي تقع عليهم عيناها، فيصبحوا موضوعاً جديراً بالاهتمام، وترتبط بهم: تفسّر حركاتهم الزائفة والصادقة، تعابيرهم الملتاعة والفرحة، ويحيكون لها نسائج الدراما اليومية رغم تكرارها وابتذالها.
لطفية الدليمي في رواياتها وقصصها ومجمل ما تكتب تفعل فعل هذه المرأة، من خلف ستائر شفيفة تحكي لنا الحياة، الحياة الإنسانية عامة وحياة العراق المثقل بالجراح والآلام والمبتلى بأشد المحن وأعصاها، وتقول لنا عن ذلك بلغة أخاذة، رشيقة، وأنيقة.
* * *
كقارئ عرفت أدب لطفية الدليمي أول مرة من خلال قصة قصيرة وقعت عليها عيناي في منتصف التسعينات الماضية، ولذلك حكاية سبق لي أن رويتها في إحدى مقالاتي عن الكاتبة وأدبها؛ ففي سنة من السنوات العجاف التي كان العراق فيها مخنوقاً بالحصار الجائر الذي فُرِض على شعبه من قبل ما وصفه جورج بوش الأب بالنظام الدولي الجديد، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حمل الأديب العراقي – المقيم، يومها، في الإمارات – محمود سعيد، وكان يتردد على العراق بين فترة وأخرى، رزماً من النصوص الأدبية المميزة لنخبة من أبرز الأسماء العراقية المبدعة في الشعر والقصة والنقد الأدبي، وما إلى ذلك، وسلّمني إياها كي تجد طريقها للنشر على صفحات مجلة “الرافد” الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، وكنت، آنذاك، مديراً لتحريرها، وبالفعل وجدت تلك النصوص، بالتوالي، طريقها إلى أعداد المجلة؛ لكن نصاً قصصياً مما نشرناه في «الرافد» استقرّ في ذاكرتي طويلاً، هو نفسه القصة القصيرة التي عنيتها للطفية الدليمي، يدور فيه حديث عن امرأة فرضت عليها ظروف الحصار أن تأخذ بعض أغلى ما تملك من كتب في مكتبتها لتبيعها، وفي طريق العودة ابتاعت بثمن تلك الكتب بعض ضرورات العيش وشيئاً من البُن، وحين عادت إلى البيت حضّرت لنفسها فنجاناً من القهوة، وما أن احتست منه بعض الرشفات حتى شعرت بمغص شديد في معدتها فتخيلت أن مبدعي الكتب المباعة ينتقمون منها لأنها فرّطت في كتبهم. ستغدو هذه القصة إيذاناً بحرصي اللاحق على قراءة كل ما يقع في يديّ من مؤلفاتها التي تتنوع بين التأليف والترجمة المبدعة، وقدّر لي بعد سنوات، يمكن القول إنها كثيرة، أن ألتقي بالكاتبة بعد أن أصبحت تقيم في عمّان، حيث حملتها محنة بلادها على مغادرتها مكرهة، ولكنها تقاوم الغربة بالكتابة المثابرة المتألقة بلغتها الرشيقة، السلسة والعميقة، وبالترجمات المميزة وبخاصة تلك المتصلة بفنَيْ الرواية والسيرة كترجمتها كتاب جيسي ماتز «تطور الرواية الحديثة»، والسيرة الذاتية لكولن ويلسون «حلم غاية ما».
أصبحت كلما زرت عمّان للمشاركة في فعاليات ثقافية أحرص على اللقاء بالكاتبة التي وجدت في شخصها – كما قد وجدت في كتابتها – نموذجاً للمثقفين العراقيين الإنسانيين الذين نجوا بأنفسهم من أدران الطائفية والمذهبية، على أنواعها وتلاوينها، وظلوا ممسكين بجمرة الوعي بأن مستقبل العراق لا يستقيم بالطريقة التي يُدار بها اليوم لا من قبل من يمسكون بالسلطة، ولا بالنوازع العشائرية والتكفيرية، وإنما بخيار الدولة المدنية الديمقراطية التي يستحقها العراق بما فيه من نخب متعلمة، كفؤة، ومن تقاليد سياسية عريقة.
كلما طالعتُ لها كتاباً، رواية أو مجموعة قصصية أو ترجمة لكتاب أجنبي، أتساءل بيني وبين نفسي: من أين تأتي هذه المرأة الاستثنائية بالوقت لكي تنجز كل هذا؟ الجواب عند لطفية الدليمي ليس صعباً؛ فقد كرّست حياتها، وبخاصة منذ أن استقرت في عمّان، للكتابة والقراءة وحدهما، وأصبح في جعبتها عشرات المؤلفات بين الرواية والمجموعات القصصية والمذكرات والسير، ونحو خمسة وعشرين كتاباً مهماً ترجمتها عن الإنجليزية، فضلاً عن نصوص في الدراما، وأبحاث ودراسات في الأدب والأسطورة والتاريخ.
وهي أيضاً متميزة في اختياراتها للكتب القيّمة التي تترجمها، وانعكس اهتمامها كروائية على نوع ما تختار حيث أثرت المكتبة العربية، خلال السنوات الماضية، بعددٍ مهمّ من الكتب التي تتناول كل ما يتصل بالرواية من فضاءات وتقنيات وتجارب، كما أولتْ عناية خاصة بترجمة سير شخصيات انتقتها بعناية، بينها – على ما أذكر- ترجمتها لسيرة عالم الصواريخ ورئيس الهند الأسبق زين العابدين عبدالكلام.
بين إصدارات لطفية الدليمي كتابٌ يتصل بأدب الرحلات، سمته «مدني وأهوائي»، سبق له أن حاز “جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة”، ومقرها أبوظبي، وهو كتاب أليف، رشيق العبارة، تصحبنا فيه الكاتبة في رحلاتها إلى مدن وبلدان بلغتها الشفيفة، وروحها المستكشفة للجمال.
على النسخة التي أهدتها لي من كتابها المترجم «نزهة فلسفية في غابة الأدب» كتبت لطفية الدليمي تقول “هذه النزهة الفكرية فسحة لاجتلاء ما يربط الفلسفة بالفعل الإبداعي”.
في أقل الكلمات وأدقّها شخّصت المترجمة مضمون الحوارية بين آيريس مردوخ وبريان ماغي حول ما هو فلسفي في الأدب وما هو أدبي في الفلسفة، وعلى صغر حجم الكتاب فإنه ثري بالأفكار وملهم ومحرّض وينير زوايا معتمة أو لم يُسَلّط عليها من قبل الضوء الكافي، حول العلاقة بين الأدب والفلسفة.
القارئ الحصيف يستطيع أن يتبين وهو يقرأ أدباً ما إذا كان كاتبه تحصّل على تأسيس فلسفي يُعتدّ به، أو أنه كاتب عادي أو حتى سطحي. لن تغني اللغة الجميلة للكاتب، أيّ كاتب، عن الفكر، الفكر الفلسفي تحديداً؛ بل إن هذا الفكر يغني بدوره لغة الكاتب ويطوّر مهاراته الأخرى، وأحسب أن هذا ينطبق على الكثير مما كتبته الدليمي من أدب.