عالم يكتب عن الثقافة أم مثقف يكتب عن العلم
ثمة اعتزاز مبالغ فيه في التخصص في العالم العربي. التخصص مهمّ بالطبع. لا يمكن أن تسلم نفسك إلى طبيب لم يتخرج من كلية الطب. إذا زاد ارتفاع المبنى عن ثلاثة طوابق، من المهم الاستعانة بمهندس إنشاءات يعرف سمك الأعمدة التي ستحمل المبنى. البنّاء خبير وله ما يقوله في الأمر، لكن تخيل مبنى من عشرين طابقا بلا حسابات إنشائية.
مبعث عدم المبالغة بالتخصص هو في الأمور التي تحتمل الخوض فيها من خلال تراكم الإدراك المعرفي. خذ مثلا طبيبا يكتب أعمالا روائية. يتحسس البعض من هذا بالقول إن الأعمال الروائية والأدب في العموم هو صنعة الدارسين في المجالات الأدبية. تسمع مثل هذا الكلام في عالمنا العربي كثيرا. تسمع من عيّنته أكثر عندما يدافع خريج معهد للصحافة عن مهنة الصحفيين التي يريدها محصورة في خريجي المعهد. خريجو المعهد فيهم وعليهم. بعضهم ألمعيّون يتركون بصمة على المهنة والصنعة، وآخرون متعثرون لن يفيدوا الصحافة في شيء. ولكن بالتأكيد ثمة ما يكفي من الفسحة لآخرين ممن لم يتدربوا على المهنة بشكل أكاديمي، لكن لديهم قدرة على مجاراتها. هؤلاء ليسوا بالضرورة دخلاء.
الوعي المعرفي من ضرورات التغيير المنشود في مجتمعاتنا العربية. المفكرون المعرفيون هم من غيّر التاريخ ودفعه باتجاهات التحول الذكي والنهضة والتنوير. سمّهم علماء أو فلاسفة أو مفكرين. المؤكد أن سعة فرشتهم المعرفية كان لها الأثر الكبير في التغيير في محيطهم ومجتمعهم.
مبعث هذا الكلام هو سؤال التوسيع في مساحة الإدراك المعرفي. هو سؤال من الصعب الإجابة عليه. ربما نضعه في إطار مبسّط لعلنا نجد الإجابة.
خذ مثلا الثورة التقنية. من ينبغي أن يكتب عنها معرفيا للقارئ؟ مهندس خبير بمفرداتها التكنولوجية ولديه قدرة على تقديمها بلغة المثقفين؟ أم مثقف يقرر أن يقلع عن إدمان قراءة وكتابة النصوص الأدبية والفكرية نحو استكشاف عالم يغيرنا يوميا ويحتاج إلى من يعمل على تقريبه للأذهان معرفيا؟
الكتابة عن الثورة التقنية سهلة نسبيا. الأجهزة التي نستخدمها يوميا “تثقفنا”. بعد فترة من استخدام أيفون تصبح ملمّا بما يمكن للإضافات التقنية أن تقدمه للإدراك المعرفي. فيما عدا قلة قليلة من المعاندين لتقبل التكنولوجيا، يمكن لمثقف واع أن يخوض تجربة الكتابة عن التأثير الفكري والثقافي للتقنيات. يمكن لمهندس يقرأ ما هو أبعد عن المفردات التقنية أن يسخّر لغة الفكر لتقديم البعد المعرفي للتكنولوجيا.
المسألة تصبح أكثر تعقيدا في الخوض بمجالات علمية أو صحية. نحس بالاستلاب أمام هزات صحية تتسبب بها الأمراض والأوبئة. من يكتب عن السرطان؟ المريض بتجربته، أم الطبيب بخبرته، أم العالم الباحث بما يتوصل إليه في مختبره، أم المثقف الذي يدرس ظاهرة المرض بكل جوانبها ويعيها فيقدمها للناس ممن يرون في الأمر شيئا يكتنفه الغموض؟ انظروا ما حدث حين جاءت جائحة كورونا. لا الطبيب كان مستعدا ولا العالم ولا المثقف. من دخل على الخط عندما لاحظ ذهول المجتمعات أمام صدمة الوباء؟ رجال الدين ومشعوذون وجهلة. أخذ الأمر وقتا حتى في الغرب قبل أن يلتقط خليط من العلماء والمثقفين الخيط ويقدمون فكرة موضوعية وليست غيبية عن الوباء وتأثيره. بمرور الوقت، زادت الحزمة المعرفية ولم تعد محصورة بالمرض، لكي يدخل عالم الاجتماع لتفسير العزلة والطبيب النفسي لتفسير الكآبة والمفكر الاقتصادي لشرح التأثيرات المختلفة لاختناق المجتمعات بين السياسي والمالي والاقتصادي والنفسي. ولا يزال الباب مفتوحا للاستزادة في هذا المجال.
أتمنى أن أشغّل راديو السيارة على برنامج ثقافي وأستمع لمثقف يتحدث عن التغييرات النفسية والمجتمعية التي تصاحب التغيرات البيئية، أو أن أستمع لعالم في البيئة يفسر ما يحدث لمستمع غير خبير بالفقاعات الحرارية التي تغير المناخ وتصحّر الأرض الخضراء وتغرق أرضا مشمسة بأمطار لا تنقطع. المسألة أبعد من فكرة “العلم للجميع”. ما عاد الأمر اختياريا عندما يجد الراعي في بادية العراق والشام أن الأرض ما عادت تنبت عشبا لأغنامه. يحتاج لمثقف متباسط أو عالم بيئي يعرف كيف يخاطب الناس أو خبير اجتماعي يربط البيئة وتغيراتها بالهجرة الداخلية والخارجية، بل والثورات.
أول اتهام للمثقفين هو سكناهم في أبراجهم العاجية. اليوم يحتاجون ليس إلى النزول من تلك الأبراج والاستمتاع بأضواء الاعلام الشعبوي، بل استخدام تلك المواقع المرتفعة للإطلالة والنظر وتحويل البصيرة الثقافية إلى بصيرة معرفية. لا ضير أن يصعد إليهم ويشاركهم المشهد من كان بعيدا عن المفردات الثقافية التقليدية لكنه واعٍ بمفردات التقنية أو الصحة أو البيئة أو الذكاء الاصطناعي أو التحليل النفسي والتفسير الاقتصادي والاجتماعي لحياة الناس. في تلك الأبراج، نضع جانبا نقابية التخصص التي لم يعد لها مكان في الوعي المعرفي اليوم.