علم الجمال الذهبي
حينما مكث والدي في المشفى الفرنسي 43 يوماً، لم يتغير أبداً، بل عاود ممارسة تفسيره لعلم الجمال الخاص به مباشرة بعد نهوضه وفوقته من الحادث الشرياني الدماغي الذي ألمّ به، في غرفته تلك كانت هنالك نافذة كبيرة مطلة على أشجار خضراء كثيفة يمعن النظر إليها على الدوام، في شرود مطلق ومطبق، لم يكن نظره يتزحزح قيد أنملة عنها، ربما كان يفكر في الأشجار أو ربما كان مجرد مدّ للبصر في فسحة بعيدة عن هذا المكان المعقم، لم أدرك أنا، زائره اليومي أكثر من مرة في اليوم ما كان يفعل، أكلمه فيرد علي بابتسامته ذات المئة معنى وكأنه يسايرني، أو كأنه يحاول ألا يجعلني أحزن.. في الصباح تأتي بضع يمامات لتجلس على شباك نوافذ المشفى كلها.. ومنها نافذته.. فكان يرقبها باهتمام ويتحرك قليلاً في اتجاهها.. ربما كانت حركتها خارج المكان وخارج النافذة تبث فيه الرغبة في المتابعة مجدداً فيبدأ بالكلام والكتابة في أوراقه، مرة، طلب أن نشاهدها وكأنه يتأكد من أنها ليست حلم يقظة يشاهده وحده.. طلب أن نتابعها معه ربما كي يزداد يقينه وتفاعله بمجرد تأكيدي على جمال ووجود تلك اليمامات..
أُسمعه موسيقى عود شرقي من اليوتيوب، كي يسترخي قليلاً، فهنالك على الجدران لوحات تشير إلى أن الموسيقى تزيد من تفاعل المريض مع الحياة.. فامتثلتُ، وأسمعته ما تيسر من مقطوعات لآلة العود الشرقي، مما جعل المكان برمته خاشعاً.. وأنا كذلك.
كان الأمر برمته غريباً عليّ، فالمشفى والتقيد بالسرير والأنابيب الموصولة بجسده لا تشبهه مطلقاً ولا تشبه شكل الحياة التي اعتنقها طوال حياته، ولا أسلوب التعاطي مع الكون الذي اعتمده واعتنقه طوال عمره.. كانت بالنسبة إليه سلاسل تقيد حريته وحركته، حريته التي دافع عنها في مواجهة كل أشكال الاستبداد التي واجهها منفرداً، أسيراً في حرب التحرير وأسيراً في مجتمع شمولي مكبل بكافة أشكال القيود السياسية والعسكرية والدينية والاجتماعية، مزق كل تلك السلاسل، محاولاً تمزيق سلاسل المشفى، دون جدوى.. فالحياة بالنسبة إليه لا ترتبط بالبشر فقط، أو بالمحيط الاجتماعي الذي يتفاعل معه ويسكنه، من نشاط ثقافي أو إنساني.. بل كان جلّ وقته ينقضي في السير في الحقول أو البساتين أو الغابات، متابعاً الطيور وسكناها وحركتها وألوانها، عاشقاً للشجر يميز نوع الشجرة واسمها وسلالتها من مجرد إمساكه بورقتها وتقليبها بين يديه، فيقول لي في مشاويره التي اتخذني فيها رفيقاً لدربه علّه يعلمني قليلاً من خبرته الخضراء.. إن لكل شجرة شخصية وطريقة عيش، تتجانس فيها ضمن محيطها، هل رأيت في عمرك غابة مكونة من نوع الشجر ذاته، غابة بلوط مثلاً، أو غابة سنديان، هذا كلام بشر، إنما في الحقيقة فالعكس هو السائد، فالغابات تتنوع بمجملها، ولربما كان هنالك سائد للغابة من حيث العدد، ولكن هذا لا يمنع بأيّ شكل من الأشكال أن تنمو في تلك الغابة أشكال وأنواع مختلفة من الأشجار، تتعايش، وتتفاعل، مع بقية المخلوقات، فإن ضربت حشرة ما نوعاً من الشجر لا تتمكن من الآخر أبداً، وبهذا تحافظ الغابة على أوراقها وخضرتها وبقائها دوماً، الغابة هي فضاء مفتوح للجميع لا يدنسه إلا العقل البشري.. فهي تقبل الإنسان إن تخلى عن كل حضارته ودخلها مثل أجداده، وإن لم يفعل فهي ببساطة تختفي ملحقة الألم به، إن لم يكن الآن فبعد أجيال..
البشر وحدهم هم من يرغبون في العيش في غابات بشرية متجانسة، ببساطة لأنهم لم يصلوا إلى حكمة الأرض المتصلة بمعرفة هذا الكون ودورته..
حدثني طويلاً عن الفرق التطوعية التي قرأ عنها في أوروبا التي تخرج لمتابعة ومراقبة الطيور في الغابات، فقلت له “إنها فرق لكبار السن، وهي لا تليق بشباب روحك”، لم يمانع ولم يعلق، لكنه طلب مني البحث عنها كي يلتحق بهم.. غريبة هي علاقته مع الطيور كذلك، كان عاشقاً لضعفها وجمالها وتعبيرها الحر عبر صوتها، كان يربيها في عشرات الأقفاص في بيته في دمشق، بحيث تتحول شرفته المغطاة بالزجاج إلى مرقص للعصافير.. وأذكر حينما كنت صغيراً، احتفاله الصاخب باقتنائه عصفوراً جديداً، فيجلس ويُعد كأس قهوة ويستلقي على كنبته، ويقفل أبواب غرفته المترعة بالكتب والمخطوطات، ويفتح باب القفص لينطلق العصفور الجديد مرفرفاً في فضاء الغرفة، ليتخذ من الكتب غصناً له هنا، ويقفز بعدها ليجلس فوق كتاب آخر في رف بعيد هناك، ثم يدخل خلف المجلدات ليلتف ويخرج من مكان آخر.. ليعود للتقافز من رف إلى آخر ومن مكتبة إلى أخرى، كل هذا وسط ضحكه اللامحدود وسعادته المطلقة بالوافد الجديد، الذي يعرّفنا عليه ببساطة هكذا كل مرة، وكأن بهذا العصفور الذي يشكل حريته التي يبحث وبحث عنها طوال حياته، يتعرف بهدوء على مكتبته أو غابة الذهبي الخضراء، التي لا شر أو خطر فيها مطلقاً، غابة من الأفكار والتاريخ والكلمات والسير والأشعار، يطلق عبرها عصفور حريته ليجسد جلّ الجمال الذي يبتغيه الذهبي في حياته، حرية تتراقص بين الكتب..
كنت أرقب هذا وأنا مذهول وخائف، وكان هو يضحك ويبتسم، لينبهني بكل حركة يقوم بها العصفور الجديد “شوف، شوف، شوف بابا، شوف كيف بينظف حاله، شوف كيف بيحرك راسه”، وهكذا شاهدت ببساطة ذلك العالم الذي لم أكن مفتوناً به كما كان.. ثم لأخرج من الغرفة وسط تحذيراته من خروج العصفور إلى الخارج، فأجيبه إن كنت تحبه فأطلقه، ليعاود الرد ببساطة لو خرج فلن يمكث لدقائق حياً، فهذا العالم ليس عالمه..
هكذا كان يحمي العصافير من الخارج الموحش، ببساطة طفل، يطلقها في المكتبة، المكتبة التي كتب عنها عشرات المرات في أدبياته، معلناً أن لا حياة بالنسبة إليه سوى في المكتبة، المكتبة بالنسبة إلى الذهبي الكبير، هي مختصر الحياة، وهي غايتها، جل ما أنتجه الإنسان، مدمجاً بحرية وجمال الطبيعة، العصافير التي تتقافز فوق الكتب كانت بالنسبة إليه سيمفونية من الجمال، ولو كان الأمر له، لأطلق جميع عصافيره في مكتبة ضخمة كبيرة، مغلقة، فيها من وسائل العيش للعصافير وله ما يجعله سعيداً بقية حياته، ولكن الأمور لم تكن تجري هكذا، فالكتب في المكتبة والعصافير في الأقفاص، في أفضل تنسيق للحياة الممكنة في عالمنا الصعب الذي كنا نعيش فيه. وأما هو فكانت محاولاته للدمج بين العالمين هي نتاج فكره الأدبي، الذي ضخه في مجمل رواياته وأعماله الفنية والبحثية.
حدثني عن شعراء يمتشقون البندقية ليصطادوا العصافير، بعد أن يكتبوا صباحاً قصائد في بكاء الإنسانية، حدثني عن كُتاب لا وقت لديهم لسقاية زهرة في بيتهم، فتموت متيبسة إلى جوار المكتب الذي يعملون فيه، حدثني عن صحافيين يدوسون القطط بسياراتهم دون رأفة في الشوارع.. حدثني طويلاً عن عالم المتناقضات الذي كنا نعيش فيه..
في بلدان أخرى تجد الطيور لنفسها مكاناً للعيش، وخصوصاً الطيور الهشة الصغيرة التي تقتات على النباتات، وتبني أعشاشها وسط الطبيعة، ولكن في بلادنا.. كل ما هنالك يقتل الجمال.. فقط من أجل شهوة القتل.
يستند علم الجمال الذهبي، الذي لم ينظّر له ولا مرة ولم يكتب عنه بشكل مباشر في أيّ مرة، ولكنه مارسه وعاشه طوال حياته، ويمكن للراغب أن يجده متناثراً في العشرات من كتبه، هنا أو هناك في شخصية رجل أو طفل أو امرأة، في تفصيل متخيل أو في قصة واقعية.. يستند على فكرة الزمن وعلاقته بالمخلوقات، فعمر الجمال قصير، والجمال عموماً هش ويحتاج إلى النصرة في مواجهة القباحة.. فكيف لنا إطالة عمر الجمال في بلاد لا تحمي الجمال ولا الإنسان..
لذلك فلقد عزل نفسه لسنوات طوال في معتزله الريفي بحثاً عنه، ومتابعاً له مثل مدمن عاشق يحتاج كي يعيش إلى جرعات يومية، يجدها في أزهار الكرز تارة، أو في حبات العنب تارة أخرى، ومرات في تربية الطيور ومنها تربية الحمام بأنواعه والطاووس والدجاج الياباني وديك الحبش.. أذكر مرة أنه بنى غرفة صغيرة ليكون الحمام الأبيض فيها، وصنع لها كل مستلزماتها من مأكل ومسند ومشرب، وحصن البرج الصغير بشبك كثيف، ولكنه بعد شهر تقريباً ذهب إلى هناك ليجد أن جرذاً من هذا العالم قد دخل إليها ليلاً ومزق عشرين زوجاً من الحمام ليس ليأكل فقط، بل لرغبة فيه بالقتل.. كما قال.. وفي تلك المرة رأيته دامعاً لأول مرة في حياتي.. وهو يرفع الريش الملطخ بالأحمر بعيداً مع ما تبقى من حلمه فيها.
تربية العصافير بالنسبة إليه كانت محاولة لحمايتها من الخارج حيث لا مكان لها، كان يمارس عادات غريبة في تربيته للعصافير، يطعم الأم منها بيضاً مسلوقاً مع قشره، ويضع لها في الشتاء حبات الأسبرين في الماء، في الصيف يرشها بسحب من ماء بارد لطيف، ويتبعها بمشاركتها لقطع من خوخ أو تفاح أو قشر خيار.. محاولاً تهجين الأنواع، ومتابعة الأفراخ وتقريبها من المدفأة شتاءً كي لا تشعر ببرودة الجو القاتلة.. ولكنه فيما يفعل كان يعبث مع الزمن الذي حاول استشرافه من كتب التراث ومن مكتبته الضخمة مترامية الأطراف..
كانت زراعة الأفكار بالنسبة إليه مثل زراعة البذرة السوداء المجهولة في الأرض، والتي بعد عدة أشهر ستتحول إلى نبتة تطلق وردة حمراء جميلة، محاطة بأوراق زمردية خضراء فاتنة، فيبقى السؤال، هل هذه البذرة هل هي الوردة نفسها أم الوردة هي شيء آخر غير البذرة؟ وهل ستكون هذه الوردة دون البذرة؟ ليأتي الجواب منه: هذه الوردة هي مجموع البذرة والزمن والانتظار، والماء والهواء والشمس.. وكذلك تبنى الشخصيات الروائية لديه، شخصية تتعرف عليها في شكل من الأشكال، شاهدتها أو قرأت عنها أو مررت بها في الشارع، ليأتي الزمن الذي يمر بالكاتب والشمس الخاصة لتبلور البذرة وتحتضنها، لينتجها كل كاتب بطريقته بعد احتضانها في تربة روحه.
من هذه النقطة، انطلق باحثاً عن معنى الزمن المؤثر في الشخصية الروائية التي هي العمود الأساسي للرواية التي اعتمدها وتبنّاها في كتاباته، فيحدثني عن انكبابه في فترة مبكرة من حياته على قراءة كتب التراث الروائي العربي، وتفصيلها بدقة شديدة، وعلى رأسها: ألف ليلة وليلة، وسير: حمزة البهلوان والملك الظاهر، سيرة الملك سيف بن ذي يزن والأميرة ذات الهمة، وكتاب الأغاني ومقامات الهمذاني.. محاولاً إيجاد شكل خاص للكتابة الروائية العربية تميزها بعيداً عن الرواية الأوروبية التي اكتسحت العالم.. وكان السؤال: ما الذي يصنع هوية خاصة للكتابة العربية.. حتى وصل إلى قناعته ومذهبه الخاص.
فالرواية الغربية، والفن الغربي بشكل عام، تخضع بشكل مباشر إلى المنطق الأرسطي، وهو قائم على أقانيم ثلاثة: مقدمة صغرى، فمقدمة كبرى، فنتيجة.. وهذا يمكن سحبه على أساليب السرد النثري، والموسيقى والرسم وحتى العمارة..
فما الذي يميز الثقافة العربية، البعيدة عن المنطق الأرسطي.. فانطلق من دراسة الفن التشكيلي العربي – المشرقي – الاسلامي – المسيحي.. وما هو الشكل الذي يميزنا.. فالفنان التشكيلي العربي، يبدأ بتشكيل وحدة زخرفية، ويحسنها ويبدع في تفاصيلها، ويكون السؤال، ماهي الخطوة التالية: ليكون الجواب: هو إعادة إنتاج هذه الوحدة الزخرفية.. بعد أن ترك الأولى، لتستمر إعادة إنتاج هذه الوحدات الزخرفية إلى ما لا نهاية، بعيداً عن منطق المقدمة الصغرى فالكبرى والنتيجة، ليكون هذا الإنتاج التشكيلي، هو إنتاج مقدمة صغرى، فمقدمة صغرى، فمقدمة صغرى…دون نتيجة، فما الذي أراده هذا الفنان المشرقي، العربي.. ليكتشف أن هذا الفنان لم يرد أن يوصل المتلقي إلى نتيجة، بل أراد أن يوصلك إلى حالة، حالة فنية، أو حالة جمالية، أو حالة تعبيرية، صوفية تأملية غير إشكالية. أراد أن يشاركك فيها. لينتقل في تشريحه للزمن الفني التراثي العربي، إلى الموسيقى العربية، فالمغني حينما يريد أن يغني يبدأ بقول: يا ليل، يا عين، أمان أمان.. فهو لا يريد أن ينقل إليك قصة حزنه أو فرحه، بل يريد أن ينقل إليك حالة فنية أو تأملية تعبيرية.. إنه يريد أن ينقل إليك اللازمة نفسها حتى ينقلك إلى حالة من الطرب والنشوة التي تشبه حالة الدوخة من الدوران..
ليتبع أمثلته بالشعر العربي، دون أن يشير إلى تعميم أو شمولية في الرأي حيث لكل حالة استثناء، وربما استثناءات، فتجد أن الشاعر يضع البيت الشعري الأول، وينمقه ويحسنه حتى يصل به إلى ذروة جماله، ثم لا يبني عليه بيتاً آخر، ليصل إلى ذروة أرسطية، بل يتركه، ويضع إلى جانبه بيتاً آخر.. يماثله جمالاً، ثم يبني بيتاً آخر وهكذا.. لتسأل ذات السؤال، ما الذي يريد أن يقوله الشاعر، لنكتشف أنه يريد أن ينقلنا إلى حالة من الطرب والجمال والنشوة تماثل ما فعله الرسام الزخرفي أو المغني الطربي.. ليملأ نصه بالبديع والسجع والمحسنات من الجناس والطباق..
يريد أن ينقلك إليه، دون رغبة منه في أن ينقل إليك أي شيء سوى الحالة الجمالية..
وقد غدوتُ إلى الحانوت يتبعني
شاو مشل شلول شلشل شول
ليصل في تشبيهه إلى المدرسة النثرية التراثية، فيحدث عن كتاب العرب الأهم “ألف ليلة وليلة” لنجد أن كل هذا السرد النثري، ما هو إلا حالات وقصص مفعمة بالجمال، وضعت إلى جانب بعضها البعض، في تراص كامل، مشابه للزخرف التشكيلي، قصة إلى جوار قصة، وسرد يستولد سرداً، إلى ما لا نهاية.. ليأتي السؤال مجدداً، ما الذي يريده هؤلاء الكتاب سوى أنهم أرادوا خلق حالة، وليس النتيجة.. وكذلك كتب الأغاني والإمتاع والمؤانسة والمقامات..
فإن كان الشكل الأرسطي البياني هو الشكل الهرمي، المثلث، (مقدمة صغرى، فكبرى، فنتيجة) فما هو الشكل البياني الشرقي للفن، إنه وحسب خيري بك كما كان يناديه جيرانه، أو أبوفارس كما كان هو نفسه يحب أن يسميه الجميع، الشكل البياني للفن الشرقي، هو شكل الدائرة الحلزونية، إنه عالم يدور ويدور بلا بداية ولا نهاية.. عالم من الجمال متناهي الزمن.. يمتد عابراً البعدين (الطول والعرض) ليخلق بعداً جديداً عامودياً، يلتف حول نفسه دائماً.. من هذه المقدمة النظرية الأدبية التي تفكّر بها، أنشأ الذهبي زمنه الفني الذي اعتمده في أعماله الروائية، مصالحاً التراث العربي هائل الجمال، مع منطق النتيجة السببية، ليخلق زمناً روائياً خاصاً به، هائل الجمال ومحملاً بالرموز السببية المنطقية التي ستفضي في عقل القارئ إلى نتائج حتمية يتركها للقارئ بحرية الطائر الصغير الذي يتقافز فوق المجلدات التراثية الضخمة في مكتبته..
وهو ما اعتمده بشكل أساسي في رائعته “التحولات” ويقصد بها في أحاديث جانبية صرح بها للصحافة كثيراً، بأنه كان يقصد “التناسخات” أو “الميتامورفوزس” التي تطرأ على الشخصية المحلية إن خضعت للزمن البشري الممتد.. فعبر ثلاثة أجيال، تناسخت الشخصية المحلية من حسيبة، إلى فياض إلى هشام.. في تلاعب مطلق بالزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين ثلاثة أجيال، تحتل فضاء معقداً ومتشابكاً، مثل البيت الدمشقي، الذي مارس عليه الذهبي تحليلاً فرويدياً كثيفاً، مرر عبره، كما يمرر العالم الكيميائي المواد الكيميائية فوق بعضها، مرر عبره الشخصيات ليرصد تفاعلها عبر المكان الثابت الأساسي، وعبر الزمان الحلزوني المتراص جمالياً، إلى مالا نهاية..
حينما قسم البيت الدمشقي في مستوياته المعمارية الجمالية إلى ثلاثة أقسام فرويدية، تتماثل مع نظرية سيجموند فرويد في التحليل النفسي، فإن كانت الفرنكة هي الأنا الأعلى، فستكون أرض الديار هي الأنا، وتلقائياً سيكون القبو هو الـهو..ولكل مستوى معماري في الثلاثية شخصية ستعبّر عن هذا التقسيم الفرويدي، بعد أن يمر في الزمن الحلزوني الذهبي.. لنحصل في النهاية على ساغا عائلية مدهشة.
بنية روائية معقدة وفلسفية عميقة سكبها خيري الذهبي في أعماله الروائية، أخذت منه سنوات كثيرة من التأمل والبحث، محاولاً إعادة إنتاج السرد العربي الجديد، مهجناً مع الفنون والفلسفة الجديدة، فالزمن الفني العربي حسب خيري الذهبي، هو زمن مرصود ومقدر فكرياً علينا، لا يمكن الفكاك منه مطلقاً، فكل شيء في الزمن العربي المتشابك مع الزمن الديني والزمن السلطوي، هو محتوم، فالإنسان يولد بقدر محتوم مسبقاً، فكل شيء مقدر ومكتوب، فهو سيولد ويكبر ويتزوج ويعمل وينتج ويموت كما قُدر له، دون أيّ قدرة له في الاختيار، فالرجل رجل، والمرأة امرأة، والطفل كذلك، ولكل أجل كتاب، ولكل مرء نصيبه المكتوب له.. وهذا نُقل بشكل دقيق إلى النثر العربي، فالإنسان الذي يكسر زجاجاً في بيته، انتقل من حالة الجلوس في النقطة (1) إلى حالة النهوض في النقطة (2) إلى حالة كسر الزجاج في النقطة (3)..وهو حينما يكسر الزجاج لم يقم بفعل اختياري، بل بفعل مقدر له، انطلق من النقطة (1)..وبذلك هو يعود من النقطة (3) إلى النقطة (1) بشكل حلزوني دائري لا متناه، ليبني عليه أفعالا حلزونية مقدرة له إلى ما لا نهاية. فكل ما يقوم به الإنسان العربي – المشرقي هو مقدّر ومكتوب علينا منذ فجر الخلق في كتاب مسطور أو في قرار شبه إلهي من السلطة.. وهو هنا يناقش فلسفات الفرق العربية في العصور العباسية. هذا هو باختصار الزمن الفني العربي، الشرقي المغلق الحلزوني…
في أول احتكاك بين الشرق والغرب، أثناء الحملة الفرنسية، حينما قام نابليون بغزو مصر، مرفقاً حملته بمئات العلماء والكتاب والبحاثة، رصد الجبرتي تلك الحادثة بدهشة شديدة، فكل أولئك الذين كان الشرق ينظر إليهم كمهزومين دائماً وتابعين ثقافياً، فإذا بهم يحملون إلينا علوماً وفنوناً متطورة، كان الشرق في غفلة عنها مشغولاً بالصراع على السلطة.. حيث تعرف الشرق على المطبعة والمسرح والأدب النثري الحديث.. فكانت أول محاولة لرفاعة رافع الطهطاوي، في نقل السرد الغربي، في ترجمة رواية “مغامرات تيليماك” لفينيلون.. في رغبة منه أي من رفاعة الطهطاوي، في إرسال رسالة إلى الحاكم (الخديوي) في أنه ظالم، وأن الزمن مهما طال فهو سيطالك.. وهكذا بدأ احتكاك العرب مع النثر الغربي، متنقلاً بين عدة مراحل، من الرومانسية إلى الواقعية، فالواقعية الاشتراكية، وصولاً إلى اكتشاف المشرق للواقعية السحرية التي ظننا أنها وليدة تجربة أميركا اللاتينية وكتابها العمالقة المعادين للدكتاتورية.. ولكننا نسينا حسب الذهبي الكبير، أن الواقعية السحرية مستمرة في الأدب الغربي منذ عقود طويلة، مع إدغار ألان بو وكتابه الشهير “الأعراف” باسمه العربي.
وقبله بورخيس وأستورياس، الذين قرأوا الأدب العربي بتأن كبير ودراسة حصيفة، ليعود الزمن إلينا مجدداً، حلزويناً ساخراً، إلى النثر العربي الفانتازي، المرتد من ألف ليلة وليلة، وقبله لوقيانوس السميساطي، الأب الشرعي، للكوميديا الإلهية و”رحلات غليفر”، و”غارغانتوا ورابليه”.. والتي تشكل عيون الأدب الغربي في القرون الأخيرة.. فالتجربة الأدبية السردية انطلقت من الشرق وعادت إليه..
فأغلب الشخصيات الأدبية الخالدة في النثر الغربي، من هاملت إلى الأب غوريو، وحتى راسكولنيكوف، لم تصل إلى ما وصلت إليه دون البناء الهائل لشخصيات أدبية عظيمة مثل السندباد وعلي بابا وعلاء الدين.. بكل تفاصيلها، يعلق الذهبي وهو يشير إلى طائر صغير محلق فوق شجرة صفصاف.. يتأملها وأنا شارد في دوامات الأدب التي ألقاني فيها.. ليعطف على إشارته فيقول إن الشكل الأدبي العربي يعود إلينا، من جديد محسناً ومضافاً إليه، فلم لا نلتقطه من جديد، ونبني معه، عمارات أدبية روائية..
فهذه المكتبة الهائلة من كتب التراث، لا تحتاج إلا لأن نفتح باب الأقفاص، كي يطير إليها المئات من عصافير كتابنا المحجوزة في أقفاص الخوف، والتشوه الأدبي والنثري.