على نخبك يا رفيق!

الخميس 2022/12/01
لوحة: نصر ورور

كلّما شارف الأسبوع على نهايته، ترك نادر حكيم السّكّاج المدينة العصريّة خلفه، وجاء ينشد الرّاحة في وكره الدّفيء. هو يحبّ الاعتكاف رفقة بعض الرّفاق الأوفياء في هذا البيت العربي بالمدينة العتيقة. بيت ورثه عن أبيه، أحد الوجوه المعروفة في سوق السّكّاجين، فواصل الإقامة فيه مع والدته طيلة مراهقته، ثمّ وحده في شبابه، فلمّا توظّف وتزوّج هجره إلى حيّ النّصر، لأنّ العودة إليه لم تعد مأمونة إذا تناكرت الوجوه واستوطنت أشباحُ اللّيل مداخلَه الضّيّقة، الخالي أغلبُها من الأضواء. لم يكن يريد لأبنائه أن ينشؤوا في بيت ترين على غرفه الرّطوبة، ويفتح صحنه على السّماء، ممّا يجعل الوصول إلى بيت الرّاحة في فصل الشّتاء، حين يشتدّ البرد وينهمر المطر مدرارًا، أشبه برحلة شاقّة، خاصّة إذا أراد أحدهم أن يفكّ حصره في جوف اللّيل. هو لا يذكر هذه التّفاصيل أمام رفاق يتألّمون مثله لأوضاع الشّعب البائسة، وهو يعرف أنّهم يقيمون مثله في الشّقق الفاخرة، ويأنفون مثله من ارتياد بارات الفنادق، تلك التي تمثّل في نظرهم جميعًا صورة عن انحراف النّظام منذ الاستقلال، حين رفع شعار “السّياحة تغنينا عن الفلاحة.”

كان يجالسهم كي يستمعوا له أكثر ممّا يسمع منهم، ويرفض أن ينادى بلقبه، مذ عيّره به أحد السّجّانين، فصاروا لا ينادونه إلا بنادر الحكيم. وفي كلّ مرّة يكون قد أعدّ لهم سُفرة بها ما لا يلذّ الشّرابُ والنّقاشُ من دونه: بيض مسلوق وأجبان ومقشّرات شتّى وعلب بيرّة، وعلبة سيجار كوبيّ فاخر لكلّ راغب، يقدّمها لهم وهو يقول بتفكّه: “الله يرحم والديها، المَدام!” لأنّ كلّ ما في جيبه وما يستر جسده الطّويل النّاحل من خير زوجته، منذ أن فُصل من التّدريس لانخراطه في العمل السّياسيّ.

حين يَقدم الرّفاق، يكون السّكّاج قد هيّأ نفسه بوصفه متحدّث الجماعة، لا رأي إلا ما يرى، ولا قول يعلو على قوله، وهم يمتثلون له امتثال الضّيف لربّ البيت، ومُوقِد نار القِرى. يجرع قليلا من زجاجة “بيكس” التي يخيّرها على “سلتيا”، برغم دعواته المتكرّرة في اجتماعاته بالأنصار إلى ضرورة تشجيع الإنتاج المحلّيّ، لِما نما إلى علمه من ظروف تصنيع البيرّة الوطنيّة، حيث الإهمال والقذارة وكثرة الفئران العائثة في مستحضرات المشروب، فضلا عن طرق خلطه وتخزينه. “تيبورغ” كانت شرابه المفضّل، تذكّره بزعماء المنطقة الأسكندنافيّة، الذين دافعوا مثله عن حقوق الشّعوب المغلوبة على أمرها، وناضلوا لإعلاء قيم الحقّ والعدل، داغ هامرشولد، أولوف بالمه، وخاصّة هانز بليكس الذي فضح كذب الأميركان في حربهم على العراق. ولكنّ تلك البيرّة السّويديّة انقطعت الآن، ولم يبق غير البيرّة الهولنديّة، هاينكن، وهذه البيرّة الألمانيّة التي كلّف من يأتيه منها بصناديق معلومة كلّ أسبوع، احتفاء بلقاءاته “السّياسيّة” مع الرّفاق للنّظر في مستقبل البلاد.

لوحة: نصر ورور
لوحة: نصر ورور

في المربوعة، غرفة مربّعة مقشّرة الحيطان، على يسار البهو الضّيق المسقوف، جُعلت للاستقبال، بها كنبة قديمة من الخشب المنقوش، وأربعة كراسّيّ من الخشب نفسه، وفي وسطها مائدة مستطيلة واطئة مغطّاة بسماط حال لونه البنّيّ، يجلس في الصّدارة، كزعيم يشرف من علِ على من هم دونه رتبة، يشعل سيجاره الهافاني، ذاك الذي كان يدخّنه الرّفيقان تشي غيفارا وفيدل كاسترو، برّد الله ثراهما، يسحب نفسًا طويلا يغور لضغطه فكّاه فيبدو عليهما تجويفان داكنان، يكوّر شفتيه فإذا فمه، والسّيجار الغليظ مرشوق بينهما، مثل أست دجاجة تبيض، ينفث بعدها سحائب لا يحتملها حتى المدمنون على التّدخين، ويظلّ يمسك به بين إصبعين معروقتين، قبل أن يضعه على المنفضة ليزيل نظّارته عن عينيه ويمسحها بمنديل أبيض، حتّى وإن كانت العدستان نظيفتين، خاليتين من غبار أو بصمة. وتلك عادة مستحكمة لم يستطع منها فكاكًا منذ دفعه أحد السّجّانين مرّة دفعة أوقعت نظّارته. غامت الأشياء أمامه لحظتها، وداس عليها دون أن يشعر، فإذا زجاجها مشروخ قليلا، وإذا هو يمسحه بين الحين والحين لعلّ الرّؤية تتّضح، حتّى صارت لديه عادة لا ينفكّ عنها إن بليل أو نهار، وحيدًا أو برفقة جمع من الرّفاق.

عندما يتحدّث إليهم، يشفع حديثه بمقولات لماركس ولينين وروزا لوكسمبورغ وأندراي جدانوف منظّر الواقعيّة الاشتراكيّة، وإذا ورد على لسانه اسم مثقّف ممّن نهجوا نهجه، أضاف إليه بصفة آليّة “عضويّ على المنوال الغرامشي”، تلك العبارة التي تكاد تكون على لسانه أشبه بعبارة “رضي الله عنه” في أفواه خصومه من الإخوان، ولم يكن قد قرأ عن أولئك المفكّرين سوى شذرات متفرّقة أيّام الجامعة، ولكن كان له من قوّة الذّاكرة ما يجعله يلتقط ما يلهج به رفاقه القدامى، الذين قضى أغلبهم نحبه في زنزانات الصّمت.

في اللّقاءات الماضية، كان الحديث يدور حول الصّراع المحتدم بين معسكرين، معسكر الأزلام، ومعسكر الإخوان، وكان السّكّاج لا يني يذكّر الرّفاق بأن الحياد هو المسلك القويم. “دعوهم يأكل بعضهم بعضًا، كان يقول، ففي نزاعهم حتّى الموت فرصة كي ننهض على أجداثهم.” وحين يبدر من أحدهم اعتراض: “ولكن ما العمل إذا خرج أحدهما من المعركة ظافرًا؟” يرشف السّكّاج جرعة من شرابه تتقبّض لها عضلات فكيّه، يمرّ بكفّه على شنبه يمسح بلله، يتمطّق بصوت مسموع، ثمّ يهزّ رأسه بالنّفي ليؤكّد بأنّ مآلهما معًا هزيمة نكراء، قاتلة، لن ينهضا من بعدها أبدا. ويضيف: “وبزوالهما، سوف يخلو لنا الجوّ ونقدّم للجماهير الشّعبيّة ما تتوق إليه… سوف نكون لها النّصير الذي يلبّي مطامحها”. وحين يلاحظ ثانٍ: “كيف ذلك وخطابنا لم يعد مسموعًا؟ لا بدّ من مراجعة جذرية لفلسفتنا السّياسيّة، ومن تغيير حقيقيّ”، يقطّب السّكّاج جبينه ويعبس عبسة يلتقي فيها حاجباه، يزحف على مخاطبه بنظرة ثقيلة متجهّمة، ويذكّره بالثّوابت التي لا محيد عنها مهما كان الثّمن، فـ”في التنكّر لها خيانة للمبادئ، وللمناضلين الذين ضحّوا بأرواحهم من أجلها”، قال وهو يسند ظهره إلى مقعده كمن نطق بالحكمة واستراح.

ولكنّ كلي المتصارعين أصيب في مقتل هذه المرّة، بعد القرارات التي عطّلت الحكومة والبرلمان ونوّابه؛ فما العمل، وقد بات الحكم بيد خصيم مبين؟

“هذا انقلاب، قال السّكّاج، نعم، انقلاب، ولا يمكن إلا أن نعترض عليه بشدّة، بقوّة القانون.”

– ألا نخدم بذلك المعسكرين المتنازعين؟ سأل أحدهم.

– ألا نخشى أن يحشرنا قائد الانقلاب في زاوية خصومه؟ أردف ثانٍ.

– تعرفون أنّنا قاومنا أشرس منه، قال السّكّاج وهو يكوّر قبضته في تحدّ، ونالنا منه ما خَبِرتم، ولم نركع. لقد خُلقنا لمعارضة كلّ نظام قائم. ذلك قدرنا.

علّق الأوّل: “والنتيجة؟”

– النّتيجة! تسألني عن النّتيجة! أنسيت أنّنا باقون على العهد من أيّام الجامعة؟ لم تَثننا الرّياح العواتي، أبدًا، ولم نقايض مواقفنا بالعطايا والمناصب، ولم نبع ذمّتنا لأيّ حاكم، وفي ذلك شرف لنا، لو تدري، عظيم.

وكأنّه لمس في وجه مخاطبه عدم اقتناع، أضاف:

“حسبُنا فخرًا أنّ التّاريخ سيذكر أنّنا تمسّكنا بالمعارضة، معارضة الحاكم، أيّ حاكم، مدى الحياة.”

ورفع قارورته باعتدادِ مَن أفحم سامعيه:

“على نخبكم أيّها الرّفاق الأصلاء!”

فجارُوه في حركته، وردّدوا بصوت واحد وهم يرفعون قوارير البيكس:

“على نخبك يا رفيق!”

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.