عن الشعر والسفر والذاكرة والنسيان

كما في الأرض كذلك في الكلمات
الخميس 2021/04/01
لوحة: حسين جمعان

I  

فكرة الحركة

التذكر والنسيان كلمتان تبدوان مستهلكتين إلى أبعد حد، لكنهما مفردتان في ثنائية  أول ما توحي به تلك الألفة المخادعة. فهذه ثنائية خلاقة في ترابطها السببي، إنها فكرة يمكن تقليبها على أوجه كثيرة، وكل وجوهها مثيرة للخيال، إنها المعبر والدليل معا على قوة ما نريده من ذكريات الذاكرة، وقوة ما يعوزنا من حاجة النسيان. والأمر بالنسبة إلى هذه الثنائية الخارقة ليس محصوراً بطرفيها، التذكر والنسيان. فهناك الحركة، كل حركة إنما تصدر عن فاعلية الترك وضباب النسيان، فأنت تغادر منطقة، أي تنسى منطقة لتبلغ أخرى أي لتتذكر أخرى.

***

الحركة هي هذا الشيء الثالث هي الطاقة المشعة، الطاقة المتجلية في سفر الكائن، أعني مغامرته وراء الحرية، هي الحرية وهي اليتم، علامة الاقتلاع، أن لا نعود في مكان نهائي.. ثم هي الغياب من حيث هو حضور في مكان آخر.

وبعيداً عن حقيقة أن السفر غياب في مكان وحضور في مكان، المسألة كما تبدو لي الآن، نسبية. وبالتالي لا تحتمل فكرة الثنائيات، لأن الثنائيات إطلاقيات بينما السفر حدث نسبي في واقع نسبي له أفق نرغب أن يغامر الكائن معه جهة المطلق. لذلك يصبح شعرياً.

لا أريد أن أمضي إلى ما لا نهاية في هذا الأمر.

لكنني، من ناحية أخرى، وبطريقة ما أظن أن السفر في جانب منه عمل من أعمال القسوة، لأنه يقوم على المفارقة، الترك، الهجر، توديع مقيمين لم يملكوا فرصة السفر، ولا سبب الحركة.

***

لا أتخيل الشعر بعيداً عن محرّك خفي في مكان ما سري منه أسميه الفكر. بل إن القصيدة التي تخلو من الفكر هي في نظري قصيدة قاصر.

هل إن الكائن في ماء كيانه إلا الفكر بعد الحس؟

***

من الأسئلة ما يجعلني أشعر بأن  الجسد هو في كل مرة، أعني في كل تجلّ له ميل من ميول التعبير العميق عن الروح، عن النفس وأشواقها، وعن كائنات تتعدد في الطرائق وتسكن غموضَ الأهواء.

***

ليس ثمة شيء في العالم يجدر بنا أن ننظر إليه بعيداً عن فكرة الموت، وهو أفق من آفاق الحركة وفاصلة بين الحركة والسكون. لأنه ليس ثمة ما يمكن أن نحياه يومياً بلا موت. ليست لديّ مشكلة صغيرة مع هذا الكائن الذي نسميه الموت، بل شأن كبير، ولطالما كان التفكير فيه باعثاً على طاقة شعورية وفكرية من نوع استثنائي.

***

كل إضافة معرفية هي ربح كبير يشبه خسارة كبيرة. فنحن ليس لدينا في العالم إلا ما نخسره، كلما عرفنا جديداً اكتشفنا فداحة جهلنا بالوجود، وكلما امتلكنا شيئاً شعرنا بعده بفقرنا وفراغنا، هذه هي الحقيقة الأخيرة لنا كبشر، وما دمنا على وعد مع الفناء، فإن كل يوم يضاف إلى أعمارنا ويبدو ربحاً هو يوم ناقص من أعمارنا، نحن على موعد مع الموت، وحركة الزمن فيصل في هذا الأمر.

***

الشعر حركة مستمرة ضد جمود العالم، ضد الثبات بصفته طغياناً مخيفاً، ضد كل سلطة آسرة ومربكة لطلاقة الروح كذلك هو السفر، إنه الشعر.

الشاعر هو ذلك المسافر مجاني السفر، المسافر الذي لا يريد مكافأة عن رحلته لأن مكافأته هي قصيدته التي رجع بها من سفر في المجهول، مجهول العالم ومجهول الكلمات.

بهذا المعنى فإن السفر لا يكون ذا قيمة ما لم يكن شعرياً في أفقه. بعض المسافرين لم يكونوا مجرد سياح وإنما كانوا جماليين كباراً، دوّنوا يوميات مذهلة في جمالها، هم لم يفعلوا هذا، أعني لم يمكنهم أن يكتبوا بهذا الإغواء لنا إلا لأنهم كانوا شعراء.

***

الصلة بين الشعر السفر متعددة الزوايا والأبعاد، ويصعب حصر كل ما يخطر في البال عن تلك الخيوط المتشعبة التي تصل بين هذين الأفقين: الشعر والسفر. المسألة في جوانب منها تتصل بالشعور الفادح باليتم، وبالرغبة في الحرية.. الشاعر مسافر يتيم في العالم، باحث عن الحرية، ناشد جمال، جوّاب آفاق لم تطرق، كما في الكلمات كذلك على الأرض، وكما على الأرض كذلك في الكلمات.

II

الشعر وأدب السفر

وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقُ

لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

سؤال السفر في الأرض سؤال شعري، لعل كل كتابة مرتبطة بعمل المخيلة إنما هي على صلة مذهلة بفكرة السفر، السفر في المكان والسفر عبر المخيلة. ما من قصيدة كتبها شاعر إلا وكانت ثمرة مغامرة عبر سفر من نوع ما.

هل أحتاج للاستدلال على ترابط الفعلين ترابطاً عضوياً إلى استدعاء مفردة “سِفر” المشتقة من “سَفر”؟

إنها معادلة تحملني على الاعتقاد بأن الأشياء في العالم مترابطة بطريقة رائعة مرات، ومؤلمة مرات أخرى. كل سطر في كتابات الرحالة – عرباً وغيرهم – يجعلني أقرب من الأرض أمكنةً ومسافاتٍ، بعيداً عن تجريد الأفكار والصور الذهنية التي تغمر الكتابة العربية وعوالمها، لاسيما الفلسفة، وكذلك التاريخ، كما وصلنا في كتب الدرس الأكاديمي على الأقل.

تبدو لي يوميات الرحالة، رغم ثرثرتهم في أغلب الأحوال وتشعب موضوعاتهم واستطراداتهم التي لا طائل من ورائها أحياناً، أقرب إلى الخصوصي، إلى الشخصي، إلى اليومي، إلى ما هو غير رسمي باستمرار، وأحيانا مع بعض الرحالة، إلى الشعري بامتياز. أستعيد هنا ابن فضلان من القرن العاشر الميلادي في سفارته من بغداد عاصمة الخليفة المقتدر إلى بلاد الصقالبة (روسيا اليوم). هناك صور مروّعة في واقعيتها وسحريتها معاً، وشعريتها بالتالي. كذلك الحال بالنسبة إلى أبي دلف المسعري الذي عبر جغرافية آسيا الوسطى عبر إيران قادماً من جزيرة العرب، وتحديداً من البحر الأحمر. كم من الشذرات الأسطورية في ما نقله هذان الرحالتان إلى سطورهما العربية، أضف إليهما أبا حامد الغرناطي، وما صوره من عجائب. ولو فتحنا هذا الباب (العجائب)، فلن يمكنني أن أتم هذه الكلمة. حيث القزويني و(عجائب المخلوقات) وما في عمل المخيلة من شطط غرائبي هو خلق جمالي خالص.

ولو فارقنا القرن العاشر الميلادي وجئنا إلى القرن الرابع عشر، فنحن مع ابن بطوطة، على رغم تدخل ابن جزي المأمور بكتابة رحلة شمس الدين الطنجي من قبل سيده السلطان أبي عنان، بإزاء النَفَسَ الشخصي، والتجارب الشخصية، وروح المغامرة الفردية وقد ظلت مهيمنة على نص ابن جزي المسمّى رحلة ابن بطوطة أو “تحفة النظار”. وكم من الخيالات الغريبة وكم من المدهش والعجيب الذي لا يدانيه إلا فضاء الشعر في رحلة ابن بطوطة.

أليس في وسعنا أن نقرأ نص شهرزاد في ألف ليلة وليلة بصفته جامع رحلات الواحدة منها تستولد الأخرى كما الحكايات؟ كم من الشعري في ألف ليلة وليلة، وليس أيّ شعري وإنما الخاص بتجارب المهمشين، برفات أرواحهم وأمنياتهم الشاطحة شطحاً في أرض العجائب، في عالم حلمي.

من جهة أخرى، فإنني أنظر إلى نص الرحلة المكتوب بفعل الأسفار بصفته طفولة الرواية، وأرض الوقائع المختلفة لرحلة الإنسان في أرض الآخر. إن شعريتها تطلع من ذلك السفر بحثاً عن الذات على تخوم الآخر. هي اعتراف بالنقصان ونشدان للامتلاء في أمكنة مجهولة، وبالتالي إقرار بجمال المجهول وامتداح له، وفي هذا إغراء كبير لقارئ مغامر مثلي ليس لديه ما ينتمي إليه أكثر من انتمائه إلى الشعر بوصفه الدنيا. أو ليست الرحلة مقلوب هذه القاعدة كما يريد رحالة العصر الحديث أن يقولوا أو يعبِّروا. الرحالة الحديث هو الشاعر. ومادام العالم قد اكتُشِفَ منذ زمن بعيد، ولم يعد ثمة ما يكتشف فيه، فإن رحالة العصر هم الشعراء، وهذا لعمري يعيد الاشياء إلى سيرتها الأولى:

 

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه    

وأيقن أنا لاحقان بقيصر

 

III

لمن يكتب الشعراء

في مجتمع الكتابة العربية، لطالما كان إكليل المجد  لرأس الشاعر، وعلى الرغم من كل ما يشاع عن تراجع الشعر وتقهقر الشعراء، فإن الأرواح الشابة في طول الجغرافيا الناطقة بالعربية وعرضها ظلت تحتفظ للشاعر بالصورة الخالدة، الصورة التي لا تفنى، فهو المغامر المعبّر عن الروح القصوى.

ولكن لمن يكتب الشعراء؟ لطالما كان جواب الشاعر: أكتب لنفسي. الطريف أن هذا السؤال الموجه إلى الشعراء لطالما تردد حوابه على مسامع القراء، وكأنهم بلا وجود ولا قيمة ولا حيثية! هذه معضلة. لا بد أن القراء تساءلوا في مرات: ما إذا كان الشعراء حقاً يكتبون لأنفسهم؟ لماذا إذن ينشرون ما يكتبون على الملأ ويدفعون بدواوينهم إلى مكتبات لتعرضها بدورها على القراء؟

لعل قضية كهذه تقتضي إشراك القارئ بها، كطرف يتعدى كونه شاهداً، ليكون طرفا وشريكا فاعلا في الملاحظة والحوار. حقاً،  لمَ لا يكون في وسع القراء، ممن لم يحترفوا الكتابة، المشاركة في إبداء انطباعاتهم النقدية حول الشعر وقضاياه، وذلك من مواقعهم كقراء ومحبي شعر، من دون أن يفكروا في أن يفارقوا هذه المواقع ليصيروا كتابا، ونخسرهم في النهاية قراء يحرسون بوجودهم فكرة الجدوى من فكرة الكتابة!

في هذا العدد من “الجديد” ملف يستمزج آراء الشعراء في الشعر. استطلاع قصد أن يحرّض الشعراء على قول كلام في الشعر. "الجديد" وضعت إجابات الشعراء في عهدة النقاد يقرأون كلام الشعراء في قراءة على قراءة وكلام على كلام.

لندن – نيسان/أبريل 2021

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.