غابةٌ ومدينة وكابوسٌ روائي
يمكن أن نقف في العشرات من الروايات على الجوهر الشخصي، ممتدا في نسوغ الضمائر، والحوارات، والمواقف والتأملات؛ حيث تشتغل الرواية بوصفها مَصْهَرًا لشظايا منسيةٍ أو مهملة، وتحتاج الذاكرة للتطهر من ثقلها. لهذا ليست حالة عادية تلك التي تنتاب الروائيين بعد إتمام بعض أعمالهم، عندما يحس عدد كبير منهم أنهم بصدد الانتهاء تماما من الكتابة. قد تكون الرواية منذورة لصياغة حكمة عن مكابدة العيش، بما أنها تتعلق بأقدار البدايات والمصائر، رؤىً لا تتأتى في اليَفَاعَةِ ظاهريا، إذ تكتب الرواية برغبة لاعجة لفهم ما مضى، وما تحصل في جراب العمر من خطوب وتحولات، فتتجلى بما هي تأملٌ في النوازع الإنسانية، ومساءلةٌ للمعتقدات والأفكار المتراسلة عبر التاريخ، عن الكون والطبيعة والجبلة البشرية.
عادة ما نعثر في الأعمال الروائية التي تُنعث بـ”الاختراقية” على مقومات تبديل القناعات، ذلك ما تسعى إلى إنفاذه الرواية الأخيرة لمحمد الأشعري “من خشب وطين” (منشورات المتوسط، ميلانو، 2021) التي كتبت بوصفها سيرة للخروج على المآلات المنتهية، المحكومة بالاختيار الفردي؛ سرديةٌ للتصاريف والأرض والسلطة والشجر والصمت. وتَغَوُّلِ المدينة، وعُتُوِّ التقنية، في مجابهة البدائية الساكنة في جوهر الفرد، رواية “الغابة” مجازا وحقيقة، وطبقات معنى.
وتنتسج تفاصيل هذه المحكية عبر خطين تخييلين لوقائع تبدو جزءا من الحاضر المستشري، في مغرب المدن العاتية، والأرياف البدائية، والغابات المنتهكة، والأساطير المؤبدة، وأحداث عجائبية تعيد تركيب الوقائع ذاتها بسنن مجازي، ناضح بالسخرية، وبعمق كابوسي يعيد الروائي فيه جدل هوامش المدن بالحركات الاحتجاجية والولع بالافتراضي وانتشار الأوبئة وتحولات السلوك السياسي والاجتماعي، بتآكل الغابات عبر عقود طويلة، ونزاعات القبائل والسلطة داخلها منذ القرن السابع عشر، بمآلات جيل عاش أحلام ما بعد الاستقلال، وتطلّعَ إلى التغيير وانتهى إلى الخروج من الحصيلة بحلول فردية، تراهن على مزيج من رعوية ونزعة صوفية مستحدثة. وبعد هذا وذاك يعيد الروائي تطريز ملامح مختلفة لـ”الاختفاء” الحسي والرمزي، الاختفاء المركب، ذي الجوهر الدرامي، الأثير لدى جيل السبعينات والثمانينات من الروائيين المغاربة.
تحكي الرواية عبر فصولها الثلاثة، المعنونة تباعا بـ”خروج الدابة”، و”وَرِّنِي وحشك يا الغابة”، و”محنة الشجرة”، تحولات البطل “إبراهيم” الموظف البنكي المرموق، القاطن بحي الرياض بالعاصمة، ورفيقته “بريجيت” الطبيبة البيطرية من أصول فرنسية، الهارب من فسولة زمنه المرتّب، المستسلم لقوالب الأحلام المستنسخة، لطبقة تعيد إنتاج تفاصيل نهمها للرفاه، بانضباط وحَرْفية، إلى حياة فطرية تعيد تعلم أبجديات العيش والمكابدة والاستغناء، خارج العاصمة، بل خارج التمدن وتوابعه جملة؛ في الغابة المجاورة للرباط: “المعمورة”، حيث بنى كوخا من خشب وطين، وغرس أشجارا مثمرة، وتعهد خلايا نحل، وصادق الصمت ولحاء الفلين والدواب، قبل أن تقوده مجريات الأحداث المعاد تركيبها من خارج عزلته، عبر عين الرقيب، إلى اتهامه بالتمرد على ناموس السلطة، فيجد نفسه في أجواء كابوسية كأنها خارجة من نص لكافكا، معتقلا لأزيد من سنة، خاضعا لتحقيق طويل لا يخلو من منطق عبثي، عن معاشرته للقنافذ وعيشه في الغابة وحيدا دون سائر الناس.، وهل الثورة إلا خروج فردي واختيار للحل وصيغة العيش؟ كما تحكي الرواية مسار محيطه الشخصي، رفيقه في الغابة الشيخ عبدالله، الذاكرة المسترسلة من زمن تناحر قبائل زمور وبني أحسن على الغابة، وصديقه سليمان خريج السوربون وأستاذ الفلسفة بالجامعة، ومدون وقائع سيرة الخروج الى البدائية. لكن البطولة الرمزية أفردت للقنافذ والغابات بالمطلق، وأحيانا بالتعيين، إذ ثمة قنفذ رئيس هو “ينسي” وغابة مركزية هي “المعمورة”، التي تشتبك مع شخصيات واقعية وتخييلية وفضاءات ومواقف تاريخية، وتفاصيل سياسية وعقائدية، وكوابيس تسكن الداخل العميق للمغاربة.
رعوية مستحدثة بنفس ثوري
لم يكن خروج البطل إبراهيم من حي الرياض الراقي إلى الغابة مجرد سعي سردي إلى تشييد عوالم فنطازية مغرية، لتبجيل البدائية، لقد مثل في العمق رهانا على امتحان كنه القدرة على الاختيار، وتغيير المسار الفردي المستسلم إلى قدره المرسوم، بمفردة جامعة إحداث: “قطيعة”، مع “ما قبل”، وترك “الما بعد” يشق احتمالاته دون تخطيط، هو تشخيص روائي لجوهر الإرادة والقوة وتحمل الخروج، يتصادى مع ذاكرة الروايات الكبرى في تمثيل التوق إلى كسر الضرورة، من “توماس مان” إلى “كويتزي”، الذي يمنح الأسلوب نفسا ثوريا، يرتقي به إلى مقام النثر، جمل قصيرة، وشح في المجاز وبلاغة سرية تنسرب بين مفردات الوصف، ومضمر غارق في الاحتمالات المعنوية، قصاراها تبيين مأزق الوجود قيد المجتمع والمدينة والقيم والمواضعات المنتهية، وبدت الحصيلة أقرب ما تكون إلى رعوية مستحدثة، حيث الغابة تعيد تشييد قاعدة العيش؛ الصمت والمشي والوحدة والطين والماء والنحل والثمار البرية وعرق الجسد المستغني، والغوص في ملكوت الكائنات: “النحل” والأشجار” و”القنافذ”…، وتمثيلها بما هي أجساد وكتل شعورية، واستجلاء باطنها العاطفي، ومنحها كنها إنسانيا، يعري زيف التمدن ومخاتلته وعنفه المؤبد.
يمكن توصيف الفحوى النثري، في هذا السياق، بما هو تخييل لقيمة “الاستغناء”، إذ لا تستقيم حرية دون انعتاق من رغائب الجسد في الاستهلاك الزائد، لذا تبجل السردية سجايا رعوية أثيلة، ممتدة من “العمل في الأرض” إلى “الصمت” إلى “المشي”، ليس في مطلقها المحايد المفرغ من معنى، بل في اشتباكها مع ذاكرة مضغوطة بقيم الرفاه والكلام وتيسيرات التقنية، شيء شبيه بمسعى الفنانين التوحشيين لنسيان القواعد ومواضعات الفن الأوروبي، على نحو ما شخصته رواية ماريو بارغاس يوسا “الفردوس على الناصية الأخرى”، الرعوية هنا مدخل أسلوبي، وذريعة تخيلية، لتبيين مغزى “النَّفَس الثوري”.
يقول السارد على لسان إبراهيم في مقطع من الفصل الثالث من الرواية “لم تكن فكرة سيئة تلك التي خطرت لي وأنا أعود من البنك في أول المساء، منهكا، خاويا، فقلت لنفسي وأنا أدخل المرآب، ولماذا لا أترك كل شيء؟ فأجبت نفسي على الفور: سأترك كل شيء! قيل لي مرات كثيرة إنها لم تكن فكرة ناضجة. ولكنني على يقين بأنني لم أنضج في حياتي فكرة كما أنضجت فكرة هذه القطيعة (…) أليس لكل واحد من الخلق نصيبه من ثورة أو من أوهامها؟ (…) بربك، هل استطاعت الماركسية أو القومية أو حتى الظلامية الدينية أن تفعل شيئا بهذا الحسم الثوري؟ الثورة الوحيدة التي تستحق هذا الاسم هي التي يقوم بها فرد واحد ضد العالم أجمع!” (ص 219).
ولعل الاستغناء عن الناس واصطفاء سرب نحل لمبادلته أحاسيس الجدوى، يقع في صلب الحسم الثوري للبطل المنقاد ليس فقط إلى عشيرة مفارقة لمنطق الإمكان، وإنما لمصاحبة عوالمها، وما يتصل بها مع ذاكرات، تتغلغل في صميم سلوكه المفارق، والحاسم في الاستغناء عن جني ثمار نجاح ظاهر، شيء شبيه بسلوك النحل لحظة اغتصاب العسل منه، وتسليمه بقدَر الفَقْد، وتكرار البدء من جديد، في مسار تعمير الشهد، هكذا تتجلى الرعوية مرآة للقيمة الأصلية للأشياء، وبُعدها عن التعقيد، الذي تضفيه الحياة والكلام والناس على المشاعر والأحلام ومُواضعات العيش.
الكون الروائي ومجاز الغابة
وتدريجيا يتماهى الكون الروائي، بشخوصه، وفضاءاته، وشظايا أزمنته، المتقاطعة مع مجاز الغابة المسترسل، لتتحول مشاهد الفعل والحركة ومواقف التخاطب والاستحضار، ووقائع الامتداد الدرامي، إلى “نسيج غابوي” معقد، ومفعم بالرموز؛ كل المكونات التمثيلية داخله تستند إلى مرجعية الشجر والزمن الموحش والبدائية والمتاهة، من المفردات النثرية إلى الصور والمقاطع التأملية، وتأويلات التاريخ والسياسة والمحيط المجتمعي. فانطلاق البطل إلى مستقرّه البدائي يتوازى مع خروج كائن غابوي صغير إلى المدينة، قُنفُذٌ حمله البطل ذات يوم للعلاج من كسر في ساقه، قبل أن يسكن عالمه، وتشغله رغبته المناقضة في الاستقرار في العاصمة، التي قرر البطل هجرها. نقطة تمفصل تضع السرد أمام تقاطب نوازع متعارضة؛ حيوانٌ يهجرُ الغابة إلى المدينة مستقرا في أحد أكثر علامات الاستهلاك فيها رمزية، سوق تجاري كبير، حيث يعشش ويفرّخ سلالة لا تفتأ تتكاثر، في الآن ذاته الذي يحسم فيه إبراهيم أمر استقراره في الكوخ الطيني بين شجر الغابة. فتهرب روح المكان إلى مقابله المديني وتتسرب المدينة بتعقيدها إلى الغابة، حديث في السياسة والتاريخ وقصة حب، وانشغال بمصير الشجر والنحل، بينما تتوالد جحافل القنافذ في الهوامش، تتكاثر في الغابة المجازية التي باتتها المدينة المحاصرة ببراريك ودور صفيح… هي في النهاية جزء أصيل من ذلك العالم البارد والصقيل والطاحن للأجساد والمهج. ليس تبادل أدوار إذن ذلك الذي كان بين إبراهيم والقنفذ “ينسي”، بل تقليبا لزاوية الرؤية إلى حقيقة “المدينة/الغابة”، و”الغابة/المدينة”، لوعي الرزء والعطب والمفارقة الموجعة.
يقول السارد في مقطع من الفصل الأول “الغابة ليست فقط أشجارها التي تربِط الأرض بالسماء ولكن أيضاً أرواحها. كل تلك الحيوانات التي لا معنى للغابة بدونها، ولا معنى لها إلا في الغابة (…) لا معنى للقنفذ خارج الغابة إلا أن يتحول إلى كائن إلكتروني، نوعٍ من البوكيمون الشائك، (…)، هل تتصور غابة تصاب بالشكيزوفرينيا؟ الأشجار في واد والأرواح في واد آخر هذا رُبما مَا نشهد إرهاصاته الأولى، وإذا حصل فإن أحداً لن يعرف ماذا سيترتب عن ذلك، هل ستموت الغابة مثلاً، ونصبح شعوباً بدون أشجار، أم ستطور لحسابها الخاص أرواحاً جديدة، فتظهر أصناف وحشية مدهشة، أو تعود الوحوش المنقرضة، أو تتناسل وحوش ذكية مثل الهواتف النقالة …؟!” ( ص 59).
تؤكد المقاطع السردية والاسترسالات الوصفية في كل مرة أن العجائبية تنبع من صميم الحقيقة الصاعقة، والتي لا تكف عن وضعنا أمام احتمالات الخارق، فخروج الفطرية من مرجعها، الذي اتخذت له الرواية رمز الغابة، إلى نقيضها المديني، وهروب الوعي المديني إلى الرعوية، عبر تقاطع إبراهيم والقنفذ “ينسي” اللامحتمل، يُكثّف، في كون سردي محدود الوقائع، ما لا حد له من التقاطعات بين الهجرات والهجرات المضادة. هل هو بحث مرفهين عن سكينة الغابة؟ في مقابل سعي هامشيين جياع إلى تَسَقُّطِ فضلات المدن؟ تبادل مواقع بين سائحين وباحثين عن رزق؟ ثم ماذا أيضا؟ أهو تقليب بلورة المعنى في عالم كان في الأصل مجرد غابة قبل أن تتشعب دلالاتها مع انتهاكاتها ومسارات احتلالها واجتثاثها وإفراغها وتدجينها، ثم احتراقها؟ مثلما يحترق الكلام ويجثم الصمت النهائي “الذي تسعى الشفافية للإقامة فيه” (دافيد لوبروطون، الصمت لغة المعنى والوجود، ص 268).
في الأصل كانت الغابة، ومضت رحلة الانتماء في الرواية بين دخولها والخروج منها، ما بين القبائل وسلطة المخزن، ما بين أرواح ساكنتها الأصلية والوافدين اللائذين بمقاومتها وصبرها، قبل أن تصوغ صور احتراقها ملامح عالم يحثُّ الخطى إلى نهايته.
ففي مقطع من الفصل الثاني نقرأ ما يلي “هي النار إذا اشتعلت في الغابة.. وأيا كان الكائن، قنفذا أو إنساناً أو حية رقطاء، فإنه لن يتحمل أكثر من مرة واحدة هذه القيامة المروعة، وإذا نجا منها فإنه سيمتلئ برمادها، ليعيش بقية حياته مُظْلماً من الداخل..” (ص 81).
اختفاءات وكوابيس
لكن الكون الروائي يُطوّع الحرائق والصراعات الغابوية والصمت وسكينة الحل، بقدر ما يحول الخروج الرعوي الكبير إلى مجرد مرتكز في لعبة تخييل أشمل، عن جدلية الحجب والكشف، اختفاءات متتالية ممتدة من بداية الرواية إلى نهايتها؛ اختفاء البيت القديم، واختفاء المرتع الأول (دوار الضبابة)، واختفاء والدة سليمان وبروزها في هيئة امرأة تلاحقه، اختفاء القنفذ “ينسي” وظهوره الزئبقي، ثم الاختفاء الملغز لبريجيت، رفيقة البطل في تجربة الغابة، في ظروف ملتبسة، ثم الاختفاء الأخير للبطل في دهاليز المعتقل السري. اختفاءات تعيد تركيب الحكاية على مقام الحلم القاتم، كابوسٌ بالأحرى لا يمنح معناه بيسر، تتيه فيه التفاصيل داخل احتمالات مدوّخة، إلى أن تصل الرواية في فصلها الأخير إلى أشبه ما يكون بمتاهة، حين يتم التحقيق مع ابراهيم لتبرير خروجه المختل إلى الغابة، وبيان سبب اختفاء بريجيت؛ تتجلى المقاطع الأخيرة في الرواية أشبه ما تكون بمقاطع مسرحية عابثة، يتقاطب فيها خطاب الحلم مع منطق البداهة والمجتمع والسلطة والحياة السوية، وتُكشف فيها أوراق الهجاء الروائي عبر صيغ العجائبي، وفي النهاية لا يعود مُهمًّا أن نعرف مصير المختفين، بقدر ما يهم أن نكتشف مصير مختف واحد هو البطل نفسه، الذي رُهن إطلاق سراحه بعودته للحياة السوية، ليختار في لحظة الوداع الأخير لكوخه الغابوي أن يتحول إلى قنفذ ينضاف إلى جحافل القنافذ الشاردة والنافرة من المدينة والغازية لها، إنها بتعبير كبير المحققين “نهاية المتاهة بالنسبة إلينا وربما نهاية الكابوس بالنسبة إليك” (ص 226).
تركيب
قد يكون التقاطب لعبة سهلة في الرواية، هي قاعدة متاحة ويسيرة التحقيق، ما بين الشخصيات والفضاءات وسجلات الكلام، بيد أنها عسيرة في بناء عوالم صورية، هي الأساس في ضمان بلاغة نثرية للرواية. هل ترتقي الروايات اليوم إلى مقام النثر؟ صعب جدا الإقرار بذلك، وحين يكون لنص روائي ما نفس نثري، فلأنه تحقق خارج قواعد التخييل المأثورة، وبِرِهانٍ اختراقي داخل إمكانيات الأسلوب؛ ذلك ما تؤكده رواية “من خشب وطين” لمحمد الأشعري. ما بين مديح البدائية، وهجاء التمدن تتجلى بما هي رواية الرعوية المستحدثة والنفس الثوري وهجائية التمدن والتقنية. رواية الذكريات، وتفاصيل المدن القصية، من “تيفلت” إلى “أزرو” إلى “والماس” إلى “دوار الضبابة” إلى قبائل “زعير” و”زمّور” و”بني أحسن”… كتبت لتبجيل غابة وأسماء وإحساس أثيل بالخلاص من ضوضاء العالم، بنثرية ساخرة تعيد غسل الكلمات من درنها القديم، فتختصر ما يمكن تسميته بحكمة خريف العمر.