غبار الحرب
الأوتيل!
الأوتيل!
الكلمة الترياق. هبطت عَلَيّ كإلهام مِن غامض علم الله. كيف لم أتذكّر من قبل تلك الكلمة الجهنّمية، فأخفّف عن كاهلي كل القلق بخصوص سؤال الأين؟ ما الذي أنسانيها ودمشق من حولي كلّها أوتيلات وفنادق؟
أكان ذلك من هَول ما جرى معنا على الريق، يا فتاح يا عليم، عندما استفقنا على حقيقة أن علينا أن نهرب بسرعة البرق، وبما تيّسر من متاع:
– ما قلّ ودلّ.
وغدونا بين عشيةّ وضحاها كحشرة كافكا العملاقة التي صارها “غريغور سامسا” بطل رواية “الانمساخ”. ولكن، بدلاً من أن نجد أنفسنا مقلوبين على ظهورنا الصلبة، ركضت بنا أرجلنا الرخوة لننجو بأرواحنا؟
أهو العَودُ الأبدي، الذي تحدّث عنه نيتشه، وأن الوالد عاد على هيئة الابن الذي هو أنا، وأنه، وأنني:
“… وأنّ أقلّ أَلمٍ، وأقلّ لذّةٍ، وأقلّ فكرةٍ، وأقلَّ آهةٍ… كلّها ستعود، وستعود بالترتيب عينه، تبعاً لنفس التعاقب الذي لا يرحم!” ( العلمُ الجَذِل).
أتلك هي الحقيقة؟ ألذلك السبب نسيت تماماً أنّ في الدنيا شيئاً يُدعى أوتيلات وفنادق، ويسمونها في مصر لوكندات، وفي الماضي سمّاها أجدادنا خانات؟ أم أن السبب الأعمق يعود في جوهره لصديقي ” أبو محمّد”، زميل الصعلكة، يوم زرع في رأسي، من طول ما حكاها، فكرةً مفادها أنّ أوّل شيء علينا أن نحيط به إحاطة دقيقة في أيّ مدينة، هو معرفة أين توجد المراحيض العامة.
وكان يُقدّم هذا النوع من المعرفة على غيره من المعارف، وبالأخصّ لمن هم في مثل سِنّنا، في عشر الستّينات. معرفتها كلّها دون إهمال أيٍّ واحدٍ منها. إذ قد تقود الصعلكة إلى أيِّ مكان في المدينة. وينبغي على كلّ مكان أن يرينا كامل طاقاته الموجودة فيه، في الفعل لا في القوة فقط. وكان يقدّم المعرفة بأمكنة المراحيض على معرفة الشيء الذي يتلوها في الأهميّة، بالنسبة إليه، وهو:
أين، وفي أي دخروقة من دخاريق المدينة يمكن أن نعثر على أرخص المطاعم وأطيبها. وهذه، أيضاً، كانت فيها أولويّات:
الرُخص أولاً، تليه الجودة.
…………………..
وكان أوّل يومٍ من أيام تشرّدي المجدّد قد بدأ مبكّراً. والأنفاس الثقيلة لليل أخذت تزفر مع حلول العصر، عندما حجبت البنايات العالية أشعة الشمس. وصارت الحركة في الشوارع أخفّ من المعتاد، وتخفّ أكثر فأكثر. وكنت وحدي أنا وجفاف المدينة وبعض المتأخرين عن بيوتهم. وعمّا قليل سوف تتبدّل الوجوه. إيقاعان طغيا على الجوّ: البرودة والحرب.
وكنت فيما مضى أعشّق فترة الانقلاب المسائيّ. أنعش بها روحي وأمنحها اتصالاً مع عالم الغيب والأسرار. مع الامتلاء الذي صار فراغاً. الفراغ الذي ينتظر أن يمتلئ من جديد. وإلى أيٍّ من قسمي الكوب ينبغي أن ينصرف تفكيري، أإلى الملآن أم إلى الفارغ؟
أوقاتٌ حسبتُها في الماضي خلقت لمتعتي الشخصية. أتعب من الطواف العبثي في الشوارع فأعود إلى البيت. والآن فتلك الجائزة التي تنتظر أيّ متصعلك؛ العودة إلى بيتٍ يؤويه ما عادت موجودة. اختفت وحلّ بدلاً عنها أسئلة من قبيل:
لماذا؟ وإلى أين؟ وإلى متى؟
وأتذكّر التنبيه الأزلي الذي كان يأتينا من أهلنا:
– أوعكن تحكوا مع حدا غريب. أو تخلّوا حدا غريب يقرّب منكم.
والغريب الذي صُرتُهٌ الآن لن يجد من يقول له:
– اتفضّل معي عَ البيت.
فالإنسان ابنٌ للمكان إن كان مِنْ ساكنيه. وإلا فقد تجد عندما تخلو الشوارع من المارة غير واحدٍ يسألك:
– شو عم تساوي هون يا أخونا؟
الشوارع. الأسواق. البشر الذين نصادفهم في الطرقات، ونتبادل معهم التحيّات. وجوهٌ نهربُ منها. تهرب منّا. لا نريدها. لا تريدنا. لا أحد يريد أن يُفسِدَ عليه أحدٌ صفاء كزدورته. فنلتجئ إلى الحارات الجانبيّة. مسارب تُشعرنا بالدفء. وبأنها قادرة على منحنا مخبأً نلجأ إليه.
والبيوت هي الناس الذين في داخلها، وهي الناس الذين خارجها:
– تعال. فوت. نأخذ لنا بيرايتين.
– اطلع نشرب لنا فنجان قهوة.
– وينك يا رِجّال. من زمان ما شُفتَك؟
منذ متى لم تره ولم يرك رغم أنكما تسكنان في الشارع ذاته؟ والهنا والهناك اختلطا بالعمران البشريّ. ومن دون العمران لا رجاء لنا مهما اشتدت رغبتنا في الابتعاد عن الناس. وسوف نكتشف حاجتنا لهم عندما نصبح ولا أين لنا نذهب إليه. ويصبح أكثر الأمكنة إضجاراً مقبولاً منّا. ونحتاج معرفتهم لنا لأنها الشاهد على أننا لا ننتمي إلى الفراغ.
ولكأنني بالوحدة التي فرضتها على نفسي في ذلك اليوم كنت قد قرّرت أن أشتغل أنا وهي على جردة حساب واحدة. لحظة صفاء. وتعال نفكّر. وبعدها نعود إلى ذلك الذي أمضينا السنين نشتكي منه. وماذا سينتج عن كلّ ذلك غير السؤال:
– إلى أين؟
السؤال الذي لم يعد مقلقاً الآن بعد أن حجزتُ غرفةً في أحد الفنادق. ولكن، ألم يكن الأجدى لي لو بِتّ ليلتي هذه عند أحد الأقارب أو الأصدقاء، وغداّ يحلّها ألف حلاّل؟
كلا! فأنت تطلب المستحيل. عيب. ولو؟ شو انسيت؟
وكان ذلك ممكناً فيما مضى. عندما يحتدم الجدال بيننا، وتبطحنا كاسات العرق فأهتف إلى زوجتي السهرانة في انتظاري:
– معليش. رح أنام الليلة عند “أبو المجد” في “حجّيرا”.
كان ذلك ممكناً في أحوال غير هذه الأحوال. كيف أُري لحظة ضعفي للناس، لمن لا يعرفون الحقيقة ولا يبذلون جهداً لمعرفتها؟ وابن المدينة يمضي من مكان إلى آخر في مدينته وفي ظنُّهُ أن الماشين من حوله في الطرقات آمنون، ولهم بيوتٌ يذهبون إليها. وماذا لو أوقفني أحدهم في إحدى الحارات وسأل:
– عمّو. بالله بتعرف إلنا وين بيت فلان؟
بماذا سأجيبه؟ أأقول له:
– والله يا عمّو أنا غريب متلك.
وفي ليل المدينة – الحرب يتكثّف حضور القوى الأمنية على نحوٍ يسدّ المنافذ في وجوه الغرباء:
– شو عم تساوي هون؟ ليش مو ببيتك؟
ما الذي يمكن أن يُقال ردّاً على هذين السؤالين؟ أتقول إنه كان لك بيت، ولكنه أُخِذ منك؟
– ليش منين إنت؟
– من مخيم اليرموك؟
– فإذاً فلسطيني، إنت؟
– يعني. نُصْ نُصْ. فلسطيني – سوري.
صِيغةُ انتماءٍ باتت مربكة. ما الأسلم في هذه الأيام؟ أن تقول إنك فلسطيني؟ أم تقول إنك سوري؟
وأن تكون حيّاً في الحياة يعني أن عليك من حينٍ إلى آخر أن تزور التواليتات الخاصة أو العامة. وهو ما سيعيدني للحديث عن صديقي “أبو محمّد”. وكما قلتُ سابقاً فأدوار الصعلكة معه صيّرتني مثله أتقن المعلومة الذهبيّة بخصوص التواليتات العامة. وأما الذي لم أقتنع به بتاتاً، وتجادلنا فيه طويلاً فهو إمكان اجتماع الرخص والجودة معاً. وكنت أراهما لا يجتمعانٍ أبداً. والعادةُ أن يكون الرخص في هذه الجهة، والجودة في الجهة المقابلة. ولأن مثل ذلك الهراء من جانبي لم يكن ليقنعه البتّة، فقد كان في كثيرٍ من الأحيان يلفّفني على كعوب رجليّ لساعات بحثاً عن اجتماع الرخص والجودة في الشيء الواحد.
وأن تستسلم، وأنت تسير مع “أبو محمّد” في سوق “المناخلية” أو “بوابة الصالحية” إلى اقتراحٍ مجنونٍ يقول:
– شو رأيك اسمنا هون نشدّ عَ حلب؟
يقولها كما لو كانت “حلب” في الحارة المجاورة. ويكون عليّ بعدها أن أتصلّ بزوجتي أخبرها إنني سأسافر مع “أبو محمّد” إلى حلب:
– وإذا صار معي شي باتّصل فيكي. وعلى العموم فالموبايل بيننا.
وعن جدّ، كيف قدر هذا الصديق الفذّ أن ينبش كلّ تلك الأمكنة التي نبشناها سويّةً في محافظات القطر كافّةً؟ وبأيّ خبرة معمّقة بالحياة؟ ومِن أين أطْلّعَ ابن الحياة هذا كلّ تلك العوالم المدهشة التي شابهت في سحرها عوالم ألف ليلة وليلة. وكيف يمكن للسائر في شوارع حمص، يوم كان لحمص شوارع، ولو ظلّ يلف على رجليه مئة عام، أن ينبش بائع المشاوي الذي يشوي داخل غرفة في بيته بـ”باب السباع”، ويترك لك أن تقطع من الخروف المتدلّي وسط غرفة بيته أيّ قطعةٍ تريدها:
– بدنا المِتلة، بعد إذن شواربك.
– على عيني وراسي.
ولولا تلك المجاهيل السردابية التي قادني إليها بحثاً عن الكتب العتيقة لكانت الروحة معه أشبه بعقوبة منها إلى متعة، في بحثه الذي لا يكلّ ولا يملّ عن الأرخص والأجود في اجتماعهما معاً. وكان قد أظهر، منذ ابتداء الثورة، جرأةً لا أملكُ رُبْعَها، رغم ما أملك من جُرُآت، على مواصلة التنقّل في محافظات القطر، وكأن شيئاً لا يحدث فيها البتّة. وآخر مرة غامر وسافر كانت قبل نحوِ عامٍ. ويومها أراد بأيّ ثمن، أن يزور ابنه العالق في المدينة الجامعيّة في حماة. فاتصل بي بحكم ما يكون بيننا من روحاتٍ وجيّات وتصعلك إن كنت أحبّ أن أشدّ الرحال معه إلى “حماة”.
وكان دعاني في سفرةٍ سابقةٍ قادته إلى حلب لأكون رفيق سَفَرِه. ويومها جوبنت. وتعلّلتُ بالحواجز الكثيرة على الطرقات، وأنني من الناس الذين لا يتحمّلون أيّ كلمة زاحلة من أحد ولو على قَطع رأسي. وأنني أرى الأسلم لرأسي أن يظلّ مدفوساً في المخيم. وعندما دعاني لمرافقته في سفرة “حماة” ذكّرْتُه بالسفرة السابقة:
– هلأّ. يا “أبو محمّد!” في السفرة الماضية سألتك عن الحواجز فقلت لي: بسيطة. فِكاكُها خمسة آلاف ليرة سوري إن ما كان عليك شي. وأنت بتعرف أنه ما في حدا في البلد، من أصغر مواطن حتى أتخن مسؤول بيعرف إذا عليه شي أو ما عليه شي… طيّب. فكاك سفرة حلب كان خمسة آلاف ليرة، وفكاك سفرة حماة أدّيش؟ شو فكاكها؟ وشو فيني أساوي إذا حدا قال لي:
– إنزل وْلااا!
وبتعرف أنا ما بسمح لمخلوق في الدنيا يقول لي:
– أولااا. ولو على قطع راسي.
فأجابني مبتسماً. وعن جد رأيت ابتسامتَه ترتسم على سمّاعة الهاتف، رغم أننا كنّا نحكي على الأرضيّ، وليس على السكايب. وقال:
– لا. مِنْ هالناحية اتطّمن. هاي ما فيها شي.
وأن تزوره في بيته في “الشيخ نجيب” على سفوح جبل قاسيون، يعني أن تعود من زيارته كافراً بالدنيا، التي لا تُذكَرُ إلا مترافقة مع كلمة الفانية، تحقيراً لها لأنها تضطر الناس للبحث عن الأرخص والأجود في اجتماعهما. والداخل إلى بيته البائس لا بّدّ أن يشجُبَ، وهو يمازح أبناءه الرائعين، المبتهجين في ما قُسِمَ لهم في هذه الدنيا، دنيانا اللعينة التي تعطي البعض وتحجب عطاءها عن البعض الآخر.
ولكن، كَم غبطته، وغبطتُ غيره، في الساعات الأولى من تشرّدي على بيته المزري ذاك، وأنا أقف حائراً وضائعاً وسط شوارع دمشق وساحاتها ولا أين لي أذهب إليه. ثم مَن قال بأن الأرخص ليس الأجود؟ وأنا بحثتُ عن الأجود فخاب سعيي. ولو بحثتُ عن الأرخص لربما كنت ما أزال نائماً في فراشي حتى الساعة.
ورثيت في الماضي لمسكن ” أبو محمّد ” الذي يحتاج إلى سنين من الشغل ليلحق بالعمارات العالية والأنيقة التي تحته، عند جامع ” أبو النور “. ولكن من أين لي الحداقة التي تجعل المرء يسأل نفسه:
– بالنسبة لبكرة شو؟
– حقّاً بالنسبة لبكرة شو؟ وبالنسبة لبعد بكرة شو؟
ومثل تلك الأسئلة استحثّتني لأُخرج الموبايل من جيبي، وأقرّر في لحظة ضعف أن أتصلّ بسين من الناس. غير أن هاتفاً داخليّا أعاد الموبايل إلى جيبي وقال زاجراً:
– لأ. لأ يا أحمد.
– ولكنني لا أريد، لا منه، ولا من غيره أي شيء. أريد فقط أن أطمئنه عنّي.
فعادت للهاتفُ الداخليّ لهجته الحازمة:
– ولو؟ شو انسيت؟ نسيت الأصول؟
وأن تتصل لحظتها بالآخرين يعني، كما علّمني الهاتف الداخليّ، أن تقدّم نفسك بصفة محتاج. أما سبق وقرّرتُ أنني لن أضع نفسي موضع الشفقة ولوعلى قَطِعْ راسي؟ وهل نسيتُ الشعار الأزليّ:
– “صيت غنى ولا صيت فقر؟”.
أنسيت أيضاً أنه لا ينبغي علينا أن نضع الناس، وبالأخص من نحبهم، في التجربة لأنها قد تخسّرنا إياهم؟ وأطلّت التحدث مع نفسي، وفي الأثناء أطلّت، وأنا أمرّ من إحدى الحارات، امرأة من بوابة إحدى البنايات تنادي على صغيرها. وتطلب منه أن يفوت على البيت:
وبدوري قلت للولد بصوتٍ خافت:
– يالله يا ولد. رُدّ على أمّك!
والولد عنيد. لم يردّ على أمّه ولا ردّ عَلَيّ. وقلت أخاطب المرأة دون أن تسمعني:
– أيمكن أن أفوت أنا بدلاً عنه؟
فرجة.
فرجة.
وصاحب ” صندوق الدنيا ” ينادي في الشوارع:
– عجايبك عجايب. تعا اتفرّج يا سلام. تعا اتفرّج عَ الحمام!
ويتجمّع المتفرّجون. يتجمّعون ويتفرجون. يتفرّجون على بيوتهم العالقة في قلب المعارك، قرب خطوط الفصل والوصل، وكان يكون بينهم نساءٌ أيضاً، والكلّ يتابعون سير المعارك، يقفون، يُقعون، يتحرقصون، كما لو كانوا بدورهم سيهجمون، يقدّمون، صدورهم العارية للمتقاتلين، بديلاً عن بيوتهم:
تلكم صدورنا صوّبوا عليها، ولكن، لا تصوّبوا على: الأبواب والشرفات والنوفذ، والموبيليا، والزجاج، والألمنيوم، والرشّات المزركشة التي تُجَمّل البنايات، وكلُّها مِما دُفِع فيه الشيء الفلاني:
– “جنى العُمْر!”.
أيّ مشاعر فجائعية تجعل الواحد من بني البشر يغامر بروحه ليقف من بيته ذلك الموقف المشرِّف، موقفٌ تُرفع له القبّعات. جنى العُمر. يتمنى لو كان بمقدوره أن يمسك القذائف وطلقات الرصاص بيديه قبل أن تصل إلى بيته، يمسكها ولا يدعها تصل إلى أغلى ما لديه، إلى الذي ظلّ حتى اللحظة قبل اللحظة الأخيرة، وبكلّ قرشٍ كان يتوفّر له، يملؤه، ويملؤه، حتى ما عاد فيه متسع لجديد:
– وهادا لأيش هاد؟
– لَكْ منيح. بكرة بيلاقوه الأولاد.
معليش.
معليش.
والعمر يخلص، والتقسيط المريح لا يخلص.
وكانت ساعات موت، وساعات حياة. موتُ ما مات، وميلاد ما وُلِد. وقفتُ خلالها أمام مفارق الطرق، وأطلت الوقوف أفتّش عن بيتي القديم وعن بيتي الجديد، عن البيتين اللذين ضاعا. وطال الوقت قبل أن أعثر عليهما. وكانا ينتظرانني داخل بقعة معتمة في قلب رأسي. بل أين يمكن للمرء أن يعثر على بيته إنْ لم يبحث عنه في بقعة قصيّة داخل رأسه؟ وهذا الذي كان في رأسي، كثيراً ما كان مضجراً والشوارع أحلى منه، وهو الآن أحلى من ألفِ شارعٍ وشارعٍ، وبيتٍ، وبيتٍ. وأطفأتُ سيجارة، معستها بكعب حذائي الذي خرجتُ به من “مخيم اليرموك” وسرت. شارعٌ يأخذني، وزقاقٌ يحطّني: الامتداد. الأسواق. الأهل. الأصدقاء. والموبايل في جيبي. رنّة ورجّة. رنّة. رجّة. وغير. وغير. وها قد أوشكت العتمة أن تحلّ. وعَلّيّ أن أعجّل إلى المزّة، لآخذ زوجتي التي أودعتها في الصباح عند أقارب لنا هناك، آخذها ونروح نبيت ليلتنا هذه، في فندق الأرميتاج، في محلّة الشهداء، وفي الغد يحلّها ألف حلاّل! وانتبهتُ وأنا في هذا المطرح من النص الذي كنت أكتبه على ابنتي ” ديمة ” تقف فوق رأسي. مع أنها تعرف. والكلّ في البيت يعرفون أنني لا أستطيع أن أكتب حرفاً واحداً إنْ وقف أحدٌ فوق رأسي. عادةٌ مترسِبة من أيام المدارس. فكنت أتبلكم ولا أتمكّن من الإجابة عن أيّ سؤال إذا وقف المراقب فوق رأسي.
وقلت أستنكر وقوفها فوق رأسي:
– شو؟ في شي؟
فقالت بفرح:
– ممتاز. هه. هاي رجعت تكتب مثل أيام زمان!
( أيام الشام)
وقلت متفلسفاً:
– ليش، أنا إيمتى ما كنت أكتب؟ انا أكتب حتى لو لم أكتب!
فقالت بالفرح ذاته:
– أي هيك هاهه. ليش ما تنظر للأمور من هالجانب؟
فقلت أسألها:
– أنو جانب تقصدين؟
– الجانب الملآن من الكوب!
وكانت تتمنّى عَلَيّ أن أعود فأنظر، كما كنت أنظر سابقاً، إلى الجانب الملآن. ومن حيث المبدأ لم أختلف معها حول هذا الأمر. وكلّ ما هنالك أن الأوضاع الكارثية التي مررنا بها في السنين الماضية جعلتني أفلسف الأمور بأكثر مما تحتاج إليه من تفلسف. فمِن المفروغ فيه أن لا ننظر إلا إلى الجانب الممتلئ من الكوب. ولكن علينا أن نحدد أولاً ما الذي نقصده بمفهومي الامتلاء والفراغ. فالجانب الملآن من الكوب، ملآن بماذا، والجانب الفارغ منه، فارغٌ من ماذا؟ فالامتلاء والفراغ أراهما دوماً يتبادلان الأدوار.
وانتبهتُ إلى أنها ما تزال واقفة فوق رأسي. هاهه. الآن عرفتُ السبب. فقد وصل البّلُّ إلى ذقني. وجاء الدور في حملة التنظيف التي انبعثت منذ الصباح الباكر من هذا اليوم إلى الصالون الذي قعدتُ أكتبُ فيه. ومعنى ذلك أن عليّ أن أعزّل. أو كما تقول زوجتي مازحة في بعض الأحيان:
– أوم شوف لك أهل غير هالأهل.
وقلت أسأل نفسي وأنا أحمل لابتوبيّ ومتعلّقاتي من على الطاولة:
ما سرساب النساء هذا، وإدمانهن الزائد عن الحدّ بالنظافة هن وجميع نساء الكون منذ أمّنا حوّاء؟
ما سرّ هوسهن الزائد بالنظافة؟
ولماذا لا يُطِقن رؤية الغبار، أوَ رؤية ورقة ملقاة على الأرض هنا أو هناك؟
ألم يصل إلى سمعهنّ ما حكاه لي صديقي العراقي الجميل “أبو نوّار” من:
-” أن الأشياء في هذا العالم تُخلَق ويُخلقُ معها غبارُها”.
وكان قرأ تلك المعلومة الثمينة في واحدة من المجلاّت العتيقة التي يهوى جمعها. ثم بعد أن نفرغ من تنظيف أشياء البيت من الغبار نعود ليلاً من مشوارنا إلى ” القرية العالمية “، في دبيّ، لنجد الغبار الذي نظفناه صباحاً قد عاد ثانية ليتربّع فوق ما نظّفناه. هذا إنْ كان صحيحاً ما قرأه ” أبو نوّار” مِنْ أنّ:
– الأشياء تُخلق ويُخلق معها غبارُها.
وكنتُ حكيت لزوجتي في الليل، ونحن نجهّز نفسينا للنوم، نكتة ضحكت عليها كثيرا. وأمضينا نصف ساعة نضحك على شيء نبت من لا شيء، مع أن النكتة لم تكن من العيار الثقيل. وفي الصباح وفيما كانت تتجهز، وفي يديها كامل عدّة الحرب، لمباشرة حملة تنظيف البيت، أعدتُ النكتة على مسامعها، فاكتفت بابتسامة باهتة. ليتبيّن لي أن ما قُلتُه ليلاً لم يعد له نفس التأثير صباحاً. فنبّهني ذلك إلى درسين مهمّين:
– لا ينبغي أبداً على الانسان أن يُكرّر نفسه بسبب أو من دون سبب.
– وان لكلّ مقامٍ مقال.
مقام الليل لما يبهِج، ويُيّسّر سُبل النوم. وأما مقام اللحظة الراهنة فللتنظيف. للغبار الذي سنزيله صباحاً لنعود من مشوارنا مساءً فنجده ثانيةً. والحديث في مقام التنظيف يلزمه أن يتركّز على:
المنظّفات، والمكانس، والقشّاطات، وأزوام الغسيل، والزومُ الذي صار في قلب الغسّالة، والغسّالة تنتظر أن أغيّر ملابسي الداخلية لتنطلق فرنينتها.
المقام الآن لما هو جَدّيٌّ، وليس للنُكت والكلام البايخ. المقام لتنظيف الغبار الذي سنعود من مشاويرنا ليلاً لنراه عاد يتربع فوق الأشياء من جديد.