فايروس كورونا يُعيد بناء الإنسان أخلاقياً

السبت 2020/04/04
لا فضاء أبعد من النافذة

يكفيك اليوم وأنت في سجنك الإجباري الذي باتَ يُعرَف بالحجر الصحيّ أن تقوم بجولة صباحية في موقعك الافتراضيّ، لكي تتفطّن بأنّ العالم بأسره يعيش مرحلة جديدة. وتكفيك شاشة التلفاز وأنت ممددٌ أمامها فوق سرير الخوف أن تتيقّن بأنّ الشعوب في لحظة تحوّل مهمة، وتكفيك لحظة مكاشفة لخطاب أهل الرأي بأن تدرك أنّ قواميس اللّغة اتحدت لأوّل مرة، وقد يباغتك خبرٌ في منتصف النهار مفاده أنّ رجل أعمال أو لاعب كرة قدم تبرّع بأموال طائلة لصندوق الدعم، وقد لا يحلّ الظلام إلاّ وفي جرابك عشرات الأخبار عن الإنسان وقد تحوّل فجأة ملَكاً.

فما الذي حدث؟

الإجابة هو أنّ الإنسانيّة جمعاء استيقظت ذات طمأنينة مدنّسة على فايروس كورنا (Covid-19) يسري كالنار في الهشيم بين الدّول، فايروس لا يؤمن بالحدود والأوطان ولا بالمعتقد والأديان، ولا يهمّه جنس ولا لون ولا عرق، يسافر عبر القارات حاملاً معه لوازم الموت والمعدّات متسرّباً في الحبر عند ختم الجوزات، لا يهمّه ممن يقتات، ما يهمّه فقط كم عدد من سيحصد من الوفيات. حدثٌ يستفز الأقلام للكتابة عنه وتدوين هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ البشرية جمعاء. ولعلّ ما يهمنا فيه هو هذا التحوّل الأخلاقي الذي أحدثه هذا الفايروس. فالمتمعن في هذه اللحظة التاريخية التي تمرّ بها الإنسانية يشدّ انتباهه هذا المنعرج الحاسم في القيمة الأخلاقية عند الإنسان.

لقد فرض”كوفيد – 19″ نمط عيش جديد بدءا من صورته العامة، أي بين الدول المتضرّرة مرور بالوطني، أي داخل الأوطان وصولا إلى الجهوي وتوزّع الولايات والمحافظات، انتهاء عند البيت الداخلي في الأسرة. محطات يمكن أن نجد فيها لحظات مضيئة قد لا تتكرّر. لقد أثار فايروس كرونا روح التعاون بين الدول، حيث انعقدت قمة مجموعة العشرين الافتراضية، والذي قال فيه المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف “ساد جوّ من الاتفاق على ضرورة التعاون الدولي من أجل مكافحة فايروس كورونا. وأنه لا وجود لطريق آخر لمكافحة فايروس كورونا إلاّ عن طريق التعاون الدولي، وضرورة تعزيز منظمة الصحة العالمية وتقوية إمكانياتها مستقبلا، والفهم المشترك لخطورة الوضع وضرورة التعاون المشترك”. وهذا ينبئ عن وعي حضاري جديد أسس إليه منطق الخوف من المجهول، فعالم بعد أن سار لمرحلة طويلة تحت شعار الأنانية ورداءة الأخلاقية يستفيق من جديد ليعيد ترتيب نفسه.

أما على المستوى الوطني وداخل كلّ دولة فقد شهدنا تضامنا لافتا للمنظمات والجمعيات، وتخلصت روح الوطنية من أجل الوقوف ضد هذه المحنة، فاتسمت روح الانضباط وتقاسم الجميع الجهود، وتجندت سياسة الدولة بكبيرها وصغيرها من أجل الخروج من هذا الوضع المتأزم، وتعالت صيحات الدعم الوطني للصحة، لينظم الرياضيون والإعلاميون وبقية شرائح المجتمع في ضخّ أموال. أما على المستوى الجهوي والمحلي فقد جاءت دعوات لحملات تطوعية لمساعدة الناس على قضاء شؤونهم، فضلا عن ذلك فرض فايروس كورونا على الناس أن تلزم البيوت تحت ما يعرف “بالحجر الصحي” فكان شعار مصائب قوم عند قوم فوائد، حيث التحمت العائلات من جديد، وتفطنت إلى أنّها كانت أبعد ما يكون عن بعضها، فالحجر الصحي جدّد خلايا الانتماء الأسري وعزّز روح الانتماء، وضخّ دماء جديدة داخل النسيج المجتمعي الواسع والضيّق، حيث بات الجميع في مصير واحد. ففي تونس أطلق البعض على مواقع التواصل الاجتماعي حملة “شدْ دارك” أي ابق في بيتك، وقد تناقلت المواقع التواصلية فيديوهات حميمية للاعبين عالميين بين أسرهم، يستمتعون معهم وبتلك اللحظات التي لم تتوفر لهم من قبل.

في المقابل ذلك أزاح الفايروس لثام الحضارة الزائفة، حين عرّى الحقائق وكشف إفلاس بعض الدول التي تدّعي التقدّم والسلام والديمقراطية، وأظهر لنا زيف القيم التي يروّجون لها هنا وهناك. لقد صوّر لنا الفايروس كيف عانت إيطاليا محنة الوباء رغم انتمائها إلى المجال الأوروبي، وكيف سارعت كوبا إلى التعاون معها. إنّ الحقيقة الصادمة أن العالم أصيب بالشيخوخة الأخلاقية، وهرمت الحضارة فبتنا في الطور البدائي الأوّل، وكان من المنطقي أن تحدث أزمة يستفيق عليها الجميع على وقع الموت، الموت الذي بات يحاصر الجميع، ويلتهم الصغير والكبير، ويضع حدا لغطرسة الإنسان. إنّها الطبيعة حين تنتصر لنفسها.

إلى هذا الحدّ نقول: حين يغتال الإنسان القيم ويهشّم كلّ ما هو سمحٌ أمامه لا يحقّ له أن ينزعج إذا ثارت الطبيعة عليه وأعادت ترتيب بيتها الداخلي بما يليق بها، فتمرّد الإنسان على القيم قد يكلفه غاليا، ونظن أنّه حان الوقت للإنسانية أن تعيد قراءة المشهد الأخلاقي والسياسي والثقافي، فما بعد كورونا لا بدّ من نقطة صفر نبدأ بها بتصورات جديدة على المستوى الذاتي فالوطني فالإقليمي فالدّولي.

ختامًا، لقد استطاع هذا الفايروس أن يربك حسابات الذين خططوا لسنوات في هدم الأخلاق، ودكّ بقوة حصون عوالم العولمة وما فرضته من نمط اجتماعي جديد. لقد حوّل كورونا العالم وفي ظرف أشهر فقط إلى ضمير واحد حيث تعايشت الأمم وتضامنت، وأبدت استعدادا للتعاون، حيث تعالت أصوات التضامن.

ويبقى السؤال قائماً، هل انتبهت الإنسانية حقاً أم هي مجرّد استجابة خوف تمضي لتسطع من جديد شمس الحقيقة المرّة؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.