فعل مضاد للتاريخ
التاريخ، وكم يعشق العرب التاريخ وكم تعلقوا به في جميع نواحي حياتهم، حتى بات وحشاً اِلتهم مستقبلهم. التاريخ هو رواية المنتصرين الذين أرادوا أن يسجلوا للأجيال التي تليهم روايتهم عما حصل وجرى معهم من أحداث وتفاصيل، ومن هنا تتضارب سير التاريخ وتفاصيله بين المنتصرين والمهزومين، ومن هنا خرجت في القرن العشرين المجموعات البحثية التي سمت نفسها بالـ”المراجعين” أي أولئك الذين رفضوا التاريخ الذي وصلنا كما هو وقرروا البحث في حقائقه وتفاصيله ليعيدوا كتابته كما لو أنه لم يكن، تصحيحاً وبحثاً نحو الحقيقة.. وحينما نتحدث عن الحقيقة.. فالسؤال الأهم.. هل هناك حقيقة في عالمنا هذا؟ هي وجهات نظر.. هناك من يرى العرب فاتحين.. وهناك من يراهم غزاة، وهناك من يرى تيمورلنك مجرما وسفاحا.. وهناك من يراه والد الأمة وقائدها، وقس على ذلك.
التاريخ هو تلك الرواية الجمعية التي اتفق عليها المنتصرون وفرضت على من تلاهم، وتبناها من اتبعهم، تبنوها لدرجة العبادة والتقديس.
أما في عصرنا الحديث فصراع الإنسان مع ذاته ومع عالمه المحيط جعله وعيه يطور أساليب سردية غاية في المهارة والإبداع، جعلت وتجعل من كل فرد “منتصر” بينه وبين نفسه على القدر، ويحق له بالتالي أن يروي للآخرين تاريخه كما يراه، وكانت بالتالي “الرواية” كفن سردي، توثيقي، تخييلي، مواز للحقيقة، وربما مجاور لها.
الرواية هي التاريخ حينما يتحول إلى فن، هو صنعة النجار الفنان الذي يدخل إلى غابة من الأخشاب المقطوعة وغير المقطوعة، فيعمل عليها الراوي محوّلاً إياها إلى أعمال فنية غاية في الروعة، تنسي النظارة ما هو أساسها، ولكنها تبقى في النهاية خشبا من تلك الغابة التي اسمها التاريخ، ولربما تكون الرواية تاريخا شخصيا كما فعل باتريك وزسكيند في “العطر”، وربما تكون تاريخا لعائلة كما فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته وكما فعل خيري الذهبي في ثلاثيته “التحولات” أيضاً، ولربما كانت تاريخ مدينة كما فعل أورهان باموق في “إسطنبول” أو ربما كانت تاريخا لهذا العالم الذي نعيش فيه كما فعل أنوورويه دو بلزاك، وربما كانت تاريخاً لعالم نتوقعه، عالم بشع نخشاه كما فعل ألدوس هكسلي في روايته “عالم جديد شجاع”، أو رواية لعالم نحنّ إليه ونتمناه كما فعل يفيغيني زمياتين في رواية “نحن”.
الرواية فعل مضاد للتاريخ، يكتبه “المراجعون الجدد” المنتشرون في أصقاع الأرض، ممن يودّون أن يسردوا رواياتهم التي نبذها التاريخ الرسمي التي حقرها التاريخ الرسمي، والتي لم يعترف بها ذلك التاريخ الرسمي، فحينما كانت سلطات الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال تسيطر على روح المجتمع السوفييتي وتصادر حرية تعبيره، كان بولغاكوف يسرد في روايته “المعلم ومارغريتا” تاريخاً مضاداً مشفراً ومرمزاً، كي يستطيع المرور عبر آليات الرقابة والمصادرة والاعتقال، استطاع بولغاكوف أن يتحدث عن كل شيء في تلك الرواية، عن جيله ومشاكله وعن حالته الشخصية وعن الكنيسة والإيمان والشيوعية والإلحاد، وعن المجتمع الروسي والكي جي بي، ممرراً تاريخه كما تفعل الطوائف الدينية الصغرى في نصوصها المقدسة من ترميز وتلغيز ومواربة، فقال التاريخ الذي لم يقله المنتصر ستالين آنذاك، بل روى تاريخه كمهزوم، وسجل لنا وللشعب الروسي تاريخ فترة من أصعب فترات حياته.
مصطلح علم التاريخ مصطلح غريب ودخيل على العربية، أو على البدو الذين كانوا يؤرخون شفهياً، وفي كثير من الأحيان حسب رغبتهم لمستجدات الصراع بين القبائل العربية، وليس من يعرف متى دخل مصطلح التاريخ “كعلم” إلى العربية، وفي زمن مَنْ من الخلفاء دخل إلى العربية! وكان العلم ما يزال تعلماً يحبو على طريق المعرفة، ولكن استخدام هذا العلم ولو بطريقة بدائية كان واضحاً جداً، فلقد تم التعرف على بدايات علم التاريخ من الكهنة في الأديرة والذين كانوا متفرغين لكتابة التاريخ، أو من المعلمين الذين أسرهم العرب في فتوحاتهم، وكانوا حريصين على استكمال كتابة التاريخ، وهذا له معنى واحد، أي أن التاريخ العربي كعلم بدأ منذ خروج القبائل العربية من الجزيرة، وانتصارهم على الروم وطرد الفرس عن العراق العربي ثم الأعجمي. وبالاختصار احتلالهم أو تحريرهم “حسب رأي القارئ والكاتب في حركة التاريخ” عن البلاد التي كان هنالك مشترك لغوي وربما قرابيّ بينهم وبين الجزيريين الخارجين من عالم التقشف إلى كل شيء حضاري، بل، وربما تأخروا بعض الشيء في استخدام العلم الجديد حتى أواخر العصر الأموي، فهم لم يعرفوا قبل ذلك عن استخدام العلم الجديد عليهم أعني علم التاريخ، وليس عن عبث اضطراب الفكر التاريخي لدى القبائل العربية قبل الخروج الإسلامي الكبير إلى بقايا الإمبراطوريتين “الفارسية” والتي قضوا عليها قضاء مبرماً بحيث لم يتركوا للفرس إلا مضغ الحقد على مدمر دولتهم الإمبراطورية، وتسبب في تفكيكها لقرون طويلة، والإمبراطورية الرومانية التي حملت اسم اللاتينية أولاً ثم البيزنطية بعد الانشقاق بين الشعبين واللغتين والحضارتين، وطردها خارج العالم العربي وربما لم يكن يتسمى علم التاريخ بالعربية علم “تاريخ” قبل الفتوح الإسلامية بلغة عربية أو بصوتيات عربية مأخوذة عن اللغات المشرقية السابقة للعربية.
وعودا إلى كلمة التاريخ والذي اشتقته العربية وما قبل العربية “الساميّة” من كلمة يرخو، والتي تعني القمر، أو مرور الأحداث على الأرض “كل يرخو”، أو” قمر”، أو بالتعبير المعاصر “في كل شهر قمري”، ولما كان العرب في خروجهم من جزيرتهم قد روضوا أنفسهم على التأقلم مع الحداثة والعصر، فلقد أعادوا صياغة “يرخو” لتدخل في العربية على شكل “أرّخ يؤرخ” ثم اشتقوا منه اسم الـ”تاريخ” أو “التقمير” لمن القمر تصبح الدلالة أن هذا الحدث أو ذاك قد وقع في هذا الظهور للقمر في السماء!
والتاريخ كصنعة لا يقبل التورية والألعاب الأدبية، بل يفترض الدقة والتتابع، ولكنه عند العرب وأهل المشرق، طُرّز وزركش، وباتت الصنعات الأدبية تدخل عليه حتى صنعوا تاريخاً ربما ليس بتاريخ، وربما كان يوميات، وربما كان قصاً وحكايات، وتاريخاً أسطورياً للمنتصرين، كما فعل الظاهر بيبرس.
بيبرس كان يعيش منذ طفولته في معسكر للعبيد في دمشق، يستمع إلى القصاصين والحكواتية، يتحدثون عن بطولة الترك وهزيمتهم للفرس، وكان يعرف أن الفرس قد صنعوا ملاحم لقتالهم الترك والمغول والبخاريين، كما فعل الفردوسي في كتابه ” الشاهنامة”.
وحينما صار المملوك الصغير قائداً حقيقياً ومنتصراً أيضاً، قرر أن يدخل التاريخ مثل أتيلا، الذي هدم أوروبا قبل أن يموت، فاستدعى المنادين وأعلن عن جائزة نقدية كبيرة لمن يستطيع وضع كتاب عن انتصارات الظاهر بيبرس على الصليبيين في بلاد الشام، وتقدم الكثير من الفطاحل من الكتّاب في عصره، لكتابة المأثرة الإسلامية، في هزيمة الفرنجة والفرس، فقدم ابن شداد للظاهر بيبرس نسخة لم تصلنا، يجيب بها على كل أسئلة الظاهر بيبرس في الخلود والمجد وتغيير التاريخ، أو كتابة التاريخ كصنعة تفاخر بها الأمة المنتصرة الصاعدة ـتلك الأمم التي كتبت الشاهنامة والإلياذة وغيرها- واستمع بيبرس البندقداري منه حتى سئم، ورفض ما كتبه له، فليس هذا هو الحلم الذي تخيله بيبرس لتاريخ سيروى عنه في انتصاراته التي رآها لا مثيل لها في التاريخ، ثم تقدم ابن عبدالظاهر في كتابه عن انتصارات الظاهر على بقايا الأيوبيين والصليبيين، ولكنه استمع إليه بينما كان يشرب البوظة ورفض كل ما سمع في ملل.
كان على بيبرس الانتظار لفترة حتى تقدم إليه ابن عبد الظاهر عارضاً عليه أن يقدم إليه الكتاب فصلاً ففصلاً، فما وافق عليه السلطان اعتمده الكاتب، وما رفضه مسحه، وخاصة حينما قرأ في نسخته من “تاريخ الظاهر بيبرس” المملوءة بالسحر الأبيض والعجائب والخواتيم السليمانية السحرية تتحكم بالمردة والجان، والانتصارات على الفرنجة، وهكذا بدأ الروي على القائد الذي بدا وكأنه يختار خلوده بيديه، فهنالك من يكتب أمجاده وهو من ينقحها ويقبل المبالغات فيها، أو الشطحات أو حتى الكذب، فانبثقت أمامنا واحدة من أروع سير الملوك والعظماء، سيرة تضاهي الشاهنامة والإلياذة وسيرة سيف بن ذي يزن، “سيرة الملك الظاهر بيبرس” التي اشترك فيها المؤرخ والروائي، فكانت الأسطورة، الابنة العقيم للتاريخ والابن القوي جداً للرواية، ولنسمها بـ”بغل الرواية”..القوي والصابر ولكنه العقيم..
ولكن هل كل رواية هي تاريخ معدل؟أم أن هناك تخييل صرف بعيد عن كل تاريخ..؟
كل ذلك كان في العالم القديم، حيث تتداخل طبقات التاريخ مع الحياة اليومية للناس، في اليونان وشرق المتوسط والجزيرة العربية ومصر وفارس والأناضول، والصين والهند، ولكن في العالم الجديد المكتشف في القرن الخامس عشر، حينما جاء المستوطنون ونظروا نظرة استعلاء للثقافات المحلية المسماة بالهنود الحمر في أميركا الشمالية والمايا والأزتك في أميركا الجنوبية، نظرة استعلاء جعلتهم في قطيعة مع تاريخ تلك البلاد، وهم أيضاً بلا تاريخ، فكانت هنالك تجربة جديدة جداً هي الواقعية الصرفة، التي ازدهرت في الولايات المتحدة، فكانت الرواية الواقعية اليومية التي طارت مع الخيال الشخصي، ولكنها في أميركا الجنوبية أخذت شكلاً أخر تماماً، سموها بالواقعية السحرية، أي تلك الرواية التي تنبثق من الناس المعجونة قصصهم مع السحر والطبيعة والماورائيات التي لا يعرفها العالم القديم، فاستلهم كتّاب تلك البلاد رواياتهم من تاريخ الأحجار وتاريخ الغابات والأنهار والأشباح، من العلاقة الغرائبية مع الأجيال التي هي تاريخهم القريب، وليس العميق، فلا تاريخ يستندون إليه إلا في ضفة الأطلسي الشرقية البعيدة والتي هي تاريخ المستعمر في ذات الوقت، فرفضت، وكانت موجة مختلفة من الأدب الروائي الخاص والمتفرد المنفصل عن تاريخ العالم، والمتعلق بتاريخ شخصي هو ليس بتاريخ بقدر ما هو سرد تواتري لقصص شعبية، زيدت ونقحت فطارت في سماء السرد الروائي..
شيء مختلف تماماً عن أعمال شكسبير أو غوته أو فيكتور هوجو أو دستويفسكي، روايات عن أشخاص ربما كانوا موجودين وربما لم يكونون أصلاً.. إنه التخييل في أعلى مستوياته.
علاقات صارمة ومتأرجحة هي التي صارت بين التاريخ والرواية، وما نتج بينهما من أساطير وواقعية سحرية، أو تخييلية، ولكن الفعل البشري التدويني الأساسي المختفي خلف جميع تلك السرديات هو رغبة كتّابها في تسجيل لحظة نصر، تطورت لتسجيل تاريخ بديل، تطورت لتسجيل متعة أو نزوة أو لحظة سحرية طارئة..
في مقدمة روايتي التي استلهمت فيها التاريخ أكثر من غيرها والمعنونة بـ”فخ الأسماء” الصادرة عن دار الآداب في بيروت، أكتب في مقدمتها التالي:
“التاريخ هو العدو الذي نخشاه دوماً، إنه ينهض حيث نغيب، حيث لا رهبة لك ولا رغبة فيك”.
وأضيف الآن: “إن الرواية هي الحبيب الذي نلهث وراءه دوماً، فهو يبتعد حين نقبل، ويقترب حينما نبتعد”.
إن الرواية التي تستلهم التاريخ إذ تستعير التاريخ، لا تفعل ذلك للاحتماء خلفه من أجل تمرير مقولات ما يمكن إسقاطها على الراهن، بل هي تفعل ذلك لاستقراء ملامح التشابه العميق في سلوكيات القمع، تماماً كما في أحزان المقموعين، وهي في خلال ذلك كله قراءة روح الثقافة بصفتها أداة المقاومة الأبرز على مدار التاريخ العربي وما حفل به من أحداث شديدة السواد، موغلة في الظلم والعسف. هنا تقدم الرواية الموازية للتاريخ أهم ما في فن الرواية وأجدره بالملاحظة، وأعني بنية الأبطال والشخصيات، الذين لا يهمنا بعد ذلك أنهم من نسيج الخيال، لأن حضورهم الآسر بتلك القوّة الجذابة من الإقناع، ينجح في استدراجنا إلى قبولهم ومحاولة التعايش معهم باعتبارهم جزءاً من وعينا الراهن في زماننا الراهن، ولعل هذه المسألة بالذات جوهر فكرة العودة إلى التاريخ لكتابة رواية، حتى وإن جاءت هذه العودة، من بوابة التصور الفانتازي وما يشتمل عليه هذا التصور من إقصاء مقصود، جميل ومبرر، للزمان حيناً، وللأمكنة المتنقلة أحياناً أخرى، خصوصاً وقد قدم الكاتب هذا النسيج الروائي كله من خلال معرفة صافية تشير إلى وعي الزمان في عتباته وتحولاته، وكيفيات تلك التحولات وأسبابها.
وأنا في كتابة الرواية المستلهمة من التاريخ أخالف”العادة” الأدبية السائدة في كتابة الروايات التاريخية، والتي تقوم على إعلان الكاتب منذ الصفحة الأولى لروايته أنه عثر على”مخطوطة قديمة”، تتحدث عن وقائع قديمة، وأن دوره يكمن فقط في نقل وقائع ونصوص تلك المخطوطات للقارئ، وهي الذريعة الفنية التي لجأ ويلجأ إليها عدد كبير من كتّاب الرواية التاريخية هذه الأيام، في محاولة لإضفاء الصدقية على أحداث صنعتها مخيلاتهم الروائية في حين عمدت -منذ البداية- إلى استحضار التاريخ وزجّه في أتون المخيلة الأدبية ودفع المخيلة إلى مناوشته واستعصاء احتمالاته وتفاصيله.