فكرة السلطة

ميشال فوكو ضد الماركسيين
الأربعاء 2021/12/01
لوحة: فؤاد حمدي

لا يعني ميشال فوكو بالسلطة مجموعة مؤسسات وأجهزة تقوم بإخضاع المواطنين في دولة معينة، ولا يعني بها نمطا من القهر يأخذ شكل القاعدة عوض أن يعمل بالعنف، كما لا يعني بها حتى نظام سيطرة عام تمارسه فئة على فئة أخرى[1]، بهذا  يكون فوكو قد رفض التصور السائد في عصره حول السلطة؛ والقصد هو التصور الماركسي الذي يحصر السلطة في المؤسسات وأجهزة القمع وكذا في البنى الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، فالتصور الماركسي يعتبر أن السلطة هي ما تمتلكه طبقة مسيطرة، فإذا احتكرتها طبقة اجتماعية جردت منها أخرى. لكن فوكو يرى أن السلطة ليست مجال امتلاك، ولا تنتزع، ولا تقاسم، لا تحتفظ بها ولا تفلت من يد أحد. فالسلطة إما أن تمارس أو لا تمارس؛ إنها شكل من أشكال الصراع الآني المعرض للتقلبات المستمرة، فهي علاقة وليست علاقة امتلاك. وهي أعمق وأوسع من أن تنحصر في أجهزة الدولة. من هنا فإن المجتمع الغربي حسب فوكو قد انتقل من السلطة الانضباطية التي تمارس نفوذها من خلال رسمها لحدود الفكر والممارسة، وعن طريق المعاقبة “الممارسة المنحرفة” وترويج “الممارسات الصائبة”، إلى السلطة الحيوية التي تقوم بتكثيف وتعميم الأجهزة المطبعة مع النظم التأدبية، وتتأسس على مراقبة تتّسع خارج البنيات المهيكلة للمؤسسات الاجتماعية عن طريق الشبكات المرنة والمتغيرة. فكيف تم هذا الانتقال؟ وكيف ردّ المدافعون عن التصور التقليدي للسلطة الذي انتقده فوكو؟ وما هي قيمة هذا الرد؟ وما حدودها؟

لعبت أعمال ميشال فوكو دورًا مهما في تهيئة المجال الحقيقي لامتحان آليات السلطة، حيث مكنتنا من التعرف على الانتقال المهم الذي عرفته المجتمعات الغربية الحديثة من “السلطة الانضباطية” إلى “البيوسلطة” يقول فوكو “خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر سنرى ظهور تكنولوجيا أخرى للسلطة ليست انضباطية هذه المرة. تكنولوجيا لا تنفي الأولى، ولكن تعلبها وتدمجها وتعدلها جزئيا وتستعملها.. فبعد قيام سلطة أولى على الأجساد التي وضعت على شكل تفريد قامت سلطة ثانية ولكن على شكل جماعي، وموجه ليس إلى الإنسان – الجسد، ولكن الإنسان – النوع … وهذه السلطة هي التي أسميها بـ”السياسة الحيوية” (Bio-Politique)[2]، تأسيسا عليه،  يمكن القول إن فوكو يتحدث عن السلطة ليس كشيء ثابت وإنما هي متغيرة بطبيعتها؛ فهو يتحدث عن السلطة الانضباطية التي عبرها يتم  بناء التحكم الاجتماعي باستعمال شبكة متشعبة من الأجهزة التي تنتج وتنظّم العادات والتقاليد والممارسات حتى يعمل هذا المجتمع ويخضع أفراده لآليات الإدماج والإقصاء من خلال الأجهزة التأدبية كالسجن والمعمل والجامعة والمستشفى.. التي تقوم بهيكلة الفضاء الاجتماعي، وتسمح بظهور منطق داخلي يتناسب مع العقل التأدبي، فالسلطة الانضباطية تمارس نفوذها من خلال رسمها لحدود الفكر والممارسة، وعن طريق المعاقبة ممارسة “منحرفة” وترويج الممارسات “الصائبة” يقول فوكو في كتابه المراقبة والمعاقبة “إن الانضباط يحمل معه نوعية خصوصية من العقاب”.

وعرفت السلطة تحولا كبيرا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر إذ أصبحت تمارس عن طريق آليات مباشرة وتنظم العقول، أجهزة الاتصال شبكات التواصل والأجساد وعبر الامتيازات الاجتماعية، والمساعدات الاجتماعية.. من أجل “استلاب” الأفراد بشكل كامل. هكذا انتقلنا من المجتمع الانضباطي إلى مجتمع المراقبة الذي  يتميز بتكثيف وتعميم الأجهزة المطبعة للتنظيم التأدبي، فالمراقبة إذن تتسع خارج البنيات المهيكلة للمؤسسات الاجتماعية عن طريق الشبكات المرنة والمتغيرة. ويسمي فوكو هذه السلطة  بـ”السبطة الحيوية” التي يعرفها فوكو بأنها “الطريقة التي بها حاولنا، منذ القرن الثامن عشر، أن نعقلن المشكلات المطروحة على الممارسة الحكومية من طرف الظواهر الخاصة في مجملها بالكائن الحي المتمثلة في السكن، الصحة، النظافة، المواليد، طول العمر، العرق.. وكلنا يعلم المكانة التي تحتلها هذه المشكلات منذ القرن الثامن عشر والرهانات  السياسية والاقتصادية التي تشكلها حتى اليوم”[3] من هنا يمكن القول إن “البيوسلطة” هي أنموذج جديد من السلطة ينظم الحياة الاجتماعية من الداخل بتتبعها وبتأويلها وإعادة صياغتها، فالسلطة كما يراها فوكو أضحت تتحكم في الحياة الاجتماعية أو بتعبيره هو “الحياة أضحت موضوعا السلطة”. ويتجلى دورها الأساسي في إنتاج وإعادة إنتاج الحياة نفسها.

إن هذه القفزة النوعية من مجتمع التأدبي إلى مجتمع المراقبة؛ اتضحت معالمه في أنموذج جديد للسلطة، بحث أصبح المجتمع هو مجال البيوسلطة. ففي المجتمع التأدبي كانت نتائج تكنولوجيا البوسياسية جزئية؛ في سياق أن معايير الضبط الاجتماعي تتم في وسط مغلق وهندسي وكمي، ذاك أن المجتمع الانضباطي يثبت الأفراد في إطار المؤسسات؛ لكن لم ينجح في دفعهم بالكامل إلى الانخراط في ممارسات اجتماعية وإنتاجية. لم يصل بالكامل إلى دمج عقول وأجسام الأفراد، إلى حد تنظيمهم وتأطيرهم كلية في أنشطتهم.

تتمظهر العلاقة بين الفرد والسلطة في ظل المجتمع الانضباطي بكونها تتسم بـ”السكونية”؛ لأن الانتشار التأدبي للسلطة يوازن مقومات الفرد، بالمقابل عندما تصير السلطة بيوسياسية فمجموعة الهيئات الاجتماعية تقبل بطواعية النظام على اعتبار أن العلاقة هنا مفتوحة، أو المجتمع الذي يعيش تحت سلطة ترجع إلى المراكز الحيوية للبنيات الاجتماعية وصيرورة تطورها يتصرف باعتباره جسدا اجتماعيا واحدا، يقول فوكو “السياسة الحيوية إذن لها علاقة بالسكان كمشكلة سلطوية وأعتقد أن هذا هو العنصر الجديد الذي ظهر في تلك المرحلة”[4] وحينها تتصرف السلطة باعتبارها مراقبة تكتسح أعماق الوعي وأجساد السكان، وتتوسع عبر إدماج كلي للعلاقات الاجتماعية.

لوحة: فؤاد حمدي

نقد أنطونيو نيغري ومايكل هاردت لميشال فوكو

يؤكد أنطونيو نيغري ومايكل هاردت أن مسألة الإنتاج وعلاقتها بالبيوسلطة ومجتمع المراقبة؛ تكشف مظاهر القصور التي تعزو نظرية ميشال فوكو، وسارعوا إلى توضيح الأبعاد البيوسياسية لأعمال فوكو التي كشفت على أننا لن نفهم على الاطلاق المرور من المجتمع التأدبي إلى مجتمع المراقبة، دون أخذ بعين الاعتبار التحول الذي طرأ على المجال البيوسياسي في خدمة التراكم الرأسمالي “فمراقبة المجتمع لأفراده لا تتم فقط عن طريق الوعي، أو الأيديولوجيا لكن كذلك من خلال الجسد وفي الجسد فما يهم المجتمع الرأسمالي هو البيوسياسي أكثر من البيولوجي والجسدي”[5]. من هنا يبينان بأن الأهداف المركزية لأبحاث ميشال فوكو في مرحلة السبعينات تجاوزت كل القراءات المادية التاريخية التي تعتبر مشكل السلطة وإعادة الإنتاج الاجتماعي تتم في البنى الفوقية والمختلفة على البنى التحتية لوسائل الإنتاج، لكن فوكو يحاول جاهدا أن يرجع مشكلة إعادة الإنتاج الاجتماعي وجميع عناصر البنية الفوقية إلى البنية التحتية. وبالموازنة مع ذلك لا يحاول تحديد هذه الأرضية إلا بتعابير ثقافية وجسدية وذاتية، بعيدا عن التعابير الاقتصادية.

 ويلح أنطونيو نيغري ورفيقه مايكل هاردت على أن فوكو لم يستطيع التحرر من الإبستمولوجيا البنيوية التي رافقت أبحاثه من البداية إلى النهاية، فـ”عن طريق المنهج البنيوي تم تجديد أدوات البحث الوظيفي في العلوم الانسانية وهذا النهج ضحى فعليا بديناميكية النسق والزمنة والإبداعية في حركته والجوهر والأنطولوجيا لإعادة الانتاج الثقافي والاجتماعي”[6]، وأضاف نيغري وهاردت أنه بمجرد إدراك هذه النقطة سنتساءل مع فوكو حول من يدير هذا النسق هذا من جهة. أما من جهة أخرى فقد ذهبوا إلى القول إن فوكو لم يفهم حقيقة الديناميكية الحقيقية للإنتاج في المجتمع البيوسياسي.

 على عكس ما سبق، يعترف نيغري وهاردت بأن جيل دولوز وغتاري قد قدما إضافة إلى تيار ما بعد البنيوي للبيوسياسي الذي جدد الفكر المادي ورسخه في مسألة إعادة إنتاج الكائن الاجتماعي. وأشاد نيغري وهارت بعمل دلوز وغاتري الذي أزال الأوهام عن البنيوية وجميع التصورات الفلسفية السياسية والسوسيولوجيا التي تنطلق من إطار إبستمولوجي يعتبرونه مرجعية لا اعوجاج فيها، وركز اهتمامهما حول الجوهر الأنطولوجي للإنتاج الاجتماعي[7]، لكنهما يأخذان (نيغري وهارت) على دولوز وغاتاري أنهما غير قادرين على طرح تصور إيجابي لاتجاهات الحركة المستمرة لهذا نجد في تفكيرهما أن العناصر الإبداعية والأنطولوجيا الراديكالية للإنتاج تبقى دون مادة ودون سلطة[8]. بناء عليه، يعترف نيغري وهارت بأن دولوز وغتاري اكتشفا إنتاجية إعادة الإنتاج، لكنهما لم يوضحا ذلك إلا سطحيا باعتباره أفقا فوضويا غير محدد ومميز بالحدث الذي لا يمكن الإمساك به.

يحيلنا نيغري وهارت إلى النظر في أعمال الماركسيين الإيطاليين المعاصرين، الذين يعترفون بالبعد البيوسياسي في الطبيعة الجديدة للعمل المنتج وتطوره الحي في المجتمع، كما استعملوا في وضع عبارات من قبيل ثقافة الجمهور والعمل اللاّمادي.. هكذا نجد حسب هارت ونيغري المفهوم الماركسي للذكاء العام[9]. إن هذه التحليلات تنطلق في نظرهم من مشروعي أبحاث مشتركة، الأول يعتمد على تحليل التحولات الحالية للعمل الإنتاجي واتجاهه نحو ما هو “لامادي” أما المشروع الثاني فهو يطور من طرف هذه المدرسة، حيث يتم تحليل البعد الاجتماعي المباشر لاستغلال العمل الحي اللامادي بجميع العناصر التي ترتبط بتعريف ما هو اجتماعي لكنه ينشط أيضا في نفس الوقت العناصر النقدية التي تطور إمكانية التمرد عبر مجموع الممارسات العمالية.

يتساءل نيغري وهارت عن الكيفية التي يمكن للعناصر السياسية والسيادية للأجهزة الإمبريالية أن تتشكل، ويعتبران أنه ليس من الضروري أن تقتصر الأبحاث فقط على المؤسسات الفوق وطنية، كما لا يجب التركيز عليها، ويؤكدان على أن مؤسسات الأمم المتحدة بوكالاتها وصناديقها العالمية للاقتصاد والتجارة – أي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي – لن تصبح مهمة في منظور التأسيس القانوني العالمي إلا عندما تدرج إطار الإنتاج البيوسياسي للنظام العالمي الجديد. وحسبهما فإن وظيفتها في النظام الدولي القديم ليست هي ذاتها التي تشرعن المنظمات الدولية فيما يشرعنها الآن وهو دور الجديد الممكن في رمزية للنظام الدولي الجديد، وعليه يستنتج نيغري وهارت أن المؤسسات خارج هذا الإطار لا يمكن إلا أن تكون غير فعالة. من الأجدر القول بأن النظام المؤسسي القديم ساهم في تربية وتكوين الإطار الاداري للسلطة الإمبريالية، لترويض النخبة الإمبريالية الجديدة.

من جهة أخرى يستحضر نيغري وهارت الشركات متعددة الجنسيات التي تساهم في بناء النسيج الأساسي للعالم البيوسياسي، تحت  إطار بعض المظاهر الأساسية، فـ”الرأسمال كانت دائما نظاما في منظور يشمل العالم بأكمله، لكن في النصف الثاني من القرن العشرين عملت الشركات الدولية ومتعددة الجنسيات المالية والنقدية على تأطير العالم بيوسياسيا”[10]. من هنا أمكن القول إن هناك من يعتبر أن هذه الشركات جاءت لتلعب دور المنظمات الإمبريالية والاستعمار في المرحلة السابقة للتقدم الرأسمالي مند الإمبريالية الأوروبية للقرن التاسع عشر، إلى غاية القرن العشرين ويعتقدان بأن هذا الموقف صحيح.

فالشركات العالمية لا يمكن تعرفها بفرض قيادة مجردة، وبتنظيم النهب الصافي والبسيط وبالتبدلات اللاّمتكافئة، فهي تهكيل وتنظم مباشرة المناطق والسكان وتحاول أن تجعل من الدول الأمم أدوات لتحقيق طموحاتها الاقتصادية، فالشركات متعددة الجنسيات تحاول أن توزع قوة العمل مباشرة على مختلف الأسواق العالمية الجديدة وهو الجهاز المعقد الذي ينتقي الاستثمار ويدبر القوى النقدية والاقتصادية: بعبارة أخرى البنية البيوسياسية الجديدة.

هكذا يلاحظ هاردت ونيغري أن الصورة الكاملة للعالم تقدم من منظور مالي، بناء على هذا التصور يمكننا التميز بين أفق القيم وآلة التوزيع، وآلية التراكم ووسيلة التواصل، السلطة والخطاب. إذ لا تنتتج القوى الاقتصادية والمالية الكبرى سلعا بل تنتج أيضا أدوات، هذه الأدوات تكون فعالة في إطار سياق بيوسياسي؛ حاجات، علاقات اجتماعية، أجساد، عقول.. مما يستدعي القول بأنهم ينتجون منتجين، في مجال البيوسياسي فالحياة مرتبطة بالعمل على الإنتاج وهذا الأخير من أجل الحياة، ” فنحن أمام خلية كبيرة حيث الملكة تراقب باهتمام الإنتاج وإعادة الإنتاج، كلما عمقنا التحليل كلما اكتشفنا الشيء الكثير على مستويات عديدة “[11]. يحتوي التقدم على مستوى علاقات التوصل خيطا عضويا مع ظهور النظام العالمي الجديد: يتعلق الأمر بعبارة أخرى بالنتيجة والسبب المنتج والمنتوج فالتواصل لا يعبر فقط بل يهيكل حركة العولمة.

لوحة: فؤاد حمدي

لا ينسى نيغري وهاردت دور الشركات الإعلامية الذي يتجلى في دمج المخيال والرمز في البنية البيوسياسية، وجعله في خدمة السلطة، بناء على هذا الدور عالج نيغري وهاردت مشكلة شرعية النظام العالمي الجديد، إذ يؤكدان على أن هذا الأخير لم ينشأ عن طريق اتفاقيات دولية كانت سابقا أو عن طريق المنظمات الفوق الوطنية[12]، بل تنبني شرعية الأجهزة الإمبريالية على الأقل في جزء منها على الشركات الإعلامية التي تعطي صورة صافية عن السلطة، وهذا الشكل من الشرعية على أي شيء خارج نفسه والذي يكون دون فائدة بتطور خطابه الذاتي للتصديق الذاتي. وبما أن نيغري وهاردت يعتبران التواصل أحد المجالات المهيمنة على الإنتاج، ويوثر على المجال البيوسياسي برمته، فإن التواصل والسياق البيوسياسي متواجدان معا، الشيء الذي يجعل هاردت ونيغري يبتعدان عن الأرضية الفلسفية التي يتكلم عنها هابرماس، وبالفعل عندما طور هابرماس نظريته في الفعل التواصلي مبرهنا على شكله الإنتاجي ونتائجه الأنطولوجية التي يمررها، فهو ينطلق دائما من وجهة نظر خارجية الأثار المعولمة من منظور الحياة والحقيقة التي تعارض استعمار الفرد من طرف الإعلام[13]. في حين يرى نيغري وهارت أن العمل التواصلي وبناء الشرعية الإمبريالية يسيران جنبا إلى جنب، فالجهاز الإمبريالي له مصداقية ذاتية أي منهجية ويبني هذا الجهات بناءات اجتماعية تفرغ أي تناقضات من محتواها، وأردفا أن أي نظرية قانونية تعالج شروط ما بعد الحداثة عليها أن تأخذ بعين الاعتبار هذا التعريف الجوهري والجديد للعمل التواصلي للإنتاج.

بناء عليه، يصل نيغري وهاردت إلى أن الجهاز الإمبريالي يستمر بإنتاج سياق توازنات أو باختزال التعقيدات، مما لا ريب فيه أن لمشروع المواطنة العالمية غاية تتركز على فاعلية تداخله في أيّ عنصر من علاقات التواصل ويذوّب كل الهويات والتاريخ في إطار ما بعد حداثي، إلاّ أنه على عكس تصور فوكو يرى هارت ونيغري أن الآلية الإمبريالية عوض أن تقضي على النظريات والسرديات الكبرى تعمل على إحيائها في الواقع، حتى تتمكن من شرعنة وتصديق على سلطتها الخاصة. وهذا التطابق بين الإنتاج ومن خلال الخطاب، الإنتاج اللساني للحقيقية والخطاب ذاتي التصديق يكمن المفتاح الرئيسي لفهم فعالية مصداقية وشرعية القانون الإمبريالي.

إن الحجج التي قدمها نيغري وهاردت حول الآليات الجديدة لممارسة السلطة أقل إقناعاً من تلك التي قدمها ميشال فوكو هذا من جهة. أما من جهة ثانية، فإننا نلاحظ أن العلاقة بين تحليل فوكو وتحليل نيغري وهاردت بالرغم من أنها تحليلات قد تبدو في الظاهر متناقضة إلاّ أنها في جوهرها علاقة تكاملية. لماذا؟ لأننا نجد السلطة عند فوكو عمودية؛ بحيث أنها موجودة في كل مكان، لكن عند نيغري وهاردت نجدها أفقية؛ لأنهما يتحدثان عن المؤسسات التي تمارس هذه السلطة، ولعل ما نعيشه في العالم العربي خير دليل على أن التحليلين يتكاملان في الجوهر، فلا أحد يمكن أن ينكر أن الأنظمة العربية هي أنظمة تبعية لإمبريالية العالمية وتتحكم فيها عبر مؤسساتها المالية، ونقصد هنا صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، هذه المؤسسات تُخضع الدول لإملاءاتها بعد أن تغرقها في الديون، كما تمارس السلطة بشكل عمودي داخل هذه الدول عبر مجموعة من الأليات التقليدية (السجن، المستشفى…)، والحديثة؛ إذ تعتبر سائل التواصل الاجتماعي آلية من بين آليات الرقابة وكذا مجموعة من التطبيقات التي ارتأت جملة من الدول أن تعتمدها بمبررات أخرى مثل (البطاقة الوطنية الإلكترونية، التطبيقات التي تم فرضها للحد من فيروس كورونا)كلها آليات جديدة لخلق مجتمع الرقابة.

خاتمة

يمكننا أن نعتبر أن النقد الذي وجهه كلّ من نيغري وهاردت لأطروحة ميشال فوكو، هو محاول إعادة الاعتبار للتحليل الماركسي لطبيعة السلطة، فبعد نجاح فوكو في أن يعرفنا على الانتقال المهم الذي عرفته المجتمعات الغربية الحديثة من السلطة الانضباطية إلى البيوسلطة باعتبارها البرديغم الجديد للسلطة، نجد نيغري وهاردت يدافعان عن أن السلطة عبارة عن مجموعة مؤسسات وأجهزة قائمة على الإخضاع، ولعل إجابتهما عن السؤال حول الكيفية التي يمكن للعناصر السياسية والسيادية للأجهزة الإمبريالية أن تتشكل خير مثال لارتباطهما بالتحليل الماركسي حيث يذهبان إلى أن مؤسسات الأمم المتحدة بوكالاتها وصناديقها العالمية للاقتصاد والتجارة أي صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والشركات متعددة الجنسيات تساهم في بناء النسيج الأساسي للعالم البيوسياسي وما تلعبه المؤسسات الإعلامية من دور مهم في  ذلك.

 

المراجع والمصادر المعتمدة

• فوكو، ميشال. مولد السياسية الحيوية، ترجمة الزواوي بوغوره، الدوحة- قطر: منتدى العلاقات العربية والدولية،2018.

• فوكو، ميشال. جنيالوجيا المعرفة، ترجمة عبدالسلام بنعبد العالي الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2008.

• فوكو، ميشال. يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره، بيروت: دار الطليعة، 2003.

• نيغري، أنطونيو ومايكل هاردت، البيوسلطة في مجتمع المراقبة، ترجمة نورالدين علوش، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد 58\59-2017.             • نيغري، أنطونيو ومايكل هاردت، الإمبراطورية “إمبراطورية العولمة الجديدة “، ترجمة فاضل جتكر، الرياض: العيكان، 2002.

[1] أنظر: ميشال فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2008) ص105.

[2] ميشال فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره (بيروت: دار الطليعة، 2003)، ص236.

[3] ميشال فوكو، مولد السياسية الحيوية، ترجمة الزواوي بوغوره (الدوحة- قطر: منتدى العلاقات العربية والدولية،2018)، ص 115.

[4] ميشال فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره (بيروت: دار الطليعة، 2003)، ص238  .

[5] أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، الإمبراطورية “إمبراطورية العولمة الجديدة “، ترجمة فاضل جتكر(الرياض: العيكان، 2002) ص58.

[6] نفس المرجع، ص59.

[7] أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، البيوسلطة في مجتمع المراقبة، ترجمة نورالدين علوش، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد 58\59-2017، ص 87

[8] نفس المرجع، ص88.

[9] أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، الإمبراطورية “إمبراطورية العولمة الجديدة “،ترجمة فاضل جتكر(الرياض: العيكان، 2002) ص522.

[10] أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، البيوسلطة في مجتمع المراقبة، ترجمة نورالدين علوش، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد 58\59-2017، ص89.

[11] أنطونيو نيغري ومايكل هاردت، البيوسلطة في مجتمع المراقبة، ترجمة نورالدين علوش، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد 58\59-2017، ص85.

[12] نفس المرجع، ص89

[13] نفس المرجع، ص90

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.