فلسفة إسلامية أم فلسفة عربية؟
فلسفة إسلامية أم فلسفة عربية؟ سؤال قد يثير استنكارا أو سجالاً أو ربما اعتراضاً. وبما أن السؤال سجالي فإنه لا يؤدي للوهلة الأولى إلى تقديم جواب قاطع، ذلك أنه في ذاته فرضية مفتوحة على مجال صراع التناقضات الدلالية. ولا شك عندي أن من الممكن في هذا السياق أن يطرح أرنست رينان نموذجاً مرجعياً لوضع صدقية مصطلح “الفلسفة الإسلامية” المؤسس استشراقياً على المحك.
يقول رينان “تعاليم الإسلام تتنافى مع البحث والنظر الطليق، وإنها تبعاً لهذا لم تأخذ بيد العلم ولم تنهض بالفلسفة ولم تنتج إلا انحلالاً موغلاً واستبداداً ليس له مدى”. وتأسيساً على هذا الزعم يبني رينان نظريته المستمدة من النزعة المركزية الإثنية الأوروبية في القرن التاسع عشر. فالفلسفة “إسلامية” لأنها تنتمي لحضارة فقه. وهذه الحضارة عاجزة عن أن تكون أكثر من واسطة لنقل المعرفة، وبهذا المعنى فإنها عاجزة عن الابتكار فلسفيا، فهي مجرد ناقل للحضارة اليونانية.
ومن المؤسف أن محمد عابد الجابري يعزز هذا الادعاء في كتابه “تكوين العقل العربي” فنجده يقول “إذا جاز لنا أن نسمّي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها حضارة فقه، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنها حضارة فلسفة، وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها حضارة علم وتقنية” (محمد عابد الجابري “تكوين العقل العربي”، دار الطليعة، بيروت، ص 96).
وهذا الادعاء الاستشراقي المنزع، يكرر في فحواه جزم أحمد أمين في “ضحى الإسلام” بأن فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية “من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد كانوا كالمفوضية اليونانية في البلاد الإسلامية”.
وكذلك جزم عبدالرحمن بدوي في كتابه “التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية” بأن الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية لذا لم يقدر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل ولم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية وأن تنفذ إلى لبابها”، (نقلا عن جورج طرابيشي، “مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام”، دار الساقي بيروت، ص 16-17).
وهكذا فإن نسبة الفلسفة إلى الدين تجعل من الممكن صك مفهوم “الفلسفة الإسلامية” السائد والذي يعني عدم وجود فلسفة في الحضارة العربية الإسلامية بالمعنى المتداول، وبالتالي خلوّها من الابتكار، واقتصارها على أن تكون مجرد ناقل رديء للفلسفة اليونانية.
ولا شك عندي أن مفهوم “حضارة الفقه”، وهو كما أشرنا صناعة استشراقية بامتياز، يهدف إلى تعزيز الاستيهامات الرغبية للمركزية الإثنية الأوروبية. ولكنّ هذه “الجغرافية الفلسفية الخيالية” على حد تعبير جورج طرابيشي “اصطدمت عند التصدي لرسم خريطتها الفعلية بعقبة كأداء: فنهر الفلسفة اليونانية الذي انتهى فعليا إلى أن يصب في المجرى الأوروبي الغربي ابتداء من القرن الثاني عشر كان قبل ذلك قد مر بتحويلة شرق أوسطية لا سبيل إلى المماراة فيها: الحضارة العربية الإسلامية التي كانت هي الأخرى مع استطالتها الفارسية حضارة فلسفة في مظهر من مظاهرها على الأقل” (المصدر نفسه، ص 14).
والمقصود بالتحويلة الشرق أوسطية أنها تحويلة عربية اللسان على أقل تقدير. فهي فلسفة عربية من هذا المنظور الذي ينطبق من حيث النسبة، كما سنرى، مع صنيع الإثنية المركزية الأوروبية التي تنسب الفلسفة إلى ما تدعوه بالمعجزة اليونانية. هذه المعجزة بمرجعيتها النرجسية المنزع، تتجاهل أن الفلسفة اليونانية نفسها لم تكن يونانية من حيث الدلالة الإثنية، بقدر ما كانت مكتوبة باليونانية، وهذا التجاهل المسكوت عنه في مصادر الفلسفة المتداولة والذي سمح بالتصدي لمهمة الإنكار.
وهو إنكار يحدده طرابيشي بحق إذ يقول إن من أبرز من تصدى له هو أرنست رينان (1823 – 1892) أحد كبار معماريي المركزية الإثنية الأوروبية وصائغ أسطورة تفوق الجنس الآري ودونية الجنس السامي في القرن التاسع عشر. تنسب الفلسفة إلى ما تدعوه أسطورة تفوق الجنس الآري ودونية الجنس السامي. وتأسيساً على هذه الدعوة القائلة إن “البحث الشجاع والفلسفي عن الحقيقة” هو قسمة العرق الهندي الأوروبي” فإن الجنس السامي لم يؤت “ملكة النظر العقلي”. يقول رينان “من العسف أن نطلق اسم فلسفة عربية على فلسفة لا تعدو أن تكون استدانة من اليونان وما كان لها أيّ جذر في شبه الجزيرة العربية.
فهذه الفلسفة مكتوبة بالعربية ليس إلا، ثم إنها لم تزدهر إلا في الأجزاء النائية من الإمبراطورية الإسلامية، في إسبانيا والمغرب وسمرقند، وبدلا من أن تكون نتاجاً طبيعيا للروح السامي فقد مثلت بالأحرى رد فعل عبقرية فارس الهند أوروبية على الإسلام، أي على ذلك النتاج الأكثر خلوصاً للروح السامي” (المصدر نفسه، ص 15).
هذه الركيزة العرقية، اللغوية المنزع، تتمثل في عبارة “الحضارة الكلاسيكية”، أي محاولة ربط الأوروبيين المتحدثين باللغات الهندوأوروبية، بـ”معجزة الفلسفة اليونانية” التي يزعم استحالة ردها إلى أصل أبعد منها، فضلاً عن الكلام عن النموذج الآري، مالك امتياز “التفكير بالعقل في العقل”.
هذه الركيزة يروز دعواها ويفندها مارتن برنال في كتابه “أثينا السوداء” البالغ الأهمية والكاشف عن خطل الزعم بوجود نموذج آري أصلاً. يقول برنال إن الكلاسيكيين اليونان لم يعرفوا شيئاً عن وجود نموذج آري “على الرغم من اعتزازهم بأنفسهم وبإنجازاتهم فإنهم لم يروا في مؤسساتهم السياسية وعلمهم وفلسفتهم أو دينهم أيّ أصالة. فقد اقترضوا ذلك كله… من الشرق عموماً، ومن مصر بخاصة” (مارتن برنال “أثينا السوداء” بالإنكليزية).
والحال أن موقف رينان من اللغة العربية وما يستبطن الموقف من تناقض هو بمثابة “كعب آخيل” الكاشف، إذ يوضع على المحك، عن تهافت دعواه من المنظور المعرفي السائد في القرن العشرين. فقد قرأت الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، قرأت نفسها قراءة نرجسية كحضارة عقل مطلق، حضارة قوة مالئة للفضاء المعرفي. وأما الآخر، النقيض، فهو الإسلام الذي صنعه الاستشراق وعلاقته التبادلية مع اللغة العربية.
وتبعاً لذلك فإن الفلسفة تصير فلسفة إسلامية لأن “من تفلسف فقد تزندق” كما يقول المثل الشعبي. وفضلا عن ذلك فإنها ليست فلسفة عربية، لأن الفلاسفة، حسب هذا الزعم ليسوا عرباً، وإن كتبوا بالعربية.
وهكذا يلاحظ طرابيشي بحق أن الدعوة الرينانية القائمة على ركيزة عرقية لغوية تنطوي على تناقض داخلي عميق فهي إذ ترمي الفلسفة العربية بأنها مكتوبة بالعربية ليس إلاّ “تتجاهل أن الفلسفة اليونانية نفسها ما كانت يونانية بالمعنى الإثني للكلمة بقدر ما كانت مكتوبة باليونانية”. “وإذا كان رينان يلاحظ أنه بين الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم عرب ما كان ثمة وجود تقريباً إلا لواحد من أصول عربية هو الكندي، بينما كان سائر الآخرين فرساً ومن وراء النهر، وإسباناً، ومن أهالي بخارى وسمرقند وقرطبة وإشبيلية” (أرنست رينان، نقلا عن جورج طرابيشي)، فإننا نستطيع أن نلاحظ بدورنا أن أكثر الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم يونانيون ما كانوا يونانيين وأن أثينا نفسها لم تنجب سوى فيلسوفين اثنين سقراط وأفلاطون، وأن معظم الفلاسفة الأثينيين كانوا على حد تعبير نيتشه من الأغراب.
وإذا كان العرق، كما يفترض رينان مقولة لغوية، فكيف يمكن أن يصنف عشرات الفلاسفة من أصول سورية ومصرية الذين كتبوا باليونانية في عداد الجنس الآري، ثم يمتنع عن تصنيف عشرات الفلاسفة من ذوي الأصل الفارسي أو الصفوي في عداد الجنس السامي مع أنهم كتبوا بالعربية؟ ولماذا تستذكر لفلاسفة الإسلام أصولهم الإثنية وتنسى لفلاسفة اليونان الأصول عينها؟” (المصدر نفسه).
توقفت عند هذا الطرح لأنه الأبرز والأعمق الذي يتناول هذا الموضوع، أعني علاقة مفهوم الفلسفة الإسلامية بالفلسفة، وتزمين هذه العلاقة من حيث انتمائها لإثنية الاستشراق العرقية واللغوية في القرن التاسع عشر. وكل ما فيه يشير سلباً أو إيجاباً إلى عمق هذه العلاقة ونتائجها التي يعبر عنها إدوارد سعيد في وقت لاحق، بالتذكير أنه لمّا كانت المعرفة بالشرق قد تولدت عن القوة فإنها تؤدي إلى خلق النقيض أي إلى خلق الآخر.
يقول “اللغة التي يستخدمها كرومر وبلفور تصوّر الشرقي في صورة شيء يصدر المرء عليه الحكم كما يحدث في المحكمة، أو شيء يؤدّيه المرء كما يحدث في المدرسة أو السجن، أو شيء يرسم له المرء صورة توضيحية كما نرى في دليل مصور في علم الحيوان. ومعنى ذلك أن الشرقي في كل حالة من هذه الحالات تحتويه وتمثله أطر مسيطرة” (إدوارد سعيد في: خلدون الشمعة: “المختلف والمؤتلف” منشورات المتوسط، ميلانو ص 251).
الشرقي هنا هو العربي، والعربي وفقاً للسياق الريناني، هو السامي. ولأن الحضارة الإسلامية هي جماع حضارات، أمكن صك مفهوم الفلسفة الإسلامية، ومن ثم الزعم أن الحضارة العربية الإسلامية حضارة فقه ليس إلا. وما تتضمنه من فلسفة هو من صنع الآريين… وهذا يتماهى مع فرضية رينان العرقية حول الجنس السامي “المنجب لديانات ولنبوات ومذاهب توحيد ولكنه مجدب فلسفياً” (أرنست رينان نقلا عن جورج طرابيشي، المصدر نفسه، إبراهيم مدكور “في الفلسفة الإسلامية”).
ومن الجدير بالذكر أن رينان تلقى تعليما يؤهله ليصبح رجل دين، ولكنه ترك الكنيسة الكاثوليكية في العام 1845. وقد كلّف من قبل الحكومة الفرنسية بتصنيف وثائق حول أصول الدين. وذهب إلى فلسطين بحثاً عن مادة حول حياة المسيح. وانتخب لكرسي اللغة العبرية وعضوية الأكاديمية الفرنسية ولم يتمكن من إجادة اللغة العربية. وقد كان سجال إدوارد سعيد مع أعماله مركزياً في كتابه الثقافة والإمبريالية (إدوارد سعيد في “الثقافة والإمبريالية”، ترجنة كمال أبوديب، دار الآداب).
كما أشار في المصدر نفسه إلى الحوار الذي جرى بين رينان وبين جمال الدين الأفغاني في عام 1883. ويلاحظ سعيد أن ذلك الحوار جرى وفقاً لمصطلحات محددة من قبل رينان. وفيه يحاول الأفغاني تفنيد الدعوة العرقية والثقافية الأوروبية حول الشعور بالنقص لديه، بينما يزعم رينان أن الإسلام أقل شأنا من اليهودية والمسيحية.
كما يرى الأفغاني أن الإسلام “أفضل” وأن الغرب تقدم بالاقتراض من المسلمين، فضلاً عن أن التطور الإسلامي في مجال العلوم سابق زمنياً على النظير الغربي للإسلام، وأنه إذا كان هناك من شيء رجعي في الدين فإن أسبابه تعود إلى عوامل مشتركة بين جميع الديانات، ويعني بذلك عدم إمكان التوفيق بين العلم والدين. ومن الواضح أن العلم هنا يشمل الفلسفة التي تتداخل من حيث المفهوم مع الأدب بشكل عام. ولكن السجال آنف الذكر لا يتطرق إلى الفلسفة على وجه التحديد.
ولا شك عندي أن نصوصاً عربية كثيرة، تعود إلى العصر الوسيط على الأغلب، قرأت بمعزل عن مفهوم الأدب العربي التعددي النزعة والذي يتسم بأنه عابر للأنظمة المعرفية (Interdisciplinarity) وهذا يعني أن الفلسفة كانت ماثلة دائماً في نصوص أدبية، وأحد الأمثلة البارزة على ذلك كتاب “المقابسات” لأبي حيان التوحيدي علم القرن الرابع الهجري، في المقابسة التي تسجل المناظرة التي جرت بين أبي سعيد السيرافي وبين متى بن يونس القنائي الفيلسوف، وهي مقابسة اهتم بها المستشرقون، ومنهم باحث الفلسفة الإنكليزي أوليفر ليمان، إلا أنهم اقتصروا باهتمامهم على رصد المواجهة بين داخل عربي وخارج يوناني، بين اللغة العربية والمنطق اليوناني.
هذه المقابسة التي تسجل مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات، هي في حقيقتها المضمرة تشير ضمناً إلى مواجهة بين المنطق العربي والمنطق اليوناني. المنطق العربي المستنبط من اللغة العربية يواجه المنطق اليوناني. وأحد الأمثلة على أهمية هذه المقابسة التي تؤرخ لسجال يذكر بالمنطق اللساني، المقطع التالي:
“قال أبو سعيد متوجهاً إلى متى بن يونس القنائي فيلسوف (دار الحكمة) المنوط به ترجمة الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية: حدثني عن المنطق، ما تعني به؟ فإن فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه ورد خطئه على سنن مرضيٍّ، وعلى طريقة معروفة.
قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يُعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح.
فقال له أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالعقل. هبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن، من لك بمعرفة الموزون، أهو حديد أو ذهب أو شبّةٌ أو رصاص؟ وأراك بعد معرفة الوزن فقير إلى معرفة جوهر الموزون، وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدها، فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعاً يسيراً من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه.
إذا كان المنطق وضعه رجلٌ من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها، وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه حكما لهم وعليهم، وقاضيا بينهم، ما شهد له قبلوه، وما أنكره رفضوه؟
قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث في الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح الخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم” (أبو حيان التوحيدي: “المقابسات”، شرح وتحقيق حسن السندوبي. ص 55.(
هذا الاحتجاج بالعقل يذكر بتمييز في نص آخر من المقابسات، نص يتسم بالطرافة، ينقله التوحيدي، تمييز بين الشريعة وبين الفلسفة:
“الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم، وحتى يزول المرض بالعافية فقط. وأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلاً. وبين مدبر المريض وبين مدبر الصحيح فرق ظاهر، وأمر مكشوف، لأن غاية تدبير المريض أن ينتقل إلى الصحة، هذا إذا كان الدواء ناجعاً، والطبع قابلاً، والطبيب ناصحاً. وغاية تدبير الصحيح أن يحفظ الصحة، وغذا حفظ الصحة فقد أفاده كسب الفضائل وفرغه لها وعرضه لاقتنائها وصاحب هذه الحال فائز بالسعادة العظمى… وإن كسب من يبرأ من المرض بطب صاحبه الفضائل أيضاً فليست تلك الفضائل من جنس هذه الفضائل، لأن إحداها تقليدية والأخرى برهانية، وهذه ظنونة، وهذه متيقنة، وهذه روحانية، وهذه جسمانية، وهذه دهرية، وهذه زمانية” (التوحيدي: المصدر نفسه ص 43).
ربما يقودنا هذا الذي أقدمه إلى البحث في سيرورة إعادة النظر. وهذا يعني إحداث نقلة معرفية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين مصطلح “الفلسفة الإسلامية” صنيع القرن التاسع عشر، وقد تمثل بتفعيل ثلاث فعاليات استشراقية عنصرية المنزع:
- الأولى هي تقليص السلطة المرجعية للحضارة العربية الإسلامية على سلطة فقهاء.
- الثانية هي تسمية الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها، فهي “حضارة فقه”.
- الثالثة هي وصف الحضارة اليونانية بأنها “حضارة فلسفة” لتصير الحضارة الأوروبية “حضارة علم وتقنية”.
وإذا صح تعريف النقد الثقافي بأنه ليس نقداً أدبياً فقط، بل نقد شامل عابر للأنظمة المعرفية، أمكن القول إن القرن العشرين شهد ويشهد نقلة معرفية من النقد إلى النقض، من الحامل اللغوي إلى الحامل المعرفي.
هذه النقلة المعرفية يمكن تقريبها في الأمثلة التالية التي تطرح هنا على سبيل التوضيح وليس التحديد:
- أولا: يستهل كتاب عنوانه “دار الحكمة: كيف حوّل العرب الحضارة الغربية” بتحديد المصطلحات. وقد اختار جوناثان ليونز أن يستعمل مصطلح “العلم العربي” ويعني به الفلسفة العربية من بين أشياء أخرى، ليوصل إلى القارئ صورة عن وسط ثقافي معقد يمثل العالم الإسلامي الوسيط بدلاً من استعمال مصطلح “العلم الإسلامي”، هذا على الرغم من إشارته إلى تعددية الأجناس التي صنعته ولم تكن تقتصر على العرب وحدهم.
وتعليل ذلك كما يقول المؤلف أن ما دعاه بـ”العلم العربي” ألف باللغة العربية وتحت حكم قادة عرب. (جوناثان ليونز، دار الحكمة: “كيف حوّل العرب الحضارة الغربية” بلومزبري برنت، نيويورك، برلين، لندن 209).
- ثانياً: الانتصار لمفهوم تعبير الحضارة العربية الإسلامية باللغة العربية يتعلق بسِفر مهم صدر عام 2005 ضمن سلسلة إصدارات جامعة كيمبردج تحت عنوان “دليل كيمبردج للفلسفة العربية”. وهو يشير إلى كونه دليلاً يضم الفلسفة التي كتبت باللغة العربية، في العالم الإسلامي كله. وبذلك يمثل الدليل واحداً من أهم الأنظمة المعرفية الكبرى في الفلسفة الغربية.
كما يشير إلى أن الفلسفة العربية التي استلهمت أعمالاً فلسفية يونانية فضلاً عن الفقه الإسلامي، هي من صنع فلاسفة عرب (أي يكتبون بالعربية) بدءاً من القرن التاسع الميلادي. وقد أنتجت أفكاراً تنطوي على أهمية كبرى فلسفياً وتاريخياً.
ويلفت الدليل النظر إلى أن أثر حركة الترجمة إلى اللغة العربية تحديداً ليستنتج أنها فلسفة عربية لكونها بدأت بترجمة فكر اليونان إلى اللغة العربية.
وأما تسميتها “فلسفة عربية” فيعود إلى أن المشتغلين فيها، وبحركة الترجمة، كانوا من المسيحيين واليهود. وأهم المترجمين كان حنين بن إسحق وابنه. وفضلاً عن ذلك هناك ابن ميمون اليهودي الذي كتب بالعربية.
- ثالثاً: “معجم كيمبردج للفلسفة” من تحرير الفيلسوف روبرت أودي يقدم “الفلسفة العربية” بتعريف مفاده أنها الفلسفة العربية والتي أنتجها فلاسفة من خلفيات إثنية ودينية متعددة وعاشوا في مجتمعات كانت الحضارة الإسلامية فيها هي السائدة، وكانوا يتماهون مع هذه الحضارة.
ويرى محرر هذا المصطلح أن عبارة “الفلسفة الإسلامية” مضللة، فهي توحي بوجود مضمون ديني محدد، فضلا عن أن هذا المضمون ليس دينياً بالضرورة. ويضرب على ذلك مثالاً بالفلسفة اللاتينية في القرون الوسطى، وكيف أن هذه الفلسفة ليست فلسفة مسيحية. (دليل كيمبردج للفلسفة، ‘بالإنكليزية’ تحرير روبرت أودي، لندن، الطبعة الثانية 1999).
- رابعاً: يلجأ البروفيسور بيتر أدامسون أستاذ الفلسفة في كينغز كوليدج ببريطانيا وLMU بميونيخ في كتابه “الفلسفة في العالم الإسلامي: مقدمة قصيرة جداً” إلى التساؤل حول السبب الذي يجعل الباحث يتحدث عن “الفلسفة في العالم الإسلامي”، وليس “الفلسفة الإسلامية”، يقول إنه كانت لديه خيارات أخرى يمكنه اعتمادها: “الفلسفة العربية”، أو حتى “الفلسفة الإسلاموية” لولا أن هذه الكلمة الأخيرة (الإسلاموية) كلمة غير حقيقية، وغير موجودة. والواقع هنا أن مصطلح “الفلسفة الإسلامية” تكمن مشكلته في أن العديد من الفلاسفة في العالم الإسلامي لم يكونوا مسلمين.وأما مصطلح “الفلسفة العربية” فتكمن مشكلته في أن الفلسفة في العالم الإسلامي كتبت بلغات غير عربية وخصوصاً السريانية والعبرية والفارسية. وفي المآل الأخير يبقى مصطلح “الفلسفة العربية” خياراً يستوعب ابن ميمون اليهودي الذي كتب بالعربية (الفلسفة في العالم الإسلامي، أوكسفورد يونيفرستي برس- أكسفورد ص 1 ‘بالإنكليزية’).