فلسفة العناد
هل هذا يعني أن اليسار، الذي ينتج الكراهية ويتغذى عليها، عدمي مثل اليمين، الذي ينتج الكراهية، ويتغذى عليها. وهل ثمة قرابة معرفية وأخلاقية بين الكراهية والعدمية؟! تكثف كره الاستعمار والإمبريالية والرجعية، والصهيونية أيضاً في كره الرأسمالية، بسبب التباسات معرفية وفوضى مفهومية لا تميز الحدود بين المفاهيم، ولا تعقل العلاقات بين الدَّوال ومدلولاتها، فغدت مقولة «الإمبريالية أعلى مراحل الاستعمار» مثل مقولة «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، على سبيل المثال، دونما تفريق بين إمبريالة الدول الرأسمالية الحديثة، وإمبريالية ما قبل الرأسمالية، أو بين الاستعمار القديم والاستعمار الحديث. العيب ليس في اليسار واليساريين بالطبع، بل في اليوتوبيا القابلة للتحول إلى أيديولوجيا تنتج الكراهية والعنف.
كان يمكن أن يكون عنوان هذه المقاربة فلسفة المستقبل أو الاستعارة من المستقبل، استعارة مثال ملهم، ذي قيمة معيارية خالصة، حاكمة على ما عداها وحاكمة على الواقع، مع أن»الحاضر هو اللحظة التي تملأ الوجود»؛ ليس هنالك مستقبل لا يحدث الآن؛ كل ما يحدث في العالم يحدث لكل من يشارك في العالم. أو كان يمكن أن يكون العنوان فلسفة الهروب إلى الأمام، نحو الشيوعية بقفزة واحدة، بعد نشر العار، (عار الرأسمالية)، على الملأ.
الإشكالية التي تنم عليها هذه المقدمة يبلورها السؤالان الآتيان: 1 – هل تُستنفَد الرأسمالية في الدولة/الدول «الرأسمالية» القائمة هنا وهناك، مع أن الدولة (بالمفرد والجمع) لا تزال دولة سياسية ناقصة، كما وصفها ماركس، في سياق تمييزها من الدولة الديمقراطية، أو الدولة المادية، ولا تزال دولة قومية بقدر ما هي رأسمالية وأكثر؟
2 – هل استنفدت الرأسمالية شروط وجوها وإمكانات نموها وتطورها، وتبلور نقيضُها التاريخي في أحشائها؟ يمكن إعادة صوغ السؤالين بوضع الديمقراطية الليبرالية محل الرأسمالية، مع افتراض أن الديمقراطية الاجتماعية الممكنة شكل متقدم على/وأكثر عدالة من الديمقراطية الليبرالية المتحققة بالفعل، في غير مكان. نطرح هذين السؤالين المركبين للتفكير في اليسار الجديد والشيوعية الجديدة، كما يدعو إليهما سلافوي جيجك وغيره. القومية، كالدين، ليست مضادة للرأسمالية، ولكنها ليست الرأسمالية، وكذلك الدين.
كيف يمكن تفكيك مفاهيم الدولة الرأسمالية والدولة القومية والدولة الدينية، ورفع الالتباس بين الرأسمالية والقومية والدين؟ وفي أيّ أفق ترتسم الشيوعية؟
يقول جيجك «تظل الفرضية الشيوعية الفرضيةَ الصحيحة، وأنا لا أرى سواها. إذا كان لا بد من التخلي عن هذه الفرضية فما من عمل جدير فعله طلباً لتحرك جماعي» [1]. و»إذا تصورنا الشيوعية على أنها «فكرة خالدة» فهذا ينطوي بداهة على أن الحالة التي تولدها ليست أقل خلوداً. بمعنى آخر إن العامل المضاد الذي تستجيب له الشيوعية سيكون موجوداً دائماً. هي خطوة واحدة فقط لتفسير «تفكيكي» للشيوعية بوصفها حلم المجيء، إلغاء كل تمثيل معزول، الحلم الذي يحيا على استحالته» [2]. «كانت المشكلة الحاسمة العظيمة للماركسية الغربية النقص في الموضوع أو العامل الثوري. لمَ لا تكمل الطبقة العاملة العبور بواسطتها لأجلها وتنصب نفسها أداة ثورية؟ هذه المشكلة هي الدافع الرئيس للتحول إلى التحليل النفسي رغبة في شرح الآليات الشهوانية (الليبيدية) اللاواعية التي كانت تمنع صعود الوعي الطبقي، الآليات المحفورة في وجود الطبقة العاملة، أو في (الحالة الاجتماعية). بهذه الطريقة أمكن إنقاذ حقيقة التحليل الاقتصادي الاجتماعي الماركسي ولم يكن هناك حاجة للتنازل لنظريات منقَّحة بشأن صعود الطبقات الوسطى». يبدو هذا النص ملتبساً، إما بسبب الترجمة، وإما بسبب الحماسة، إذ يبدو الموضوع هو نفسه العامل الثوري، والطبقة العاملة «أداة ثورية» [3].
هل تختلف هذه النظرة الشيوعية الجديدة، اليسارية الراديكالية، إلى الطبقة العاملة على أنها أداة ثورية، عن النظرة الرأسمالية، التي لا ترى في هذه الطبقة سوى أداة منتجة؟ القاسم المشترك بين النظرتين أو الرؤيتين هو «الطبقة العاملة أداة»، وكذلك «حلفاؤها الطبيعيون». النظر إلى البشر على أنهم أدوات ووسائل، هو أساس التوتاليتارية والتسلط، حتى عندما يوصف الحزب الثوري بأنه «أداة ثورية للطبقة العاملة وحلفائها الطبيعيين»، إذ بينت جميع التجارب الثورية أن الحزب يستنفد الطبقة، ويحل محلها، أي أن الأداة تحل محل البشر، أو أن البشر مجرد أدوات للسلطة. نحن نعرف ذلك جيداً في سوريا، فالحزب القائد والأحزاب الثورية المتحالفة معه والمنظمات الشعبية كلها أدوات للسلطة مؤسساتٍ وأفراداً.
قاد جيجك حملة على ترامب، وتضامن مع من تظاهروا من الأميركيين احتجاجاً على فوزه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، في حين يفترض منهجه العكس، لإبراز الفساد في مؤسسات أكبر دولة رأسمالية وإفلاس ليبراليتها وتفسخ ديمقراطيتها
يضيف جيجك «أزعم هنا أن فكرة الشيوعية تستمر، إنها تنجو من إخفاقات تحقيقها، كشاهد يعود مراراً وتكراراً في إصرار لا نهائي، أفضل تصوير له في كلمات بيكت المقتبسة من ووردسوورث (حاول مجدداً. افشل مجداً. افشل بشكل أفضل)». وإلى ذلك يرى جيجك أن اليسار يحتاج اليوم إلى «جرعة من النموذج اللينيني-اليعقوبي» [4]، أي إلى جرعة من العنف الثوري والإرهاب الثوري.
ولكنه يقول غير ذلك في كتابه «سنة الأحلام الخطيرة» «علينا أيضًا أن نتجنَّب ببساطةٍ ذلك الإغواء الذي يجعلنا نعجب بالجمال المطلق للانتفاضات المحكوم عليها بالفشل … ما على المرء أن يركز فيه هو النتائج التي يخلّفها الفشل وراءه» [5]. و»إذا أردنا إنقاذ ما ضاع في الديمقراطية الغربية نحتاج إلى تحوّل راديكالي نحو اليسار، يسار عقلاني، يبتعد عن الشّيوعية القديمة». هذا يعني أن اليسار الليبرالي غير عقلاني، متواطئ مع الرأسمالية ويعمل وفقاً لقواعدها. وربما يحتاج إلى مساعدة التحليل النفسي، للكشف عن الآليات الليبيدية، التي تجعله كذلك. ولكن ماذا عن اليسار غير الليبرالي، الذي تمثله الأحزاب الشيوعية؟ نعتقد أن اللينينية والماوية والغيفارية.. شكلت كل منها، بطريقتها الخاصة، عقبة معرفية أمام التنظير اليساري، لأن كلاً منها كرست ماركس نبياً والماركسية عقيدة. ولذلك، نعتقد أن جيجك لم يستطع الإفلات من شباك العقيدة وإغواء الدعوة أو التبشير، فهو أدلوجي (أيدولوجست) وسياسي، أكثر منه فيلسوفاً. الفلسفة تأتي متأخرة دوماً، وبومة منيرفا لا تطير إلا في الظلام.
«العداء المركزي للرأسمالية»
لا بد من التوقف عند العداوة، التي تحتل مكان السياسة، وتبتلعها. العداوة تستوجب القضاء على الخصم أو إرغامه وقهره، ولا تنتهي إلا بذلك، إذا كان لها أن تنتهي، وهيهات. يمكن أن ننسب إلى لينين اعتبار العداوة للرأسمالية معياراً أخلاقياً، لا يزال معمولاً به لدى اليسار الماركسي إلى اليوم، مع أن «الرأسمالية صارت عالمية»، وكل بلد يفكر في عزل نفسه عنها سيسبب لنفسه مشاكل وأزمات، كما يقول جيجك نفسه.
مع قباحة الرأسمالية واعتبارها شراً مطلقاً، يبدو العالم، في نظر جيجك، مجالا مغلقاً تتخابط فيه الرأسمالية، التي تحتل مركز العالم، وتبسط ظلها على أطرافه، مع جميع منتجاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية. الحركات الاجتماعية والسياسية والثقافية، اليمينية منها واليسارية والأصوليات والحركات العنصرية والفاشية الإسلامية والحركات التحررية تصب كلها معاً في «العداء المركزي للرأسمالية»، باستثناء الحركة النسوية، التي توظفها الرأسمالية لأغراضها.
هل الفلسفة وجهة نظر شخصية، في موضوع معين أو «حدث» تاريخي، كالثورة الفرنسية أو كومونة باريس أو الثورة الهاييتية أو البولشفية أو الخمينية أو «ثورة ماو الثقافية» أو تفجير برجي التجارة العالمية…؟ وهل فوز ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية يندرج تحت مقولة «الحدث»، ويكون موضوعاَ للتفكير الفلسفي، على غرار حوار هابرماس ودريدا حول أحداث الحادي عشر من أيلول؟ ما الحدود الفاصلة الواصلة أو ما المسافة الفاصلة الواصلة بين الفلسفة والأيديولوجيا؟ أنا أميل إلى الحدود من أجل تجاوزها مرة تلو مرة، وإلى مفهوم الحد، لأنه يجعل المحدود يشاركنا، نحن الأفراد، في محدوديتنا، كلَّ مرة.
قاد جيجك حملة على ترامب، وتضامن مع من تظاهروا من الأميركيين احتجاجاً على فوزه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، في حين يفترض منهجه العكس، لإبراز الفساد في مؤسسات أكبر دولة رأسمالية وإفلاس ليبراليتها وتفسخ ديمقراطيتها،وأغلب الظن أنها هي التي وسمت الرأسمالية المعاصرة بميسمها، منذ خطة مارشال، بعد الحرب العالمية الثانية، ووسمت النظام الدولي أيضاً حينما قادت الحرب الباردة على الاتحاد السوفييتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه.
بعد فوز ترامب «آمن» جيجك أن هذا الفوز سبب لإعادة التّفكير في اليسار الليبرالي ونقده. ترامب «صورة عن الأعراض المرضية والقناعات الخاطئة التي يتمسّك بها اليسار الليبرالي». قبل فوز ترامب كان على الفيلسوف أن يختار، ويقرر، (الحرية اختيار وقرار)، اختار جانب اليسار الليبرالي، الديمقراطي. هذا منطقي. لكن هذا المنطقي لا يبدو منطقياً بمعيار الاختيار الأبدأ، الذي يُفترض أنه جذري وجوهري و»خالد»، ويحدد سائر الخيارات، أعني الاختيار بين الرأسمالية والشيوعية. لا بأس أن نلعب مع الرأسمالية، ونحن نعلم أنها هي التي تضع القواعد. نحن نحفر هنا على الخلفية الإبستمية للموقف، الذي يمضي، وقد مضى.
لوحة: عمار عزوز
ولا نعرف كيف وفَّق جيجك بين قوله «في أميركا، النّاس لا يؤمنون بتغيير قريب، يفضّلون الاستقرار مهما كان»، وقوله بعد هذا مباشرة «في الحقيقة، هناك غضب كبير وواسع، حالة معادية للاستقرار.. لكن ما يُدهشني هو عدم قدرة اليسار على استغلال هذا الواقع، عدم قدرته على استثمار هذا الغضب الشّامل للقيام بعمل إيجابي لصالحه». هذا التناقض قد يثلم نقده لليسار الليبرالي، فلعل هذا اليسار عاين الحالة الأولى (تفضيل الاستقرار، وهو الأكثر وضوحاً)، ولم ير في الثانية ما ينبئ بغضب كبير وواسع وشامل، مع أن انتخاب أوباما أشار إلى ميل ما إلى التغيير، لكنه ليس على النحو الذي يصفه جيجك. يحضرنا هنا تذمر مفكرين أميركيين من اتساع دائرة عدم المبالاة بالشؤون العامة، في الأوساط الأميركية، وقد عزاه بريجنسكي إلى ما سماه «رضاعة التسلية»، وفائض الحرية الفردية «المشرعة ذاتياً».
يقدم جيجك نفسه سياسياً وداعيةً شيوعياً وناقداً ثقافياً عميقاً وملهما، معارفه نوع من المرجع الغامض الذي يعطي آراءه سلطة، كما يقول هو نفسه في حواره مع باديو،[6]. ولكن من منظوره وموقعه اللذين يشطران العالم شطرين متناقضين، وعلينا أن نختار، ونقرر: إما الرأسمالية، التي لم تعد تجدي معها لا الديمقراطية ولا الأنسنة ولا ضغوط المجتمع المدني من أجل المساواة والحرية والعدالة.. وإما الشيوعية، التي لا تحتاج إلى تعريف، لأن تعريفها مُضمَّن في مفهومها، وإذا شئتم في براءتها الكلية من كل ما يشوّش الفكر، ويعكّر صفو الحياة الإنسانية.
«الحرية اختيار وقرار»، كما يقترح جيجك وباديو، ولكن ماذا إن كان عليك أن تختار جانباً واحداً من جانبين فقط: إما الأسد وإما إحراق البلد، إما الجوع وإما الركوع، مثلاً، إما الرأسمالية البغيضة وإما الشيوعية الطيبة، إما الخير المطلق وإما الشر المطلق؟! لم يفطن جيجك وباديو أيضاً إلى أن هذه الطريقة في الاختيار أو التخيير هي ذاتها جرثومة الشمولية والتسلط، وهي طريقة دينية أساساً، خاصة حين تكون «الحقيقة منحازة» إلى جانب من يختار ويخيّر الآخرين.
لا نعرف كيف تستقيم فكرة انحياز الحقيقة مع «الاستعمال العمومي للعقل»، والعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، حسب ديكارت، وكذلك إمكان استعماله العمومي. انحياز الحقيقة يفترض حقيقة كلية واحدة وخالدة، كالفكرة الشيوعية، وهو تعبير آخر عن احتكار الحقيقة، الذي يولد سائر أشكال الاحتكار، ويبرر سائر أشكال الاستبداد والتسلط. وإلى ذلك، نعتقد أن «الدعوة» تحمل دوماً جرثومة العنف، الذي يمكن أن يتحول إلى إرهاب، حينما تتحول الدعوة إلى نضال أو جهاد في سبيل ما تدعو إليه، وحين يتحول الدعاة إلى مناضلين أو مجاهدين، ولا فرق، من عدة وجوه، ما دامت «الحقيقة منحازة» إلى المتكلم.
نقول ذلك (استطراداً) لأن من يقرأ كتابه «بداية كمأساة وأخرى كمهزلة» يلمس الروح اللينينية الاقتحامية، الغازية، كما وصفها ياسين الحافظ، المقاتلة والواثقة بما تدعو إليه ثقة مفرطة، لا تقبل من المدعوين أقل من الإيمان، كإيمان ذلك الجندي البلشفي، في رواية جون ريد، «عشرة أيام هزت العالم»، وهي صورة تهكمية بليغة من الصور التي رسمها جون ريد للوعي الطبقي (الذي يأتي من الخارج).
لكن جيجك يحدثنا حديثاً لافتاً عن وعي طبقي، أممي، مختلف بالفعل، ينبثق من الداخل، من الفردية الكونية، أو من الإمكان الجذري للوعي البشري، الذي يمكن أن ينتج من «الاستعمال العمومي للعقل»، وهذا أمر يمكن البناء عليه، وقد ساقه جيجك من خلال «الاستعمال العام للعقل»، عند كانط، ولكن من دون تتمته الكانطية، أو من دون انبساطه في «العقل العملي»، أي من دون تتمته الأخلاقية، والمجتمعات بنى أخلاقية وجمالية وذوقية، في التحليل الأخير. فلا ينفصل السلوك عن بواعثه الذهنية-النفسية والأخلاقية والجمالية، ولا ينفصل العمل عن المعرفة.
الدولة والمجتمع المدني
جيجك منحاز إلى الدولة، ولا يوافق لينين في موضوع «تحطيم الدولة»، لإقامة دكتاتورية البروليتاريا، ولكنه ينحاز إلى الدولة ضد المجتمع المدني للأسف، مطوِّحاً بموقف هيغل وموقف ماركس أيضاً من المجتمع المدني، «المسرح الواقعي للتاريخ»، كما وصفه ماركس، وعيَّن علاقته الجدلية بالدولة؛ فلا تتحقق الشيوعية، في نظر ماركس، إلا بصيرورة المجتمع المدني دولة والدولة مجتمعاً مدنياً، أي بزوال التناقض بين المجتمع المدني والدولة. مع أن زوال التناقض مستحيل، لأنه يعني زوال الفروق والاختلافات، إذ كل فرق يعين اختلافاً قد يرقى إلى تناقض جدلي. هذا ما يجعل الشيوعية يتوبيا، لكن يوتوبيا ماركس متمحورة على «الانعتاق الإنساني»، وحذف جميع أشكال اغتراب الإنسان.
جيجك يحدثنا حديثاً لافتاً عن وعي طبقي، أممي، مختلف بالفعل، ينبثق من الداخل، من الفردية الكونية، أو من الإمكان الجذري للوعي البشري، الذي يمكن أن ينتج من «الاستعمال العمومي للعقل»، وهذا أمر يمكن البناء عليه
بانحيازه إلى الدولة، يرى جيجك أن «نظرية المجتمع المدني» خاطئة كلياً، ويصرح أنه كان، في أثناء تفكيك يوغوسلافيا، كما في معظم الصراعات الأخرى بين الدولة والمجتمع المدني، في صف الدولة [7]. نعتقد أن هذا الفصل القطعي بين المجتمع المدني والدولة هو الخاطئ كلياً.
غير أنه يقول في كتاب آخر مناقضاً نفسه «اليوم، العمل غير المادِّي، ‘مُهيمِن’.. كلونٍ مُحدَّدٍ يعير صوته للكلية، ليس بالمصطلحات الكمّية، ولكنّه يلعب الدور المُهم والرمزي والبنيوي. ما يبزغ بالتالي هو مساحة سيطرة واسعة لـ’الشعبي’، المعرفة المتشاركة، أشكال من التعاون والاتصال.. إلخ. تلك لم يعد من الممكن استيعابها بشكل الملكية الخاصّة، لأنّه في حالة الإنتاج غير المادِيِّ، لم تعد المنتجات هي الأشياء المادّية، ولكنَّ العلاقاتِ الاجتماعية (المتشاركة) ذاتها باختصار، فالإنتاج غير المادِّي هو سياسة حيوية بشكلٍ مباشر، إنَّه إنتاج الحياة الاجتماعية» [8]. فهل يمكن «إنتاج الحياة الاجتماعية» خارج إطار المجتمع المدني، بصفته مقابلاً للمجتمع السياسي، أو الدولة؟
انحياز إلى الدولة ونقد للديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية أيضاً، نقد يوحي برفضهما، يطرحان السؤال عن طبيعة الدولة التي تنشدها «فلسفة المستقبل»، والدولة منجز ليبرالي بامتياز. هل نقول: منجز رأسمالي أيضاً، وتحمل تناقضات الرأسمالية وتتطور بتطوّرها، بصفتها نمط إنتاج؟ فرق ماركس بين «الدولة السياسية»، أو الدولة القومية الحديثة، في صيغتها الجمهورية، وبين «الدولة المادية»، التي هي تطور جدلي للديمقراطية، على قاعدة الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج. نمو الديمقراطية هو السبيل الوحيد ربما إلى ما سماه ماركس الدولة المادية، مقابل الدولة السياسية، الليبرالية.
أحداث عام 2011 كلها، من الربيع العربي إلى حركة «احتلوا وول ستريت» إلى اضطرابات المملكة المتحدة وجنون برايفك [9] الأيديولوجي، تندرج في «العداء المركزي للرأسمالية المعاصرة». ذلك أن هذه الأحداث يمكن أن تتحوّل، مع «حشد الأساليب الفنية والحجج النظرية، إلى نزعات تشكل نسقاً، حسب مربع غريماس السميوطيقي. هذا النسق، الذي يفتح فضاء، هو نفسه «الحرية والحتمية»، أي إنه يفتح منظومة من الإمكانات الخلاقة، ويقتفي الحدود العليا للبراكسيس، التي هي أيضاً حدود الفكر وإسقاطات المخيلة [10].
لا ندري إذا كانت ترجمة ما قرأناه دقيقة، إذ الحرية والحتمية لا تجتمعان معاً، بخلاف الحرية والضرورة، ضرورة القانون، مثلاً. وفضاء «الإمكانات الخلاقة» لا يعيِّن أيّ حتمية. وإذا كان لا بد من استعمال مفهوم الحتمية، الذي نبذه العلم الحديث تجريبياً، يمكن القول إن الحتمي هو ما تحقق بالفعل فقط. وإذ لم نجد عند فيلسوفنا ولعاً بالمادية التاريخية، التي ولَّدت وهم الحتمية التاريخية، كما لدى الماركسيين العرب، وإذ يرفض تاريخانية ماركس (التطورية)، فإن الحتمية، كما بدت لنا، بنت الإرادة فحسب. أجل، إن قارئ جيجك يلمس صورة عن الإرادوية اللينينية، التي أدرك لينين نفسه حدودها، يوم اقترح «السياسة الاقتصادية الجديدة» (NEP) وخطل فكرة اجتماع الثورتين: الديمقراطية والاشتراكية.
ولا بد أن يستوقفنا إدراج «جنون برايفك الأيديولوجي» في «العداء المركزي للرأسمالية»، إذ يشير هذا إلى اعتبار الإرهاب مظهراً من مظاهر هذا العداء (المركزي). ونحن لا نرى في الإرهاب سوى تعيُّن ممكناته أو نمو جرثومته في الدولة القومية المرسملة، مركزية كانت أم طرفية، ولا سيما في الدولة الناقصة، حسب تعبير ماركس، لا في الرأسمالية ذاتها. وما من شك في أن الإرهاب ظاهرة عالمية جديدة، ومن التعسف أن تنسب إلى دين بعينه. فلا مشاحة من النظر إلى الرأسمالية في تعيناتها الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية في كل دولة قومية على حدة، للوقوف على العلاقة الوثيقة بين الإرهاب والإمبريالية، على اعتبار الأخيرة «مرض القومية الخبيث»، كما وصفها إلياس مرقص، يتظاهر هذا المرض في العنصرية والنزعات العدوانية، التي لا تستغني عن تبرير ديني أو أيديولوجي (قد يكون ليبرالياً، كما في تبرير الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، أو شيوعياً، كتبرير الغزو السوفييتي لأفغانستان). ومن ثم فإن الإرهاب صناعة إمبريالية وأداة سياسية تشهد على كلبية السياسات القومية للدول الكبرى والدول الطامحة أن تصير «كبرى»، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وإذ نعتقد أن أمراض النظام الرأسمالي العالمي تظهر في أطرافه وهوامشه، أكثر مما تظهر في مركزه/مراكزه، نشير إلى الظروف التي ظهر فيها تنظيم القاعدة وغيره في سياق التعبئة الإستراتيجية الأميركية، لمواجهة «الخطر الشيوعي»، وإلى اصطناع بعض الحكومات ميليشياتٍ إرهابيةً، ومنحها شرعيةً قانونيةً، كالحرس الثوري الإيراني وحزب الله في لبنان وقوات الدفاع الوطني في سوريا، وغيرها كثير، مما يؤكد ارتباط الإرهاب بالنزعات الإمبريالية، من جهة، وبأنه أداة سياسية تستخدمها الدول (القومية) سراً أو علانية، تحت شعارات مختلفة، من جهة أخرى. وقد لا يخرج تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) عن هذه القاعدة، ولا ينفصل عن صناعة الخوف، التي تتقنها سائر الدول.
لوحة: رافي ساركي
قد لا يكون الإرهاب رد فعل على العولمة الرأسمالية، بل فعل من أفعالها، أو ردّ فعل الدولة القومية على محاولات تهميشها والحد من سلطاتها، بعد بروز الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المدني، منذ ثمانينات القرن الماضي دفاعاً عن الحريات العامة والحقوق المدنية وسلامة البيئة. وفي هذا السياق يمكن إدراج الموجة الجديدة من الحركة النسوية، التي لا تنفصل عن نشاط المجتمع المدني. ونعجب من النظر إليها على أنها جزء من صناعة رأسمالية خالصة «الرّأسمالية تستخدم خاصياتها الأنثوية بغرض تحقيق أهداف سياسية. كما لو أن السّلطة الرّأسمالية توزّع الخدمات والأدوار على النساء لتحقّق مكاسب لها من ورائهن» [11]. لو أن الرأسمالية تستخدم «خاصياتها الأنثوية» بدلاُ من خاصيتها الذكورية، وهي أبعد ما تكون عن ذلك حتى اليوم، لتغيرت أشياء كثيرة ورؤى كثيرة. ننظر إلى الرأسمالية على أنها نمط إنتاج، كما وصفها ماركس، لم تستنفد شرطها التاريخي، ونفرق على نحو حاسم بين الرأسمالية والدول الرأسمالية، وهذه الأخيرة مختلفة فيما بينها اختلافات ذات شأن.
من حقنا أن نعتبر الموقف من الصهيونية المتعيِّنة في دولة إسرائيل، ومن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي معياراً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، كما من حقنا اعتبار الموقف من معاناة الشعب السوري معياراً فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، انطلاقاً من مقولة «الاستعمال العمومي للعقل»، بكل ما تتضمنه من نزوع إنساني، فعلى الرغم من موقف جيجك النقدي للصهيونية، يرى أن جميع التناقضات زائفة، عدا تناقض الشيوعية والرأسمالية، ومعها الليبرالية؛ يقول في ذلك «على المرء الإصرار بشكل حاسم على أن النزاع بين دولة إسرائيل والعرب هو نزاع زائف، حتى إذا هلكنا جميعاً بسببه. إنه نزاع يشوه القضايا الحقيقية. التطرفية رد فعل زائف ومربك على الخلل الواقعي المتأصل في الليبرالية، ولهذا السبب التطرفية تولد مراراً وتكراراً من قبل الليبرالية [12]. يذكرنا هذا بإرجائية بعض الأحزاب الشيوعية في العالم العربي لحقوق الشعب الفلسطيني. ولنا أن نفسر هذه الإرجائية بأنها صبت في تمكين دولة إسرائيل. ولا يجوز أن ننسى أن الاتحاد السوفييتي السابق كان الدولة الثانية، التي اعترفت بدولة إسرائيل غداة إعلانها، بعد الولايات المتحدة الأميركية.
ينتقد جيجك ميشيل فوكو لاحتفائه بالثورة الخمينية، في حين يهلل هو للثورة الخضراء (2009) واصفاً إياها بالعودة إلى جذور تلك الثورة. ثم في الفقرة التالية مباشرة يشير إلى أن تلك الاحتجاجات «ثورة شعبية أصيلة من مشاركين محبطين من ثورة الخميني». يقول في ذلك «هذه العودة إلى الأصول ليست فقط تصويرية، إنها حتى أكثر اهتماماً بنموذج فعالية الحشود: الوحدة الرائعة للناس، وتضامنهم الكلي، والتنظيم الذاتي المبدع، والتصرفات المرتجلة لربط الاحتجاج، والمزيج الفريد من الانضباط والتلقائية، مثل مسير مشؤوم لآلاف في صمت مطبق. هذه كانت انتفاضة شعبية أصيلة من مشاركين محبطين من ثورة الخميني. لهذا السبب على المرء مقارنة الأحداث في إيران بالتدخل الأميركي في العراق: أمّنت إيران حالة التوكيد الأصيل للإرادة الشعبية كمعادية للفرض الأجنبي للديمقراطية في العراق».
وبعد أن وصف أحمدي نجاد بالفاشية الإسلامية أثنى على خصميه السياسيين خروبي وموسوي «خروبي الإصلاحي بشكل فعال، المقترح أساساً للنسخة الإيرانية للمحسوبيات، الحسنات الموعودة لكل الأقليات الخاصة. موسوي مختلف، بشكل كلي؛ اسمه يدعم انتعاشاً أصيلاً للأحلام الشعبية، التي تساند ثورة الخميني. حتى لو أن هذا الحلم كان يوتوبياً، على المرء أن يدرك فيه يوتوبيا أصيلة للثورة نفسها، لأن ثورة الخميني عام 1979 لا يمكنها أن تكون مختزلة إلى سيطرة لتشدد إسلامي، كانت أكثر من ذلك بكثير[13]. «ثورة الخميني كانت حدثاً سياسياً أخلاقياً، لحظة فاتحة حررت القوى غير المتخيلة سابقاً للتحولات الاجتماعية، اللحظة التي بدا كل شيء فيها ممكناً. ما تبع كان إغلاقاً تدريجياً من خلال السيطرة على السلطة من خلال المؤسسة الدينية». هل قال فوكو غير ذلك؟
كتب تيري إيغلتون «سلافوي جيجك ظاهرة أكثر من كونه فيلسوفاً، والممثل على الأرض (إن جاز القول) لعالم التحليل النفسي الفرنسي الراحل جاك لاكان. كتبه الأربعون أو ما يقرب ذلك.. كولاجات فوضوية من الأفكار، تتراوح من كانط إلى علم الكمبيوتر، ومن سان أوغستين إلى أجاتا كريستي. يبدو كأن لا شيء.. لم يكن قمحاً لمطحنته الثقافية» [14].
نحن نستدل من هذه الإشارة على اتساع آفاقه، وتنوع ثقافته وعمقها. هو فيلسوف وناقد ثقافي؛ ولكن موقفه النقدي يتعارض، كما بدا لنا، مع رؤيته للفلسفة بأن وظيفتها «الإثبات»، لا النقد، والنقد إثبات ونفي، ونفي النفي أيضاً. كل إثبات هو نفي، عند إسبينوزا، وكل نفي إثبات، عند هيغل، ماركس إلى جانب إسبينوزا، في هذه الحيثية. وقد لفتنا تناقض موقفه الفلسفي وموقفه السياسي، في مسائل عدة أشرنا إلى بعضها، إضافة إلى ذاتية مفرطة تقرر نصاب الحقيقة ورهان المستقبل.
[1]- جيجك، بداية كمأساة، ص 135.
[2] – جيجك، بداية كمأساة، ص 136.
[3] – حيحيك، بداية ونهاية، ص 137.
[4]- جيجك ، بداية مأساوية، ص 191.
[5]- سلافوي جيجك، سنة الأحلام الخطيرة، ص 89.
[6]- باديو وجيجك الفلسفة في الحاضر، ص 76.
[7]باديو وجيجك، الفلسفة في الحاضر، ص 65.
[8] – جيجك، سنة الأحلام الخطيرة، ص 12.
[9] – الذي قام بتفجيرات واغتيالات في النرويج، عام 2011، راح ضحيتها 77 شخصاً.
[10] – سلافوي جيجك، سنة الأحلام الخطيرة، ترجمة أمير زكي، دار التنوير، بيروت والقاهرة وتونس، 2013، ص 5.
[11] – من مقابلة جيجك مع مجلة الجديد.
[12] – سلافوي جيجك، بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ترجمة أماني لازار، طوى للثقافة والنشرة والإعلام، لندن، منشورات دار الجمل، لندن، 2015، ص 119.
[13]- راجع/ي، جيجك، بداية كمأساة، ص 186 -188.
[14]- في ألان باديو وسلافوي جيجك، الفلسفة في الحاضر، ترجمة وتقديم يزن الحاج، دار التنوير، بيروت، 2013، ص 112.