فنون تشكيلية رقمية
قبل عصر الشبكات الاجتماعية، وربما للدقة قبل عصر الإنترنت، كان الكثيرون يمارسون هوايات تتعلق بجمع أشياء. شاهدت مجموعات لأشياء معتادة وغريبة لأشخاص من مختلف الخلفيات الفكرية والاجتماعية، بقدرات مالية كبيرة ومحدودة. مجموعات من قضايا مألوفة ومكررة مثل الطوابع وورق النقد والعملات المعدنية والسجاد، وأشياء وجدتها غريبة مثل علب الكبريت ولوحات الإعلان المعدنية لمنتجات كانت سائدة ما قبل الثمانينات. تقرأ عن هواة جمع بوسترات الأفلام وحصى وساعات ومجوهرات. لديّ صديق يجمع تماثيل ومجسمات لديكة. قريب لي لديه أكثر من 400 نسخة مصغرة لسيارات كان الأطفال يلعبون بها قبل أن يتوقف اللعب في البيت عند مفردة واحدة هي الفيديوغيم. الألعاب الإلكترونية، لأزمنة ومراحل مختلفة، تنتمي إلى فئة “ما يمكن أن يجمع”. البعض يجمع صناديق زجاجية فيها فراشات مجففة. مجلات الكوميكس لها مريدون بالملايين حول العالم. لا أعتقد أن هناك هواية اسمها جمع الكتب، ربما عدا حالة مستعرض يقول إن لديّ مكتبة بمئات الكتب.
جمع اللوحات عالم آخر. هو عالم الأثرياء والدول والمتاحف. هواة جمع الطوابع والعملات يعرفون أنّ في مكان ما هناك نسخ أخرى من مجموعتهم. ربما عدد كبير أو قليل، فيما عدا حالات استثنائية قليلة. لكن كم نسخة تتوفر من الموناليزا؟ بعض كبار المشاهير في عالم الرسم كانوا ينتجون نسخا من أعمالهم. المقصود هنا النسخ الأصلية، تلك التي يعيد نفس الرسام رسمها، شيء أشبه بالتزوير المشروع كما نجد في لوحات عباد الشمس لفينسنت فان غوخ، وأكثر من سلسلة بورتريه شخصي أو لأناس مروا في حياته.
هناك بالطبع النسخ المنتجة تحت إشراف الفنان نفسه. يرسم لوحة ويستنسخها بواحدة من الطرق التقليدية أو الحديثة، ثم يوقّع على كل نسخة ويرقّمها بتسلسل مثل 1/100 أو 5/1000. الفنان بابلو بيكاسو كان من المعروفين بهذا. النحاتون يشتغلون على قالب، ثم ينتجون أكثر من نسخة، كلها نظريا أصلية.
عالم الأثرياء هذا لديه عوالم موازية. الفنون التشكيلية فضاءات جميلة زينت القرن الماضي وغيرت من مزاج الناس. في عالمنا العربي ازدهرت الفنون التشكيلية بشكل كبير وسجلت حضورها قبل أن تأتي موجة الإسلام السياسي مع المد السلفي والإخواني والخميني، وقبل برامج الجدل العبثي على الفضائيات. لا يزال الفنانون التشكيليون العرب والأكراد والأمازيغ صامدين. بلوحاتهم الصامتة يحاربون. لوحات مشاهير الفنون التشكيلية في عالمنا صارت أغلى ثمنا. هذا خلق سوقا، تتذبذب مع هزات السياسة الكارثية في منطقتنا. لكنها سوق موجودة. تتلاشى في بغداد وبيروت، لتظهر في دبي. تختنق في القاهرة، لكنها تتنفس في الرباط.
العالم الآن مقبل على ثورة في الفنون التشكيلية، وفنون أخرى مثل الغرافيكس والفيديو والأدائية. ثورة رقمية غير مسبوقة بحجمها وسرعة تسجيل حضورها. ثورة تحاكي صعود العملة الرقمية من أمثال البيتكوين، وتستخدم نفس أدواتها.
النسخ في العالم الرقمي أسهل من شربة ماء. أعجبتك صورة أو لوحة أو أغنية أو مقطع فيديو: انسخ. تفننت المواقع في ابتكار طرق لمنع النسخ. تضغط على الزر اليمين للماوس لتنسخ نصا أو صورة، لا يعمل. هناك طرق عديدة لإيقاف هذا المنع. الآن صارت ثمة تقنية تمنع النسخ. الفنان التشكيلي الرقمي يحمي نفسه مثلما يحمي البنك المركزي عملته الورقية بإدخال علامة مائية من الصعب تزويرها. والأهم أن هذا النوع من الفن الرقمي المحمي له سوق. سوق كبيرة من الصعب تخيل حدود لها.
أساس الحماية تقنية تشبه حماية العملة الرقمية. “الرموز غير قابلة للاستبدال” (أن أف تي) هي تقنية تركب عليها موجة الإنتاج التشكيلي والأدائي والفيديو والغرافيكس الرقمية الجديدة. في مارس 2021، بيعت لوحة للفنان بيبل (اسمه الحقيقي مايك وينكلمان) في مزاد لدار كريستيز بأكثر من 69 مليون دولار. سوق الأعمال التشكيلية الرقمية المشفرة حقق 40 مليار دولار عام 2021. ننتظر ثورات جديدة؟ هذه واحدة.
يمكن الوقوف أمام لوحة الموناليزا وأخذ صورة لها أو شراء نسخة مقلدة منها مطبوعة أو مرسومة. لكن متحف اللوفر يعرف أن لديه الأصل وأن قيمتها محفوظة. لوحة رقمية مثل “نادي يخوت القرد الضجران” تنتشر على الإنترنت، لكن النسخة الأصلية محمية تقنيا وأمامها المستقبل لتكون “موناليزا” من نوع مختلف.
العاملون بالغرافيكس والفيديو في عالمنا ربما بدأوا يفهمون أهمية الأمر. لكنّ الفنانين التشكيليين العرب، وهم من قراء مجلة “الجديد” أو ممن يتكرمون بالمساهمة بلوحاتهم فيها، يعتقدون أن مجرد تصفح الإنترنت وكتابة تعليق على فيسبوك هو إنجاز. لا يزالون أسرى مراسمهم ومشاغلهم، ويرسمون مثلما كان يفعل فان غوخ قبل 150 عاما. الفرشاة والزيت ولوحة الرسم، أدوات كلاسيكية. ما الذي يمنع من أن يبدأوا باستكشاف هذا العالم الجديد؟
تجمعون لوحات؟ هيا بنا نجمع لوحات رقمية.