في حضرة السلمجان

الجمعة 2020/11/06
لوحة: موسى النعنع

أجال نظره في جميع أركان غرفته الصغيرة عسى أن يتذكر من أيّ جهة انبثق صوت “السلمجان” في المرة الفارطة، فقد كان يخشى أن يتخلى عنه صديقه في هذه اللحظة بالذات. نزع بدلته الأنيقة إثر رجوعه من المسرح البلدي بتونس، وارتدى” بيجاما”، ثم أشعل شموعه وبقي ينتظر، لكنه تلعثم عند نطق اسمه، فعوض أن يردد “أيها السلمجان” كما فعل سابقا، تمتم أيها “الشرلمان”. نظر إلى شموعه، فإذا بها لم تنطفئ. ما الذي دهاه حتى ينطق بهذا الاسم الغريب؟ لا يدري. نهض من مكانه وأخذ منجدا صغيرا كان موجودا على طاولة نومه، فتحه وأخذ يبحث في معاني الاسم وتاريخه، فعلم أنه يشير إلى أشهر ملوك أوروبا ممن عرفوا بدفاعهم المستميت عن المسيحية ّ خلال القرن الثامن ميلادي، فداهمته الشكوك بأنه ربما يكون قد أغضب صديقه “السلمجان” بارتكابه مثل ذلك الخطأ، فردد بصوت منخفض “أيها “السلمجان” إن كنت حاضرا بهذا المكان، فابرز للعيان”. حينئذ انتابه شعور بالذعر، إذ بدت له صورة “السلمجان” في هيئة رجل دميم ذي ملامح تنم عن القسوة واللامبالاة، فاستعاذ بالله من الشيطان، لكنه سرعان ما تدارك، لأنه كان يجهل حقيقة صديقه: إن كان من الإنس أم من الجان، أم إبليسا بعينه؟ ماذا سيفعل وقد أصبح في أمسّ الحاجة إلى مساعدته الليلة، قبل فوات الأوان؟

شعر بحاجة ملحة إلى استعادة ما حدث بينهما في أول حوار جمعهما، ففي تلك الليلة، لم يكن في جيب مراد سوى عشرة دنانير، وكان مدينا لجميع أصدقائه تقريبا بمبالغ صغيرة من المال، لمن سيتوجّه لطلب المساعدة؟ لا يعلم.

لقد استطاع مراد بعد عناء شديد أن يغادر مسقط رأسه “مكثر” وأن يعمل منشطا بإحدى دور الثقافة بتونس لمدة عام وبأجرة زهيدة لا تلبّي حاجياته. كان لا يتقن الفرنسية ولا العربية ولا الاسبانية رغم حصوله على إجازة في الترجمة، ولم يغتنم فرصة استقراره “بمدريد” طيلة مدة تربّصه للزّواج من امرأة إسبانيّة والحصول على شهادة إقامة. لم يقدر آنذاك على العيش مع أجنبيّة تحت سقف واحد لاختلاف العادات، فهو لا يحسن الغزل ولا الطّبخ ولا ملاطفة النساء ولم يضاجع طيلة حياته امرأة إلا في المواخير. لقد أصيب بصدمة عند حلوله بإسبانيا، لم يشف منها إلى حدّ هذه السّاعة لما رآه وشاهده من مظاهر الرفاهة والرقيّ وانتشار أجواء البهجة والمرح في جميع أنحاء العاصمة “مدريد”. بعد رجوعه إلى تونس استقرّ مراد بإحدى الأحياء الشعبية بباردو، كان يتقاضى أجرة لا تغطي مصاريفه مدة أسبوع، فكان يضطرّ إلى اقتراض مبالغ مالية متفاوتة القيمة ثم يسدّد ديونه في أول كل شهر ليقترض من جديد، وهكذا دواليك. وذات يوم، نفد ماله وصبره بعد أن أغلقت الدّنيا أبوابها في وجهه، فلم يبق له من حلّ سوى استحضار الأّرواح المنسيّة والغائبة عسى أن تسعفه بمساعدة أو تدلّه إلى سبيل لم يهتد إليه بعد، فخطرت بباله فكرة غريبة عجيبة: أن يضع بعض الشّموع في صحون صغيرة على طاولة غرفته وأن يطفئ النور الكهربائيّ، ثمّ أن يردّد هذه الجملة عدّة مرّات “أيتّها الرّوح، إن كنت حاضرة بهذا المكان، فابرزي للعيان”. “ثم خاطب نفسه قائلا “ماذا يحدث لو أستدعي الآن، إلى مجلسي هذا، كبار الرؤساء والأغنياء وذوي النفوذ في العالم، لينقذوني من بأسي ويرشدوني إلى سبيل ما، فأعود إلى إسبانيا وأنعم برغد العيش في بلد المرح والزهو دون الزواج من أوروبيّة والقبول بسلطتها ونفوذها؟ لكن لمن سأتوجه وأيّ روح سأستحضر؟ لا أدري. سأردّد هذه الجملة ألف مرّة “أيتّها الرّوح السّخية، إن كنت حاضرة بهذا المكان، فابرزي للعيان. أيتّها الرّوح السخيّة، جئتك أطلب حضور سلطان، أيّ سلطان كان، على أن يملك الجاه والسّلطة والمال، فتقبّلي منّي هذه الدّعوة.”

فجأة بدأت الشموع تنطفئ الشمعة تلو الشمعة، فإذا بصوت يجيبه: “أنا “السلمجان” ملك الجان، بلمسة منّي فقط أغيّر أحوال الإنس والجان، لا تحدق في الظلام فلن تتمكن من رؤيتي أبدا، واطلب منّي ما شئت يا مراد، فطلبك مسموع ومستجاب، شريطة أن لا تستعيذ بالله منّي، وأن لا تخطئ في ذكر اسمي، أن تكتم سرّ حضوري لديك ولا تشيعَه بين الناس…”. وما إن سمع مراد الجواب في الظّلمة الحالكة حتّى تملّكه ذعر شديد، بعد أن ساورته شكوك بأن لا يكون “السلمجان” سلطانا ذا مال وشهرة، بل هو شيطان يخشى الاستعاذة والظهور والانكشاف، ومع ذلك تمتم تارة طمعا في الرّحمة وطورا خشية من العقاب “السمع والطاعة يا حضرة السلمجان، أنقذني ممّا أنا فيه، أريد إما أن أغادر هذه البلاد، أو أن أجد فيها عملا يوفر لي العيش الكريم”.

– يا مراد، لقد قبلت دعوتك وحللت ببيتك. أنا ضيفك الآن، لذلك سأحدّثك حديث الرّوح للرّوح، فخذ بنصائحي، لا أملك مالا أغدقه عليك، فأنت تنتمي إلى عالم وأنا إلى عالم آخر، تحكمه سنن أخرى مختلفة.

– وما الحل أيها “السلمجان”؟

– لا تدخل الحانات، ولا تجلس في المقاهي ولا تظهر بؤسك لأحد ولا تفشِ سرّك لأيّ كان ولا تذكر أصلك ولا فصلك ولا مسقط رأسك “مكثر”. كن متعاليا متكبّرا، تكلّم بحذق ولطف، ولا تقترب إلاّ من ذوي السلطة أو المال أو الجاه، حينئذ ستفتح لك جميع الأبواب بسهولة تامة، غير منتظرة ولا متوقّعة، ألم تقتد بعد بمن حقّقوا النجاح والشّهرة؟

– أيّها “السلمجان”، كيف التّقرب من ذوي السّلطة والمال والجاه؟

– اقتنص المناسبات وكن حاضرا في الملتقيات يا مراد، أولست من أهل الثقافة؟

– نعم، لكن دوري مقتصر على تصوير بعض التظاهرات وتسجيلها، فأنا لا أتقن أيّ لغة، كما تعلم.

– لا تقل هذا الكلام وتابع ما يبثّ على التلفزة. الأمر لا يتطلب لغة ولا ثقافة، فكيف لم تدرك بعد “من أين تؤكل الكتف”، ستعيش غريبا في إسبانيا ولن تجد أبدا المكانة التي تليق بك، لأن الأمور أكثر جديّة وتعقيدا هنا…

– لن يقرضني أحد ولو مليما واحدا…

– اطلب من أصدقائك بدلة وعطورا، وإن استطعت، احفظ بعض القصائد لمشاهير الكتاب من العرب والإسبان والفرنسيين، ربما تحتاج إلى ذكرها كلما أتيحت لك الفرصة، فأنت قادر على الكلام بثلاث لغات.

– صحيح، لكنني غير متمكن منها.

– ذلك ليس مهما، ثق بنفسك، تأكّد أن لا أحد سيطالبك بعلم وفير أو معرفة دقيقة. قبل أن أتركك أوّد أن أقول لك: إن الحقيقة ليست مطلوبة في أيّ مجال، إن كنت تسعى إلى تقلّد منصب هام، فعليك التّظاهر بالقوّة باكتساب ملامح الهيبة والوقار. اعتن بشكلك إذن، لا تفكّر في اللّغات الّتي لا تتقنها. لذلك لا أنصحك بالهجرة، لأن الكفاءة واجبة هناك ولن تقدر على إزاحة منافسيك. سأغادر هذا المكان الآن.

– شكرا لك أيّها “السلمجان”، سأتّبع نصائحك.

– إلى اللقاء.

– إلى اللقاء.

أشعل النور الكهربائي، فانزاح عنه خوفه بعد انسحاب “السلمجان”، وبات يتابع جميع الملتقيات والتظاهرات الثقافيّة، حتى علم أن حفلا كبيرا سيقام بعد أيام قليلة بالمسرح البلدي بتونس، سيشارك فيه عدد من أبرز الفنانين والفنانات بمناسبة عيد الشباب. قطعا، ستحضره ثلّة من الشخصيات السياسيّة والإعلاميّة. إنها فرصته لن يضيعها هذه المرّة، عليه أن يسعى إلى تدبر أمره للحصول على بدلة أنيقة تليق بمقامه العالي، وأن يحدث بطاقة زيارة يكتب عليها صفته الجديدة “مدير شركة في ميدان الاتصال السمعي البصري ومترجم”، وأن يشتري أثمن العطور، سيطلب من صديقه عمر أن يعيره بدلته الجديدة مع قميصها وحذائها، تلك الّتي لبسها يوم حفلة خطوبته على ريم. إنها رائعة وقد تناسبه، لن يرفض له عمر مثل ذلك الطلب.

لم ينشغل بمشاكله الماليّة، فثمن العطر الّذي اقتناه يعادل معين كراء شقّته الصّغيرة، أولا يعدّ ذلك التّصرف من قبيل الجنون؟ ولم يسدّد ما عليه من ديون إذ لم يبق لديه إلا مبلغ صغير، عشرون دينارا تقريبا، لكنّه مجبر على توفير المظهر اللاّئق للخروج من أزمته، وإلا سيقضي بقيّة عمره منبوذا وفقيرا. ما عليه إلا الأخذ بنصائح صديقه السلطان “سلمجان” ملك الجان.

لبس بدلة عمر وتعطر بعطره الثمين، ثم أوقف سيارة أجرة قبل موعد الحفل بساعات. جلس في مقهى “الأنترناسيونال” بشارع الحبيب بورقيبة، شرب قهوة “إكسبريسو”، ثم اتّجه إلى المسرح البلدي ليجلس في الصّفوف الأماميّة لقاعة العرض حتّى يتعرّف على أهم الحاضرين.

رأى ياسر اليزيدي مدير إحدى القنوات التلفزيّة الخّاصة يجلس في الصفّ الأماميّ، فبقي ينتظر على مضض انتهاء الحصّة الأولى للعرض، حتّى يتصلّ به ويتعرّف إليه.

وحين أسدل الستار وأشعلت الأضواء سارع بمغادرة القاعة، وقف وسط القاعة الخارجيّة للمسرح، وما إن لمح ياسر اليزيدي يخرج حتّى تبعه، تقدمّ نحوه مبتسما قائلا “أتابع برامج القناة التلفزيّة الثامنة، بكلّ اهتمام بعد أن أصبحت من أهمّ القنوات، لا شكّ أن عدد مشاهديها في ارتفاع.”

فأجابه ياسر: شكرا جزيلا لك، لكننا ما زلنا نسعى إلى تحسينها. لقد أصبحت للمتفرّج التونسيّ إمكانيّة اختيار القناة التي يوّد متابعتها، فاشتدّت المنافسة بين القنوات حتّى أصبحنا مضطرين إلى مراجعة بعض البرامج وتحويرها.

– أقدم نفسي، مراد بن مصطفى، مترجم وفنان، أشتغل في الميدان السمعي البصري.

– ما شاء الله، في أيّ مؤسسة تعمل؟

تلعثم ثم أجاب: لديّ مشروع كبير يتعلق بتحسين الصورة، لكنه مازال في طور البحث، في انتظار تأسيس شركة خاصة.

– ممتاز، قد أحتاج إلى لجنة من المختصين والخبراء في الإعلام والميدان السمعي البصري. هذه بطاقتي بها عنواني الإلكتروني، سأكون سعيدا بمعرفة آرائك حول كيفية تقديم البرامج إلى المستمع وتقنيات التصوير. كنت أودّ الحديث معك لمدّة أطول، لكنّ فترة الاستراحة قد انتهت. قطعا سنلتقي في مناسبة أخرى، لكن قبل العودة إلى قاعة العرض، هل يمكنني الحصول على بطاقتك؟

– طبعا، طبعا، هذه بطاقتي، سعيد بمعرفتك، سأرسل إليك مقالا حول هذه المواضيع، في أقرب وقت ممكن، إلى اللقاء.

– إلى اللقاء.

ما إن عاد إلى بيته حتى انتابته حالة من الحيرة والتّوتر فلم تنطفئ شموعه المضاءة كما كان يتوقع بعد أن أخطأ في مناسبتين، الأولى حين نادى صديقه “بالشلمان” بدلا عن “السلمجان”، والثانية بأن استعاذ بالله منه فلم يلتزم بشروط حضوره.

وللخروج من المأزق، خطر لمراد أن يستعيد جملته السحرية الأولى، لكنه تراجع حين تفطن إلى أن الزائر الجديد لن يدرك ورطته، لا بد أن يلح في دعوة “السلمجان”، فهو الوحيد القادر على مساعدته. تململ، استدار يمنة ويسرة ثمّ تمتم “السلمجان، السلمجان، السلمجان، ماذا سأفعل؟” لكن أحدا لم يجبه فاستسلم للنوم على أمل أن يزوره صديقه من جديد، إلا أنّه استيقظ عدة مرّات في انتظار ردّ منه أو إشارة، لكن دون جدوى.

وفي عشيّة اليوم الموالي، ذهب إلى أقرب حانة من مقر عمله، لم يبق لديه سوى بضعة دنانير، احتسى كؤوسا من الجعة في صمت وحزن وهو لا يفكّر إلاّ في أمر واحد “كيف سيرضي صديقه “السلمجان” حتّى يعود إلى زيارة بيته الفقير ويساعده على إيجاد حل.” وضع على الطاولة كل ما لديه من مال وهمس للنادل بنبرة لا تخلو من الحرج “سأعود غدا لخلاص البقيّة”. ثم انسحب.

عاد لإشعال الشّموع قرب فراشه وهو يتمتم للمرّة الأخيرة “أيّها السلمجان، إن كنت حاضرا بهذا المكان فحاورني الآن”. فلما لم يجبه أحد، غادر مكانه مترنّحا وقد لعبت برأسه الخمرة وتملّكه الغضب، فأمسك بعصا كانت موجودة قرب طاولته وأخذ يضرب الحائط المقابل وهو يصرخ “لم أعد أثق لا بالأنس ولا بالجان، لقد تخليت عنّي في محنتي، أعلم أنّك قريب منّي وتسمع ما أقول دون أن تجيب، “ديقاج”[1]، أيها السّلطان “ديقاج”، “ديقاج”، “ديقاج”، إن لم ترحل من هنا حالا، سأكشف أمرك لكل النّاس وأقود ثورة تنادي بخلعك من مملكة الجان، ديقاج، ديقاج، ديقاج”.

وبينما كان على تلك حال، سمع قهقهة عالية ثم صوتًا يجيبه “وصلتني الآن من حاشيتي ترجمة عبارة ‘ديقاج’، ها قد استجبت لرغبتك وحللت ببيتك، لقد تطاولت على مقامي الجليل دون سبب، لا لشيء إلاّ لأنّي خاطبتك خطاب الأصدقاء، ها… ها… ها، ماذا سأقول فيك أيّها الثائر الكريم، وقد أبديت لي ما أبديت من خصال؟ كان الأجدر بك أن تشتم منافسي ياسر اليزيدي في مقال تكتبه وتنشره، لكن ذكاءك للأسف، محدود بل محدود جدا. ألم تستنجد بالملك ‘شرلمان’ ربمّا من باب الخطأ، والأرجح أنّك فعلت ذلك طمعا في العودة إلى إسبانيا.”

فقاطعه مراد “أيّها السلمجان، ما دمت قد اخترت أن تكون في موقع الصديق، فانزل إليّ لأحدّثك حديث رجل لرجل، إنّها زلّة لسان لا غير، أريد أن تعلم ما الّذي جرى لي في ‘مدريد’ وأن تفهم وضعي الحالي والمأزق الذي وقعت فيه”.

– لست رجلا مثلك ولن أنزل لمحاورتك مباشرة، لا تزعجني بأضغاث أحلامك ودعواتك وشموعك، لقد غفرت لك ما صدر منك رأفة بحالك، فلم أشأ ردّ الأذى بأذى أشدّ منه بطشا وقوّة، ألم أخبرك منذ أول لقاء جمعنا أنّي لا أملك مالا أغدقه عليك، فلا تعد إلى مناجاتي مرة أخرى، مفهوم؟ تصبح على خير يا مراد.

– معذرة أيها السلمجان. كنت في حالة من الغضب واليأس. لن أزعجك وسأكتب مقالا لنقد منافسي ياسر اليزيدي وشتمه كما نصحتني.

– لم أنصحك بشيء، وداعا أيها الثائر المغوار.

– وداعا أيها الشيطان. عفوا، بل أيها السلطان السلمجان.

وما إن أنهى مراد جملته تلك، حتى أطفأ الشموع الموضوعة قربه، بعد أن صحا من سكره فعاوده الشّعور بالتوتر والقلق، عندئذ فتح حاسوبه وشرع يبحث في مواقع الإنترنت عن مقالات لكاتب مجهول أو لصحفي يحمل اسما مستعارا لينتقي منها عبارات الشتم والثلب، فيعيد ترتيبها وتلفيقها والربط بينها ثم إعادة تركيبها لتصبح منسجمة مع سياق نصّه الجديد، معبرة عن استيائه وغضبه من بعض المنشطين والإعلاميين العاملين في القناة التلفزية الرابعة، وهي أكبر القنوات المنافسة للقناة الثامنة، ثم اتصل برياض السمراني المشرف على نادي الأدب بدار الثقافة بباردو ليطلب منه مراجعة مقاله وإبداء الرأي فيه قبل النشر، فأجابه “إن كنت تريد مني النصح، أرسله إلى صديقك ياسر اليزيدي ولا تنشره. سيجلب لك مشاكل ومتاعب لا تعدّ ولا تحصى”. ثم أضاف قائلا “لقد قمت بإصلاحه وتحويره، على أن يبقى الأمر سرّا بيننا.”

فأجاب مراد “سأنشره حتى يتأكد من ولائي له. لا تقلق لن يعلم أحد أنك قمت بتحويره وإصلاحه… كن مطمئنا.”

لم يتوقع مراد ردود الفعل التي تلت نشر مقاله بإحدى الجرائد اليومية المعروفة، فقد انهالت عليه المكالمات الهاتفية من كلّ حدب وصوب، تستفسر أسباب تهجمه على بعض الشخصيات الإعلامية المعروفة فكان ردّه أنه كان يريد كشف بعض الحقائق لإنارة الرأي العام، إلاّ أن أزمته ازدادت حدة إذ فوجئ بحملة واسعة تشنّ ضده وتبث على القناة التلفزيّة الرابعة وعلى صفحات الفيسبوك، تعرضت إلى ماضيه وعمله وعلاقاته وكل ما تتعلق بمسيرته المهنيّة ومستواه التعليمي، فنشرت صوره في العديد من المواقع الإلكترونية ليصبح محل سخرية واستهزاء من طرف الجميع، لأنه دخيل على الصحافة ولم يسبق له أن نشر أو كتب طيلة حياته جملة واحدة، فنال شهرة واسعة لم يبلغها أكبر الصحافيين وأكثرهم تمرّسا بالمهنة.

ثم بلغ إلى علمه أن الجريدة التي نشرت مقاله أصدرت مقالا آخر يفند ويكذب جلّ ما كتبه، ولم ينته الأمر عند ذلك الحدّ، إذ رفع بعض الصحافيين المذكورين في مقاله دعوى قضائيّة ضدّه في الشّتم والثلب، فأوقف عن عمله في انتظار صدور حكم قضائي إما بإدانته أو بتبرئته.

لم يبق لمراد إذن من ملاذ سوى الخروج متسلّلا من شقّته ذات ليلة للعودة إلى مكثر تجنبا لمواجهة دائنيه الذين تكاثروا وتوزّعوا فانتشروا في كل مكان، في المقهى والسوق والحانة والعمارة التي يقطن بها.

بمرور الأيام والأسابيع والأشهر، نسي مراد الجملة الملعونة التي ردّدها في شقّته الكائنة بباردو عندما كان في حالة قصوى من اليأس ألا وهي: أيتّها الرّوح، إن كنت حاضرة بهذا المكان فابرزي للعيان”. كيف خطر بباله في تلك اللحظة اسم “السلمجان”؟ لقد حدث ذلك، حين رنّ هاتفه فسمع صوتا يقول له “عليك الحضور غدا بالقناة التلفزية الثامنة لإجراء لقاء من أجل انتدابك تقنيا للإخراج”، فأجاب “سأكون في الموعد. إلى اللقاء”. إذّاك سمع الصوت يرد “إلى اللقاء”. في تلك الآونة عادت إليه ذكرى لقائه بالسلمجان فبات يردّد هذه الجمل بنشوة وانتصار “أيّها الملك مراد إن كنت ‘السلمجان’، فدع سلطتك تبرز للعيان، أيّها الملك مراد، أظهر قدرتك إن كنت قد انتصرت على ملك الجان السلمجان”.

ترى من كان” السلمجان”؟ ملكا من الجان، أم روحا تسكنه يجهل أسرارها، لا يدري.

[1] ديقاج: الشعار الذي رفع أثناء الثورة التونسية والمرادف لفعل ” ارحل ” باللغة الفرنسية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.