في نقد الإفلات من النقد
مقصود هذه الأسئلة كافة أن نسأل، هل يجوز الإفلات من النّقد بدعوى احترام رأي الأغلبية، أو بدعوى احترام حقوق الأقليات، أو بدعوى أن لا صوت يعلو على صوت المقاومة؟
في أن نقد الديمقراطية لا يقوض الديمقراطية:
لا بدّ من التنويه بأن تلك الأسئلة ليست محلية ولا هي تخصّ المجتمعات الإسلامية على وجه الحصر، بل هي أسئلة كونيّة تشمل كل المجتمعات وإن بدرجات متفاوتة. ومثلا، هل كان يحقّ للمثقّف الفرنسي أن يكفّ عن نقد اليمين المتطرف عقب صعود حزب الجبهة الوطنية إلى الدّور الأول من رئاسيات 2002؟ ثم ماذا لو فاز ذلك الحزب في الرئاسيات هل سيكون نقد خطابه إنكاراً لمبدأ الاحتكام للديمقراطية؟
بكل تأكيد، تبقى الديمقراطية أفضل النّظم المتاحة والممكنة، غير أن هذا لا يمنع من الاعتراف بوجود هشاشة أصلية تجعل الديمقراطية قابلة للانقلاب على نفسها بنفسها. وإلاّ فكيف نفسر أنّ الآلية الديمقراطية لم تسعف الكثير من المجتمعات الغربية في تفادي الصعود الانتخابي لليمين الفاشي؟
لربّما يقال إنّ الحركات المتطرفة والأكثر تطرفا عندنا لا تترشح في الانتخابات، مثل تنظيم “الدولة الإسلامية”، و”النصرة”، و”بوكو حرام” مثلا. لكن ليس الأمر كذلك على الدوام. وإلاّ فما القول في مشاركة جهاديي القاعدة الليبيين في الانتخابات ودخولهم إلى المجالس المنتخبة؟ ولنواجه الأسئلة الحقيقية بجرأة أكبر: ماذا لو تقدّمت “الدولة الإسلامية” إلى الانتخابات العراقية على سبيل المثال؟ وبالأحرى هل الديمقراطية قادرة على احتواء خصومها كما يراهن البعض؟
بكل تأكيد، لا يعدّ السّؤال مجرّد مسألة إسلامية أو شرقية، لكنه أمسى سؤالا كونيا يرتبط بالهشاشة الأصلية للديمقراطية نفسها، غير أن الأمر عندنا في العالم الإسلامي أشدّ تعقيدا لثلاثة أسباب: السبب الأول يتعلق بالوضعية الإشكالية للحركات الدينية والتي قد تحملها نتائج الانتخابات إلى احتكار كل شيء في وقت لم تترسخ فيه تقاليد ومؤسسات وقوانين الدولة الديمقراطية.
السبب الثاني يكمن في أن نفس التيار الديني الذي قد يَضطهد حين يَحكم وينفرد بالحكم ( سودان النميري- الترابي-البشير) هو نفسه قد يُضطهد حين يُحكم وينفرد بالمعارضة (مذبحة حماة مثلا).
والسبب الثالث يكمن في أن المزاج الشعبي لا يرحب بالنقد الموجه ضدّ الحركات الدينية؛ فإنه يرى في ذلك النقد مغالبة للأمر ومكابرة للحق وإنكاراً للمعلوم. وكل ما يتيحه لنا هو النصح متى أمكن ذلك. لذلك ليس مستغربا أن تواجه بعض الدول جرائم التطرف الديني بلجان المناصحة! في الوقت الذي تواجه فيه النشاط الثقافي والحقوقي بالسجن. إنها ثقافة التساهل مع الجريمة الدينية. وليس مستغربا والحال كذلك أن يواجه تنظيم “القاعدة” تنظيم “الدّولة الإسلامية” بخطاب النّصح بدل النّقد الذي لا يعرفانه، حتى وهما في أوج التناحر بينهما في العراق وسوريا. في كل الأحوال نحن الأمة الوحيدة في العالم التي أبدعت أسطورة “القاتل والمقتول في الجنّة…”.
أفخاخ كثيرة نصبناها لأنفسنا. مثلاً، إنّ البسملة التي قد نفتتح بها خطاباتنا السياسية، والتي هي في الأوّل والأخير خطابات سلطة أو مشروع سلطة، تكفي لكي تضعف ملكة النقد لدى المستمعين، سواء عن قصد أو من دون قصد. وكذلك فإنّ نطق أسماء أشخاص عاديين مقرونة بعبارة “رضي الله عنه” لا يعدّ مجرّد تدخل في أمر موكول لله حصراً وإنما يشل ملكة النقد لدى الإنسان. والحال أن خطابنا الموصوف عادة بالخطاب الديني يحفل بالأعاجيب على منوال أنّ فلانا رضي الله عنه قتل فلانا رضي الله عنه لأنه لم يبايع فلانا رضي الله عنه. ما يعني أن من أشعلوا الفتنة في أرض الله، ليس حسابهم عند الله كما كانت تقول المرجئة، لكن الله يرضى عنهم بكل تأكيد، ولا مجال لنقد أقوالهم أو أفعالهم.
كل الشعارات التي تدور حول الإسلام اليوم تصادر على المطلوب، سواء أكانت شعارات من موقع السلطة أو المعارضة أو المقاومة. والمطلوب إعادة طرح السؤال: أي إسلام نريد
شلّ ملكة النقد يعني شيئا واحدا، التعويل على غرائز الجمهور. في المقابل، وحدها كتب التراث الفلسفي والصوفي والكلامي من كانت تميز بين الخواص والعوام (ابن رشد، ابن عربي، الغزالي…) أما كتب الفقه فهي أصلا موجهة لغرائز الجمهور. لذلك كانت القدرة على تأليب العوام هي السلاح الفتاك الذي قاتل به فقهاء الجمهور أمثال ابن رشد والسهروردي وعلي عبدالرازق وطه حسين وغيرهم.
وإذا كان أفلاطون يقول بحق إنّ السياسة هي وظيفة النفس العاقلة على وجه التحديد، فلعل الجموع تمثل أكبر تحد غريزي أمام قيم التمدن كما ترى رجاء بن سلامة في كتابها "نقد إنسان الجموع". لكن هل يعني ذلك التضحية بالخيار الديمقراطي، كما كان يدعو العفيف الأخضر، من أجل حداثة فوقية قد تأتي وقد لا تأتي، وقد تأتي بسرعة وتنهار بسرعة طالما يعوزها الأساس، الشرط الإنساني؟
المعضلة أننا نحاول أن ندخل إلى عصر الديمقراطية ونحن نحمل معنا فقه الجمهور وثقافة الجموع، نحاول أن ندخل إلى عصر الديمقراطية بنفس المنطق الذي كان يؤلب الجمهور على المرأة والأقليات والمثقفين. ما يعني أن الديمقراطية قد تُستعمل في الأخير لأجل تدمير شروطها. وهنا وجه المفارقة.
عود على بدء، هل من حقنا أن ننتقد الخطاب الذي يريده أو يتبناه أو يصوّت عليه الجمهور؟ هل من حقنا أن ننتقد الخطاب الفائز بأغلبية الأصوات في الانتخابات أو الاستفتاء؟
مباشرة بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم عقب انتصار ثورة الياسمين، ظهر من يحتج على أنصار الحداثة بالقول: أنتم لم تفوزوا في الانتخابات، الشعب لم يصوت لكم، فاصمتوا على الأقل، واتركوا الديمقراطية تقرر بنفسها. ما يعني أن المطلوب من الحداثيين هو الكف عن النقد بدعوى أن صناديق الاقتراع قالت كلمتها. والكف عن النقد معناه التوقف عن التفكير.
ثمة سوء فهم مذهل، كما لو أنّ الفوز بالأغلبية الانتخابية يشبه انعقاد البيعة بالإجماع؟ وبالتأكيد، فقد سمعنا ما يكفي من المصطلحات الهجينة: البيعة بالاقتراع، غزوة الصناديق، الشورقراطية، إلخ، خلط مذهل في المفاهيم والمرجعيات على طريقة ماكدونالد حلال، والمايوه الشرعي، والبنك الإسلامي، إلخ.
ويبقى السؤال قائما، هل يجوز من وجهة نظر ديمقراطية أن ننتقد الرأي الفائز بالأغلبية؟
طبعا يجيز الكثيرون النصيحة حين يبديها “أهل النصيحة”، لكننا نتساءل هنا عن النقد وليس النصيحة، نتساءل عن الحق في النقد، عن حق المثقف في ممارسة وظيفته النقدية، ليس فقط نقد الأيديولوجيات المهزومة حيث النقد يتطلب القليل من الشجاعة، وإنما أيضا وبالأولى نقد الأيديولوجيات المنتصرة أو التي قد تنتشي بالنصر دون أن تحسب أيّ حساب للكلفة.
الرهان على غرائز الجمهور لعبة خطرة قد تدمر الديمقراطية نفسها. لذلك أوجدت الديمقراطية المعاصرة عدة احتياطات دستورية ومؤسساتية للتخفيف من أخطار الهشاشة الأصلية للديمقراطية، من بينها: الانتخابات عبر دورتين؛ التفاوت الزمني بين الانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية؛ إشراف السلطة القضائية على الانتخابات وأثناء النزاع بين السّلط؛ نظام الكوتا؛ دسترة حقوق الأقليات؛ دسترة حرية التعبير؛ ترسيخ دور المجتمع المدني كسلطة مضادة؛ إلخ.
لوحة: محمد عمر خليل
هذا يعني أن مفهوم الديمقراطية نفسه قد تطور لأجل حماية المكتسبات الديمقراطية من التقلبات الديمقراطية. وهو التطور الذي تحقق بفعل إعمال العقل النقدي في مفهوم الديمقراطية نفسها.
في كل الأحوال لا شيء يعلو على سلطة النقد، ولا يمكن بأيّ حال توظيف المشروعية الديمقراطية ضد حق الإنسان في أن يفكر وأن يعبّر. وإذا كانت الدساتير الديمقراطية تصرّح في الغالب بحرية التعبير، فلأن حرية التفكير يُفترض أنها مثل التنفس الطبيعي لا تحتاج إلى تصريح.
في فرنسا خلال أواسط سنوات الثمانين من القرن الماضي، وعندما فتحت الدّولة نقاشا شعبيا لأجل إلغاء عقوبة الإعدام، كان المزاج الشعبي العام يميل إلى إبقاء العقوبة. ولو تم الاحتكام إليه لما ألغت فرنسا عقوبة الإعدام. لكن شجاعة وزير العدل وقتها دفعته إلى إصدار قرار إلغاء تلك العقوبة البدائية من القانون الجنائي الفرنسي، بمعزل عن المزاج الشعبي.
وبالمناسبة دعنا نقول: الإعدام جريمة، سواء نفذ باسم الدين أو كان ضحيته من يتكلمون باسم الدين. ولنتكلم بصراحة، فقد كان إلغاؤه يتطلب انخراط الإسلاميين في معركة إلغاء الإعدام، وكان ذلك سيمثل مكسبا للجميع وخطوة كبيرة للحد من أيّ استبداد محتمل سواء باسم الدين أو باسم شيء آخر. وكان فهما جديدا للدين من شأنه أن يغير من مزاج الجمهور المسلم. لكن لا أحد اكترث بالأمر فيما يبدو. أين المشكلة؟ المشكلة مرّة أخرى هي الاحتكام لغرائز الجمهور من أجل ماذا؟ من أجل السّلطة. كما لو أنّ السّلطة ستفتح خزائن الأرض، وهذا وهم، لكنه وهم قاتل في بعض الأحيان.
دعنا نعيد القول الذي قلناه للحركات الدينية مرّات ومرّات: لا تعوّلوا على دغدغة عواطف الجمهور؛ لأنّ الجمهور الذي يبايعكم اليوم بالعاطفة يبيعكم غدا بالعاطفة. ماذا كان ردّهم؟ مزيداً من المزايدة: الشّعب يريد تطبيق شرع الله. ثم أين التفاصيل؟ ألا يدعونا تكريم الله لابن آدم أن نلغي عقوبة الإعدام أولا؟ ألا يدعونا تكريم الإسلام للمرأة أن نلغي تزويج الصغيرات أولاً؟
في الواقع، كل الشعارات التي تدور حول الإسلام اليوم تصادر على المطلوب، سواء أكانت شعارات من موقع السلطة أو المعارضة أو المقاومة. والمطلوب إعادة طرح السؤال: أي إسلام نريد، إسلام ابن تيمية وابن حنبل، أو إسلام ابن عربي والسهروردي، أو إسلام ابن رشد والفارابي، أو هناك إسلام جديد لا يزال يبحث عن صياغته؟ فهل يكفي الاحتكام للجمهور حتى نجيب عن أسئلة الدين والهوية والوجود التاريخي؟
لا أحد من الشيوخ الذين يعارضون سياقة المرأة للسيارات في السعودية يستدل بنص ولو ضعيف موقفه، لا دليل غير الاحتجاج برأي الجمهور، وبمزاج الجمهور الذي علينا فقط احترامه (هكذا!). ثم، أين أصوات “المعتدلين” من هذه الغوغائيات المدمرة؟ مؤلم فعلا أن يتألم أحد مفكري الثورة السورية، ياسين الحاج صالح، ويشتكي ليس فقط من جماعات تنظيم “الدولة الإسلامية” و”النصرة” والتي لا تزال تختطف زوجته إلى الآن وتختطف أخوين له وكثير من أصدقائه، وإنما يشتكي من الإخوان المسلمين أنفسهم الذين لم يكلفوا أنفسهم أيّ عناء في استنكار جريمة اقترفها الجهاديون المرتزقة ضد أحد أبرز وأصدق أصوات الثورة السورية. مرّة أخرى فنحن أمام نفس المنطق: السلطة أوّلاً، الإنسان ثانياً.
لذلك، إذا صرفنا النظر عن السلفية الكلاسيكية في شخص جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والطاهر بن عاشور وعلال الفاسي وغيرهم، وإذا استثنينا قلة قليلة من الحركات الصوفية، فبالنسبة إلى الإسلام السياسي على وجه التّحديد لا وجود لأيّ حركة دينية تناهض العنف ضدّ النساء أو الاعتداء على الأقليات أو تعترض على خوصصة التعليم والصحة أو تجرّم التملص الضريبي أو تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام… إلخ. نعم، بعضها يقاوم الاحتلال في بعض المناطق المحتلة، وهذا عمل جليل لا أحد ينكره، لكن ماذا عن بناء البيت الداخلي لمجتمعاتنا، لحضارتنا، لأوطاننا، لإنساننا؟ ماذا عن معركة تحسين ظروف الحياة لأبنائنا وبناتنا؟
ولست أشك في هذا، باسم الدين، ومن منظور الدين، كان يمكن خوض معارك حاسمة في تحسين نوع الحياة، لكن المعضلة كل المعضلة كانت في التركيز طول الوقت على كيفية الوصول إلى السلطة.
والحق يقال، حتى في الغرب نفسه لم تتطور مفاهيم وقيم حقوق الإنسان إلاّ من خارج الرهان على السلطة وعلى أصوات الناخبين. لقد تبلورت آخر مفاهيم حقوق الإنسان بفعل المجهود النّقدي والممارسة النقدية للمجتمع المدني كسلطة مضادّة، وللمثقفين التنويريين كمربين للشّعوب.
في أنّ نقد الأقليات لا يقوض حقوق الأقليات:
ليس يخفى أنّ إحدى وظائف المثقف التنويري الدفاع عن الأقليات، عن كافة الأقليات الدينية والثقافية والعرقية واللغوية والجنسية، وعن حقها في الوجود وحقها في التعبير والذي هو بالأساس حق في التعبير عن الوجود. هذا لا شك فيه. لكن، إذ يتحرج الكثير من المثقفين، حتى في المستوى العالمي، من نقد الأقليات في بعض المواقف التي يكون فيها النّقد ضروريا، بدعوى أنّ النّقد قد يكون مدخلاً إلى اضطهاد تلك الأقليات، فإننا نرى بأنّ موقف المثقف التنويري يجب أن يكون واضحاً لا لبس فيه: إنّ الدفاع عن الأقليات لا يعني بأيّ حال أن نجعل الأقليات فوق النّقد؛ لأنّ الإفلات من النّقد في هذه الحالة يحول الأقليات إلى أدوات لاضطهاد أقليات الأقليات، أي أن الأقليات نفسها قد تشرع في اضطهاد الأقليات “الجزئية” داخلها باعتماد معاييرها الخاصة للعدالة وللسّلوك الحسن. إذ لا وجود لأيّ أقلية خالصة متجانسة بنحو مطلق، بل كل أقلية ما هي إلا ثمرة تركيب معقّد لعدّة أقليات متشابكة ومتداخلة، ما يجعل داخل كل أقلية أقليات كامنة أو ظاهرة، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلاشا والسّامريين وسط اليهود، وكما هو الحال بالنسبة إلى المسيحيين العرب وسط عرب إسرائيل، أو كما هو الحال بالنسبة إلى السّود الأمازيغ وسط الأمازيغ، أو شيعة الأكراد وسط عموم الأكراد، حيث يصعب العثور في الأخير على الجزء الذي لا يتجزأ ضمن منظومة الأقليات. دون أن ننسى أن النساء أكبر أقلية وسط كل الأقليات، وأن الفرد أصغر أقلية وسط كل الأقليات.
أي نعم، دور المثقف الدفاع عن الأقليات، وعن أقليات الأقليات، لكن دون أن ينسى وظيفته الأولى والأساسية، الوظيفة النقدية، سواء تعلق الأمر بنقد خطاب الأقليات أو نقد خطاب الأكثريات، لا فرق.
من ناقل القول إننا هنا إزاء سوء فهم مذهل لدلالة النقد. وهذا يذكرنا بالكثيرين ممن قرأوا كتاب "نقد الحداثة" لألان تورين من عنوانه، فجعلوا العنوان شعارا على "إفلاس الحداثة الغربية"
في أنّ نقد المقاومة الدينية لا يقوض المقاومة:
هناك أسئلة تفصيلية على النمط التالي: هل يمكنك أن تكون ديمقراطيا إذا كنت ستستمرّ في انتقاد الإسلام السياسي في سوريا مع أن معظم فصائله تحارب الاستبداد الأسدي؟ هل يمكنك أن تكون مناصرا للقضية الفلسطينية إذا كنت ستستمر في انتقاد الإسلام السياسي علما بأن معظم فصائله تقاوم الاحتلال الإسرائيلي؟
من نافل القول إننا هنا إزاء سوء فهم مذهل لدلالة النقد. وهذا يذكرنا بالكثيرين ممن قرأوا كتاب “نقد الحداثة” لألان تورين من عنوانه، فجعلوا العنوان شعاراً دالا على “إفلاس″ الحداثة الغربية، ومن ثمة يكون “الحل هو الإسلام”! هؤلاء يجهلون بأن العقلانية نفسها تطورت بنقد نفسها، التنوير كذلك، مفاهيم كثيرة مثل التقدم، المجتمع الصناعي، التنمية، وحتى الرأسمالية نفسها لم تتطور إلا بفعل قدرتها على استيعاب كل الانتقادات التي طالتها سواء من داخلها أم من خارجها. لذلك يعدّ النقد حالة صحية بكل المقاييس. وبالطبع يواجهنا اعتراض حاد: لماذا نركز النقد في هذه الأثناء على الحركات الدينية؟ أليست الحركات الليبرالية واليسارية والتيارات المدنية تستحقّ النّقد بدورها؟ هناك معطى حاسم: الحركات الدينية هي الأكثر قوة وشعبية وتأثيراً، وهي بسبب ذلك الأكثر تعبيراً عن أزمتنا الثقافية والحضارية. نعم، إنها ليست سبب الأزمة، لكنها على وجه التحديد تمثل المظهر الأكثر تعبيراً عن الأزمة. إنّ جوهر الأزمة السورية اليوم لا يتعلق فقط بطبائع الاستبداد الأسدي وإنما يتعلق أيضاً بالتنظيمات الدينية الجهادية والتكفيرية التي حوّلت إحدى أعظم ثورات ما كان يعرف بالرّبيع العربي إلى فتنة دينية وحرب طائفية تأكل اليابس والأخضر. ومع ذلك يبقى السؤال الحقوقي وارداً: الجريمة يعاقب عليها القانون، والذي يعاقَب هو الشخص أو الأشخاص الذين اقترفوا الجريمة، ويجب أن يحاكموا أمام قضاء منصف وعادل، وفي كل الأحوال لا يجوز للاتهام القضائي أن يشمل الخطاب الأيديولوجي.
من واجب القانون الجنائي أن يعاقب المجرم ويترك الأيديولوجيا والخطاب الأيديولوجي جانبا. هذا صحيح من وجهة نظر حقوقية وقانونية. لكن، إن كان القانون الجنائي لا يجب أن يهتم بالأيديولوجيات فهذا يعني أن نقد الأيديولوجيات أكانت دينية أم وضعية يبقى وظيفة المثقف التنويري على وجه التحديد.
على أن اختيار المثقف للأيديولوجيا التي سيشملها النقد خلال كل مرحلة من المراحل ليس مسألة متعلقة بمزاج المثقف وإنما هي متعلقة بالأيديولوجيات الغالبة أو المتمكنة أو التي تحظى بفرص أكبر للتغلب والتمكين.
النزوع الغالب على جمهور الحركات الدينية هو تأثيم النقد، لا سيما النقد الموجه ضد التيارات الدينية نفسها. وهو تأثيم يعزف في نفس الأثناء على ثلاثة أوتار غير متجانسة: وتر امتلاك الحقيقة، وتر امتلاك المشروعية، ووتر مقاومة الاستبداد أو الاحتلال.
الخلط بين هذه المستويات الثلاثة أثناء تأثيم النّقد الموجه للحركات الدينية، يجعل الدفاع عن الحق في النقد أمرا بالغ الصعوبة. ولذلك، لابد من توضيح أولي للسّؤال: لماذا لا يجوز لنا أن ننتقد الحركات الدينية، هل لأنها تمتلك الحق الإلهي؟ أم لأنها تمتلك الأغلبية الانتخابية؟ أم لأنها قد تعارض الاستبداد أو الاحتلال؟ اللعب على الأوتار الثلاثة دفعة واحدة يؤدي إلى سوء التفاهم؛ لأنّ المستويات هنا تختلف من حيث المرجعيات، ولا يمكن الخلط بينها بأيّ حال. لا يمكنني أن أقول لك مثلا سأعمل برأيك لأن العقل يقول إنه صحيح، وأيضا لأن الناس يقولون إنه صحيح، وأيضا لأن الشيخ فلان يقول إنه صحيح. مستويات الحجاج هنا متفاوتة ومتنافرة. ففرق كبير بين أن تكون الحجة صواب الرّأي، أو تكون الحجّة اعتقاد الجمهور بصواب الرأي، أو تكون الحجة رأي هذا الشيخ أو ذاك.
الغالب على الإسلاميين هو نفسه ما كان غالبا على الفقهاء القدامى، مجاراة غرائز الجمهور. وحين نقول الغرائز فنحن نقدّر بأن الجمهور حين لا يفكر طالما التفكير مهارة فردية، وحين لا يتعلم ممارسة التفكير طالما أن التفكير ممارسة نقدية، وحين يمكث في مستوى الوجود الغريزي، فإنه يميل طبيعيا إلى التعصب للرّأي، والتوجس من الآخر، والخوف البدائي من أن يصيب العقاب الإلهي الجميع بسبب تصرفات البعض، والنزوع إلى الغيرة البدائية على نساء العشيرة، إلخ.
هكذا هي الأمور عندما ينحدر منسوب التفكير والثقافة والعقل النقدي في أيّ مجتمع كيفما كان.
بل، إنّ النّقد ليس مجرّد حق من الحقوق، لكنه واجب أخلاقي وإنساني وسياسي في معظم الأحيان. وضمن ذلك لا يغمرنا أيّ شك في أنّ نقد دور الحركات الدينية في إجهاض ما يسمى بالربيع العربي يبقى من أوجب واجبات العقل النّقدي اليوم.
والحقّ يقال، تعدّ الثورة السورية المجهضة بمثابة النّموذج الأبرز لخطايا الحركات الدينية في العالم الإسلامي، المسمّاة بالمعتدلة، والتي وقع عليها رهان دولي وعالمي كبير لغاية احتواء الحركات الدينية المتطرفة والأكثر تطرفاً.
في اللحظة التي انتقلت فيها الثورة السورية من الحراك السلمي إلى الحراك المسلح انتقلت موازين القوى ميدانيا وتدريجيا لفائدة الإسلاميين. لذلك وبصرف النّظر عن مآل الرئاسة فقد كان المجلس الوطني المعارض في الخارج يتألف من أغلبية تنتمي إلى الإخوان المسلمين. وكان الأمر يبدو كما لو أنه يستجيب لأربعة تطلعات: أولا، إنصاف الإخوان المسلمين الذين أبيدوا بعد مجزرة حماة ولم يعودوا إلا مع اندلاع الثورة السورية؛ ثانيا، التمثيلية الافتراضية للإخوان المسلمين لجل المناطق السنية والتي يُفترض أنها تؤلف بؤر الثّورة؛ ثالثاً، بسبب التركيبة الطائفية لسوريا لا خوف من أن يحتكر الإخوان هياكل الدولة؛ رابعا، لربما يكون الإخوان وبالتعاون مع كل من تركيا وقطر الأقدر على احتواء الجهاديين والتكفيريين الذين يقاتلون بجانب الثوار، حتى لا تبتعد الثورة كثيراً عن أهدافها التحرّرية.
انطلاقا من التطلع الرّابع بدأ تفخيخ الثورة السورية. كان المال القطري سخيا، وكان الدّعم السياسي واللوجستي التركي كبيراً، وكانت خلايا الإخوان المسلمين أولى قنوات تسرب الجهاديين الأوائل إلى داخل شرايين الثورة السورية مروراً بالحدود التركية وبمباركة المخابرات التركية نفسها. لكن، مرّة أخرى، وكما حدث في ميدان رابعة بالقاهرة إبان مقاومة الانقلاب، انفلت زمام المبادرة من يد “المعتدلين” وانتقل على حين غرة إلى يد الجهاديين المتطرفين ثم الأكثر تطرفا. وفي كلتا الحالتين انتهى الأسلوب الديني في المقاومة إلى تفخيخ نفسه بنفسه. لربما هو الاغترار بالجمهور. لكن الأمر فوق ذلك متعلق بإفلاس الرهان على أساطير الوسطية والاعتدال.
الآن، وقد “أجهضت” الثورة السورية بفعل الرهان غير المحسوب على التكفيريين، كما حدث في ليبيا، فهل كان يجب السكوت عن خطايا أردوغان في حق الثورة السورية بدعوى أن الرجل يمتلك الأغلبية الانتخابية في بلده، وأنه سيساعد في تحقيق الغاية، إسقاط الأسد؟ هل كان يجب السكوت عن خطايا الإخوان المسلمين في سوريا بدعوى أنهم يمتلكون أغلبية عددية في المجلس الوطني، وأنهم من أبرز ضحايا النظام الأسدي، وفوق ذلك يحتمل أن يفوزوا بالأغلبية في أولى الانتخابات فيما لو سقط نظام الأسد؟
أتذكر أنّ في بداية الحراك السوري كانت هناك صفحة فايسبوكية نشطة ورائدة أنشأها شباب الحراك تحت عنوان “نقد الثورة السورية”. في تلك المرحلة كان نقد الثورة جزءا من الثورة نفسها. لكن، كثير من رواد الصفحة اعتقلوا من طرف قوات النظام والباقي هاجروا إلى خارج سوريا هربا من متطرفي الثورة، وبقيت الثورة السورية في الأخير يتيمة بلا نقد ولا نقاد. وبكل تأكيد عندما يتلاشى النقد يتلاشى كل شيء. هل نسينا هذا؟
لقد تطورت الحداثة السياسية بمفعول النقد الذي تعرضت له (نيتشه وفوكو مثلا)، تطورت العقلانية بمفعول النقد الذي رافقها منذ كانط إلى كارل بوبر وهابرماس، وتطورت المسيحية الغربية بمفعول النقد الجذري الذي تعرّضت له النصوص المقدّسة من طرف سبينوزا وفيورباخ.
إن النقد لا يعني بأيّ حال من الأحوال العدوان على حقوق الآخرين وعلى رأسها حقّ الإنسان في الوجود، إنه يعني فقط فتح الباب أمام التطور والتجاوز والطموح الإنساني نحو إمكانيات أفضل للوجود الإنساني بكل أبعاده، وضمنها البعد الديني أيضاً.
وأما إذا كان المنقود يحظى بالأغلبية أو بالمشروعية أو بالمظلومية، فإن كل هذا لا يمنحه العصمة في أن يقول ما يشاء، وأن يفعل ما يشاء، بلا حسيب ولا رقيب. ليست هناك أيّ فكرة أو قضية تملك الحصانة من النقد.