قبائل ثقافية في العصر الرقمي
” في هذه العقود الأخيرة وبعد أن أصبحنا واحداً
قمت بملامسة أشياء رائعة
لكنني اكتشفت فيما بعد أنها أشياء فضيعة “
(الشاعر الإنجليزي جيم ديفيز)
في هذا العصر الرقمي العظيم لا شك أن البشرية تكون قد حققت ما عجزت عن تحقيق مساحة هامشية صغيرة منه فيما سبق.
التراكم غير المسبوق للبرمجيات التي قادت إلى نظام متكامل صار على الأفراد والمجتمعات التقيد به والخضوع له وليس العكس.
كل تلك الإجراءات اليومية هي نظام رقمي صارم ابتداء من كلمات المرور إلى البريد الإلكتروني إلى أرقام المرور إلى الحسابات إلى رقم المرور إلى المنزل ومن دون ذلك سوف تصبح خارج المنزل اي أنك سوف تبقى خارج النظام.
الفضاء الرقمي صار يمنح كل مفردات الحياة شكلا محددا مختلفا، لكن في المحصلة تلتقي تلك الأشكال والمفردات في سلاسل ضخمة ومتسعة تطوق الأفراد من كل جانب.
الاندلاع المعرفي والقرية الاتصالية الصغيرة التي تنبّأ بها علم الاتصالات مارشال مكلوهان قبل عقود تجاوزتها البشرية إلى القرى الرقمية والسلاسل المعرفية التي تنتظم في أنساق وتسير في مسارات خاصة غير مسبوقة.
هذا الواقع حمل معه الكثير من الإشكاليات والأسئلة والتعقيدات لكن في المقابل حمل معه رضا وتصالحا مع الواقع الجديد والتسليم به على اعتباره أمرا واقعا لا مناص للمرء من الانخراط فيه.
لنحاول خلال ذلك مقاربة ما نعنيه بمعضلة العالم الرقمي في مواجهة السلوك الإنساني، فالأفراد الذين ينتظمون في مجتمعات ضمنوا منذ الطفولة مبدأ الفردانية والخصوصية في العديد من النقاط والقضايا التي يتم فيها امتحان القدرات والضبط الشعوري.
الأفراد مطالبون مبكرا بالدفاع عن قيم ما تنتظم في الغالب في إطار الخصوصيات، السلوك الشخصية والروابط العائلية والقيم العاطفية والأسرار الشخصية كلها تنتظم فيما نقصده بالقضايا التي يدافع عنها الفرد مبكرا وينشأ على عدم المساس بها لكن كيف الحال وهذه كلها يتم الدفاع عنها من طرف الأفراد فيما تتدخل قوى رقمية وتفكك كل هذه المنظومات وتحللها وتختزنها وتفعل بها ما تشاء.
هذه المعطيات مجتمعة سوف تقودنا إلى تحديد المدى الزمني الذي يمكننا من خلاله المضي في هذا النظام الذي يؤطرنا وإلى أيّ مدى وإلى أيّ نتائج ومخرجات سوف يقودنا؟
سؤال من أسئلة عدة قد لا يتوفر عنها جواب واضح ومؤكد وذلك بسبب إطباق النظام الرقمي وتكامله وتغلغله في حياة الأفراد حتى يغدو من الصعب أو المستحيل التكهن بالنتائج والنهايات غير المرئية.
النظام الرقمي يطوّر ذاته والمبرمجون لا يتوقفون عن المجيء بتطبيقات جديدة ليس بالضرورة تلبية لحاجة المجتمع أو حاجة شريحة اجتماعية بعينها بل إن هنالك ضرورة في مثل هذه الحالات وهي أن تلك التطبيقات الجديدة إما أنها تتوالد بناء على حاجة مؤسسات وشركات ومراكز متخصصة ومؤسسات أمنية ومخابراتية.
في المقابل هنالك سوق لا حدود لها تسبح فيها البرامج ويجري نسخها وتطويرها وضخها في سياق نظام تجاري رقمي لا يعرف الحدود؟
هذا هو المقترب الأول الذي نحن بصدده هما والذي يمكن فهمه من خلال منطق مبسط خلاصته: إننا نمنحك امتيازات في مقابل مقايضتها بالخصوصيات.
الخصوصيات الرقمية المحاصرة
أن تعيش في العصر الرقمي معناه أن يكون لديك ملف. الجميع يتم إدخالهم في ملفات ما داموا في تلك الدائرة. العصر الرقمي يوفر لك امتيازات غير مسبوقة في مقابل منح خصوصياتهم.
لا أحد في الواقع مستعد لذلك لكن مجرد انخراط الفرد في النسق والنظام الرقمي سوف يجعل منه مفردة تداولية يتم التفاعل معها وتفعيلها.
النظام الرقمي يوفر لك تسهيلات لا تحصى، يحفظ لك يوميات عملك، يتيح لك التعامل المالي المباشر، تحوّل وتتسلم أموالا، البنك الرقمي سوف يكون بين يديك وسوف يعدك بالمحافظة على معلوماتك الشخصية بل إن هنالك من يقول لك صراحة أنه لن يبيعها لطرف ثالث.
لكن الواقع يقول إن الولوج إلى المعلومات الشخصية لن يكون حكرا على الطرف الثاني بل سيكون هنالك طرف ثالث متربّص وهي قبيلة القراصنة والهاكرز وهؤلاء لا تعرف أين سيهجمون ومتى سيهجمون وماذا يستهدفون.
هذه الظاهرة في تواجد القبائل الرقمية هي حالة أخرى تكمل المشهد إذ لولا وجودها والخوف منها لما تم إنفاق بلايين الدولارات على أنظمة الحماية وجدران الناس وأنظمة مكافحة الفيروسات والإكثار من البوابات وما إلى ذلك.
لقد أوجد النظام الرقمي أيضا ما يعرف “gadgets” ومن خلالها يمكن النفاذ إلى الخصوصيات ومن ذلك منصات التواصل الاجتماعي المختلفة وهي ظاهرة غير محسوسة وبعيدة عن الرصد لأن المستخدمين لن يلحظوا شيئا غريبا بينما تكون تلك الأدوات تفعل فعلها في تتبع الأفراد والجماعات والتوغل في خصوصياتها.
نعم يمكننا القول إنها خصوصيات رقمية محاصرة بأدوات ووسائل ذكية يجري تطويرها بشكل مطّرد.
وإذا مضينا في `ذلك يمكننا تلمس واقع الفرد المحاصر من دون أن يدري ومن ذلك فإن مجرد استخدام شبكة الإنترنت سوف يخلف وراءه عددا من المخلفات التي تدل على شخص المستخدم أو تساعد في الاقتراب من عالمه والتعرف عليه.
التفضيلات في الاستخدام هي أولى العلامات التي تساعد في التوصل إليها أنساق الكوكيز وبالتالي يمكن معرفة المواقع الأكثر تفضيلا لدى المستخدم وتاليا ميوله واتجاهاته.
لم يكن بعيدا عن ذلك ما عرف بـ”فضيحة كامبريدج أناليتيكا” التي اندلعت في العام 2018، هذه الفضيحة هي أسطع دليل ملموس على الخصوصيات المحاصرة بالخوارزميات والكوكيز والجادجيتس وغيرها، عندما تم التسلل إلى الصفحات الشخصية لعشرات ملايين المستخدمين في أكبر حملة عالمية لاستخدام البيانات الشخصية من دون إذن مستخدميها لأغراض تحليلية تتصل باهتمامات الأفراد وخاصة أن الأمر كله ارتبط بحملة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب الانتخابية.
المعلومات الشخصية اندرجت في سلة كاملة من أدوات ووسائل التضليل والتشويش على ملايين الناخبين أو المواطنين العاديين وهو ما اعترفت به علانية الشركة البريطانية الشهيرة “أس سي أل” التي تتفاخر بأن بإمكانها الوصول إلى أدق الحقائق الرصينة من خلال شتى الأدوات سواء منها النظيفة أو القذرة.
تؤسس قصة كامبريدج أناليتيكا عهدا جديدا فضائحيا يتم التصالح معه والرضا به من طرف جمهور عريض لم يعد يشغله كثيرا الوصول إلى بياناته الشخصية أو التعرف على أدقّ المعلومات عنه.
إنه في الواقع تشكيل لما بعد محاصرة المجتمعات باستهداف الخصوصيات والبيانات الشخصية إلى مرحلة بديهية تتمثل بقبول الأمر الواقع في مقابل الخدمات.
نحن نجرّب استخدام تطبيقات من دكان غوغل أو دكان أبل وفي كل مرة وما أن ينزل التطبيق في الهاتف ستظهر لك شروط من أهمها أنك تأذن بالولوج إلى قائمة الهاتف الخاصة بك وبما فيها من تتصل بهم، ثم يطلب منك السماح بالدخول إلى ألبومات الصور، ثم السماح بالارتباط بالمايكروفون الخاص بالموبايل وبما يعنيه الإنصات وتسجيل المكالمات.
يعود بنا ذلك إلى فيلم “المخفي” أو “المجهول” للمخرج أندرو نيكول وهو من أفلام الخيال العلمي ويعرض لنا صورة افتراضية لحياة انعدام الخصوصية حيث صار بإمكان كل شخص بوساطة نظام مغروس في داخله استخراج المعلومات الشخصية لأيّ شخص يصادفه في الطريق أو في مكان عام.
تقنية التعرف على الوجوه تصبح بديهية حياتية ولا يخرج عن النظام أيّ أحد فالجميع خاضعون لتقنية التعرف المباشر والبشر يتحولون إلى مجرد أرقام وبيانات في نظام إحصائي وأمني صارم لا يخرج عنه أي أحد وإن خرج فسوف يتم اكتشافه فورا وإعادته إلى الحضيرة الرقمية ولو بالقوة.
الشاشات المتقابلة
تقدم الأنظمة الرقمية فضاء اجتماعيا فريدا من خلال اختصار وتقريب المسافات بين الأفراد وصولا إلى الحميمية والتآلف من خلال التحاور بشكل مباشر.
في المقابل تبرز في وسط إشكالية الخصوصية أن هذا الحوار قادنا إلى شكل جديد من أشكال العلاقات الغريبة، فمع تطور الذكاء الاصطناعي صار نقل الخصوصيات والمعلومات الفردية يكتسب شكلا آخر.
الذكاء الاصطناعي واللوغاريتمات بإمكانهما أن يرسما مسارا سلوكيا وعاطفيا ونفسيا افتراضيا للشخصيات وذلك من خلال التعمق في الخصوصية والتوصل إلى سيرة حياة الشخصية ومواقفها ومفردات حياتها.
يعرض فيلم حديث تحت عنوان “تطبيق” للمخرجة إليسيا فوكساس كيف أن الذكاء الاصطناعي يتوغل إلى قرارة العلاقة بين رجل وامرأة افتراضية تتمكن من تغيير مساره الحياتي بالكامل وربما تدفع بعض الشخصيات التي تعاني من مشكلات شخصية إلى تجربة المخدرات وصولا إلى الانتحار أو ارتكاب جرائم.
الحوار الذي نتحدث عنه هو حوار مفضل في ظل الاغتراب الذي يعانيه الأفراد والعزلة التي يعيشونها بسبب ضغوطات الحياة.
صار الفرد في بعض الأحيان يفضل التحاور مع المجهول والغامض الذي يستمع إليه بدلا من البشر الحقيقيين الذين سرعان ما يسأم من معاشرتهم ليعود إلى قوقعته.
لا شك أن نجاح تلك المقاربة الرقمية يكمن في الزمان والشخصية، فالفرد الذي يشعر بالانعزال ولا جدوى العلاقات الطبيعية ولا جدوى الزواج والإنجاب ولا جدوى الأصدقاء يجد أن البديل الافتراضي قد اعدّ لنفسه مكانا في هذه الحياة.
الزمان المتسارع يتيح متسعا في حياة الأفراد المعزولين إلى المعالِجات الرقمية فائقة السرعة، إذ بإمكان تلك المعالِجات أن تفي باحتياجات الفرد أيّا كانت كما بالإمكان تشكيل روبوت أو كائن افتراضي يماهي حياة الفرد المعزول ويتكامل معها.
في ظل وضع تكاملي كهذا تتبدد الخصوصية ونتحول إلى الفضاء الطارد للخصوصية أو الذي يمحو الخصوصية أصلا وصولا إلى كائنات رقمية – بشرية تسبح في الفضاء الافتراضي في شبه غيبوبة عن الواقع.
لهذا ليس مستغربا أن نشاهد حشودا بشرية ترتدي تلك النظارات الضخمة وكل منهم يسبح في فضائه الخاص ويلتقي مع شخصيات تقف إلى جواره مباشرة من دون أن يدرك ذلك وكأنهم يقيمون في مجرات أو كواكب اخرى.
هنا سوف نعود إلى فكرة اللعب او الطاقة الزائدة التي تكاملت فلسفتها عند شيللر ثم تطورت لدى هيريبرت سبنسر، هنا نحن ننطلق من ذات المبادئ الفلسفية العميقة لحقبة مختلفة لكننا سوف نلتقي مع تلك الأرضية الفلسفية من خلال رسم صورة الفرد الذي يصبح عنصرا أساسيا في فضاء اللعب.
شاهد الاستعارات المتعددة للاسم واللون والبلد لأولئك الفتية الذين يمارسون ألعاب الفيديو بينما هم يقيمون في بلدان متعددة.
هذا النوع من فائض الطاقة واللعب يقدم شكلا حواريا رقميا فريدا وغير مسبوق في تشكل مجتمعات اللعب التي تذوب فيها الخصوصيات بشكل كلّي ويتحول فيها الأفراد إلى مجرد لاعبين عابرين ممسوحي الهوية.
الماسح المكاني والفرد الرقمي
يتماهى الفرد مع المكان ويصبح المكان من بين خصوصياته، أين يعيش جغرافيا وفي أيّ بيئة وفي أيّ محيط، لكن الفرد الرقمي سوف يجد نفسه في مواجهة الماسح المكاني الذي بالإمكان أن يجري تفعيله فيتحول الكائن إلى مجرد نقطة في مكان شاسع.
يدرس الباحثون كيث غولدشتاين وواود شيف ودان برازيس ذلك التحول المكاني – الرقمي للكائن البشري من خلال استقصاء نظام الخصوصية التي ما تلبث أن تصبح مباحة تحت بند المحافظة عليها بينما يمكن التفتيش فيها.
مكانيا، سوف يتم إحصاء الأماكن التي كنت قد ذهبت إليها في الماضي وسوف يتم توجيهك للأماكن التي تريد الذهاب إليها في الحاضر وبذلك سوف يكون هنالك بروفايل مكاني للشخصية يكشف عن بعد آخر منها من خلال علاقتها مع المكان والجغرافيا المكانية والأهداف التي من وراء ذلك.
الخوارزميات بإمكانها أن تقدم لك فورا عشرات الأماكن المشابهة إن كنت تبحث عن منزل للإيجار أو للشراء وبذلك سوف يكون العالم الرقمي شريكا في الخصوصية من جهة ومقدّما خدماته المجانية المريحة من جهة أخرى، فإلى أيّ طرف سوف ينحاز الفرد، إلى تشبثه بخصوصياته أو اختصار الوقت والجهد والمال؟
التتبع الرقمي للأفراد واقتفاء أثرهم لم يعد إلاّ مفردة من مفردات الزمن الرقمي إذ أن الضرورات الأمنية مثلا تستدعي ذلك الاقتفاء وملاحقة مطلوبين وبذلك سوف يكون الفرد مجرد نقطة متحركة في بقعة مكانية.
الفرد الغافل عن عملية التتبع هو جزء من نظام كامل يتحدث عنه الباحثون الثلاثة المذكورون آنفا وهم يتحدثون عن استهداف فئات اجتماعية أو شرائح أو إثنيات أو جماعات عرقية وصولا إلى جماعات إجرامية.
على هذا الصعيد المتعلق بذوبان الخصوصية هنالك حتمية لا سبيل لتجاوزها وهي ما أشرنا إليه في البداية من أن النظام المحك صار يفرض أنساقه الخاصة وعلى الفرد أن يتكيف معها بل إن ما هو أبعد من ذلك هو أن تتطور الخوارزميات والذكاء الاصطناعي بصفة عامة إلى وضع نظام أشد صرامة لا سبيل للإنسان الفرد الأعزل أن يتمرد عليه أو أن يرفضه أو أن يجري أيّ تعديل عليه.
في الجدل الثقافي المتعلق بالذات والمجتمع والهوية سوف نكون في مواجهة النظام ليضاف إلى مجمل التحديات.
ليس المقصود بالطبع النظام السياسي بل النظام الرقمي ونظام المدخلات والمخرجات الرقمية ونظام الذكاء الاصطناعي التي تستوجب نمطا مختلفا من المجتمعات الثقافية.
هنا سوف ينحسر الجدل الثقافي تارة في أنساق العزلة وذوبان الفرد أو التخلي عن الخصوصية وصولا إلى الذوبان في مجتمعات رقمية تجمع أفرادا يتشابهون في الاهتمامات والدوافع وفي كل الحالات فإننا نكون قد دخلنا زمنا ثقافيا عولميا قبائليا غريبا وغير مسبوق.
زمن القبائل الثقافية الرقمية ربما يكون هو أقرب، إذ لا يعود المثقف المرتبط بالنخبة والجمهور العريض هو المطلوب والمهم حضوره بل إننا سوف نكون في فضاء ثقافي يفرض تلك القبائلية الثقافية القائمة على فكرة التشابه وعلى ذوبان الخصوصية الفردية وعلى ذلك سوف تولد معايير جديدة للخطاب الثقافي، معايير غير مسبوقة وليس بالضرورة أن تلبّي أو تتماشى مع أهداف اجتماعية عليا شاملة بقدر التماهي مع أهداف الجماعات ذات الأهداف والنوازع المحدودة التي ليست بالضرورة تشمل الجميع بل تشمل أفرادا يعيشون في زمن ذوبان الخصوصية والفردية إلى عزلة فئوية خاصة خالصة يفرضها العصر الرقمي وعصر الذكاء الاصطناعي.