قبو الأناضولي
هبطت ماريدا الدرج المرمري المؤدي إلى قبو القصر صحبة ثلاث نساء يرتدين تنورات قصيرة. أثار حضورها المفاجئ العاصف جميع المدعوين، نساءً ورجالاً، فاختفى لغطهم، ووضعوا كؤوسهم على طاولاتهم، وأداروا رؤوسهم صوبها بنظرات تضمر أحاسيس مفعمةً بالغيرة والدهشة واللهفة. كانت أكبر رفيقاتها سناً، في أول الأربعينات تقريباً، لكنها تفوقهن جمالاً وجاذبيةً. طويلة القامة، ترتدي فستاناً من الشانتون الأرجواني، مكشوف الصدر من دون حمالتَي كتف، يبرز نهديها، ويحيط به عند الخصر شريط تستقر عقدته فوق سرتها، وتتزين بعقد ناعم من المجوهرات، وتعتمر قبعة دانتيلا مزينةً بالورود.
كان صاحب القصر إحسان الأناضولي يسير وراءها جذلاً، مزهواً بحضورها حفلة تلك الليلة، وما إن وطأت قدماها البلاط حتى أشار إلى الموسيقيين بالكفّ عن العزف، وقدّمها للحضور بحفاوة مبالغ فيها جداً، في حين تجاهل رفيقاتها تجاهلاً تاماً. أما هي فقد اكتفت بتحريك شفتيها بكلمات خافتة مع ابتسامة فاترة، ثم تبعت مضيّفها الذي قادها وحدها إلى المكان المخصص لها في صدر القبو حيث كان يجلس مع رجلين وامرأة ذوي هيئة أرستقراطية قبل أن يخرج لاستقبالها عند باب القصر. واختارت النساء الثلاث أريكةً فارغةً على مقربة من البار الذي تقف خلفه ساقيتان آسيويتان محترفتان.
أَذِنَ الأناضولي، بإشارة من رأسه، للفرقة الموسيقية باستئناف عزفها، ثم رفع يده منادياً أحد الخادمين المتسمرين على جانبي الدرج، فهرع إليه ووقف إلى يمينه محنياً ظهره. أملى عليه الأناضولي طلب السيدة ماريدا، فاتجه الخادم إلى البار وعاد بعد لحظات وهو يدفع عربةً مذهبة الأطراف عليها زجاجات كونياك وويسكي ونبيذ وبيرة، وبعض الأقداح الفاخرة، وصحون من الفستق والكاجو والسلطة التركية والفرنسية، ووضع زجاجة الكونياك أمام السيدة، وقدم النبيذ والبيرة لرفيقاتها.
ينتهي القبو بواجهة زجاجية على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وتزيّن جدرانه زخارف ولوحات استشراقية لرسامين ألمان وفرنسيين، ورفوف ذات طراز كلاسيكي تتوزع عليها تحف نادرة، وشمعدانات من الفضة، وهو يتسع لأكثر من ثمانين شخصاً، لكن عدد الموجودين في الحفلة لم يكن يتجاوز الستين، نصفهم من النساء ونصفهم الآخر من الرجال، وتضفي عليه واجهته الزجاجية السميكة المحمية بحاجز حديدي متحرك امتداداً فريداً إلى الضفة الغربية للنهر حيث تتلألأ فوانيس القوارب الخشبية ومصابيح البيوت المطلة على الماء، وخاصةً حينما تُضاء الكشافات الضوئية الزرقاء المثبتة على أعمدة في حديقة القصر الخلفية. إنه يشبه إلى حد كبير مطاعم مدينة طاراغونة الإسبانية على ساحل البحر المتوسط.
كانت ماريدا تجلس قبالتي تماماً، لا تفصلني عنها إلاّ بضعة أمتار، فتسنّى لي أن أدقق في ملامحها وحركاتها وإيماءاتها، بل حتى طريقة تدخينها وشربها التي بدت لي أنها أميل إلى التصنع. وفي لحظة من اللحظات تخيلتها، وهي تدس شوكة السلطة في فمها، كريستال، إحدى شخصيات أليخاندرو خوسيه في روايته “امرأة الضباب”، وتصورت أن ادّعاءها بأنها حفيدة ماريدا خاتون، زوجة هارون الرشيد، محض هراء.
كنت قد سمعت بها قبل أربع سنوات، ولم تُتَح لي فرصة رؤيتها إلاّ تلك الليلة. حدثني عنها صديقي سلام الياسري، مدرس التاريخ والقاص الإيروتيكي، حينما كنا نثرثر، أنا وإياه وصديق ثالث اسمه جهاد البشير، في جلسة سكر حول تداعيات طرد مفتشي الأسلحة من بغداد، قال إنه أعطى دروساً خصوصيةً لابنتها التي تشكو من ضعفٍ في استيعاب تاريخ الدولة العباسية بسبب كثرة الخلفاء الذين تعاقبوا على الحكم، فنبهته ماريدا، وهي تصغي إلى حديثه عن زيجات هؤلاء الخلفاء، إلى أنه ذكر اسم زوجة تركية واحدة من زوجات الرشيد هي مراجل خاتون، ونسي الثانية ماريدا خاتون أم المعتصم، وزعمت أنها حفيدة تلك الخاتون، وتسمّت باسمها حين عثر أبوها على شجرة عائلته العباسية في إسطنبول. وأقسم صديقي الياسري أنه رأى تلك الشجرة بأم عينيه، وهي مرسومة على جلد غزال وممهورة بأختام قديمة، بل أن ماريدا طلبت منه مرةً أن يشيع أمرها بين كل معارفه، وكانت تنوي عرضها على الصحافة لولا اعتراض زوجها السابق فيصل شبيب، الذي كانت تضايقه بشدة رغبتها الجنونية في الانتساب إلى جدتها بدلاً من جدها، فيما كان اغتيال والده على يد رجل تركي لا يزال ينغز في صدره. ويقال إنه طلقها لأنها ضربته على رأسه بعلبة سجائر خلال مشادة عنيفة جرت بينهما بسبب تفضيلها مطرباً تركياً على مطرب المقامات الشهير يوسف عمر. وقد عاشت ماريدا بعد طلاقها حياةً صعبةً مع ابنتها جُلدران استمرت أكثر من سنتين، رافقتها إشاعات وأقاويل كثيرة حول سلوكها، منها أنها كانت تمارس الدعارة لتوفر لقمة العيش، ومنها أنها كانت عشيقة أحد الوزراء، ولم تستعد رفاهيتها إلاّ بعد وفاة طليقها في حادث غامض، وتورّثْ ابنتها ممتلكاته.
لا تربطني بإحسان الأناضولي أيّ صلة، فهو رجل أعمال كبير، واسع الثراء والعلاقات، تمتد أرصدته من روما إلى بانكوك، مروراً بأنقرة التي يقيم فيها أغلب أفراد أسرته. رجل في الخمسين، نال رضا الحكومة وبركاتها بسبب دوره في كسر الحصار الاقتصادي. وما زلتُ أذكر تصريحه لإحدى الصحف، عقب الضربات الصاروخية التي وجهتها أميركا إلى بغداد، بأنه سيرد على العدوان بجعل البيض يفقّس في شوارع العراق كلها، لكنه بدلاً من أن ينال ثناءً على ذلك وصله توبيخ غير مهذّب من جهة عليا جداً تتحكم ببيع البيض في البلد. ومن يومها شطب البيض نهائياً من قائمة مستورداته. أما أنا فمدرس بسيط للغة الإسبانية في كلية اللغات، أتأبط “دون كيخوته” أينما ذهبت وحللت. اسمي كمال ترزي، ويلقبني أصدقائي بـ”سانتشو بانثا” رفيق ملحمته، بسبب إعجابي الشديد بشخصيته الواقعية، وتخصصي الأكاديمي “تأثير الثقافة العربية في أدب ثربانتس”. جئت إلى حفلة الأناضولي تلك الليلة رفقة صديقي الياسري، الذي دعاني، بالأحرى أنا من فرض نفسه على مرافقته، لحضور الحفلة حين أخبرني بأنه حصل على دعوة لشخصين عن طريق ابنة ماريدا، التي تطورت علاقته بها، بعد بلوغها، من علاقة مدرس خصوصي بتلميذة فاشلة في التاريخ إلى علاقة جنسية، رغم أنه يكبرها بخمسة عشر عاماً. كان يمنّي نفسه بأن تصحبه إلى الحفلة، لكن إصابتها بنزلة برد مفاجئة حالت دون ذلك. ربما لعب القدر لعبته فجعلني أحل محلها، أو أنه أشفق عليّ فحقق رغبتي في احتساء كؤوس متتالية من الشيفاز، الذي حرمت من تذوقه عشر سنين عجاف. قال لي صديقي الياسري ليلتها وهو يقرصني من فخذي “المشروب يا بانثا للمتعة وليس للانتحار”، فهمست في أذنه “هذا لو كنت أحتسي العرق مثلك يا دون كيخوته”. وكنت أمازحه بهذا الاسم رغم أنه فارس نساء لا فارس مُثُل.
حرّك الأناضولي سبابته في الهواء بحركة استعراضية، وهو يرفع رأسه باتجاه الفرقة الموسيقية، فتوقف المغني، فجأةً، عن أداء أغنيته الفلكلورية، واستدار إلى الموسيقيين، وبعد همسات متبادلة بينه وبينهم بدأوا يعزفون لحناً تركياً ذا إيقاع راقص، فخمّنت أنه أراد مداراة مزاج ماريدا، أو مراقصتها، لكن ماريدا سرعان ما أشارت إلى رفيقاتها بهزة خفيفة من رأسها، فتحررت النسوة، على الفور، من قمصانهن التي تغطي صدورهن شبه العارية، وتقدمن إلى وسط القبو، وأخذن يرقصن رقصةً هجينةً، إلاّ أنها مثيرة، تختلط فيها حركات غجرية بأخرى غربية، ويضربن بأرجلهن على الأرض، أحياناً، ضرباتٍ غير متقنة كأنهن يقلّدن راقصات الفلامنكو. كانت إحداهن أكثر نحافةً وطولاً من الأخريين، لا يزيد عمرها عن الخامسة والعشرين (ذكرتني بفتاة سمراء من أليكانت اسمها فيرونيكا، تعرفت إليها في مرقص مدريدي ذات ليلة شتائية باردة)، لكني عرفت، فيما بعد، أنها في التاسعة والعشرين، واسمها نسرين. جذبني إليها اهتزاز ثدييها ومرونة جسدها، فانتابتني رغبة عارمة في مراقصتها رقصة السالسا، لكني لم أجرؤ على النهوض. ولو لم تكن فيرونيكا تفضل دائماً ارتداء البنطلون الجينز الضيق لتوهمت أنها هي التي ترقص في تلك اللحظة.
استمرت رفيقات ماريدا في أداء رقصتهن، من دون كلل، نحو ثلاثة أرباع الساعة، وظل المغني، بإشارات متواصلة من صاحب الحفلة، يجترّ الأغنية ذاتها عدة مرات، وكأنه لا يحفظ أي أغنية تركية غيرها. كانت الأجزاء العارية من أجسادهن تعكس الضوء بوضوح، مثل رقائق القصدير، بسبب تعرقهن الغزير، لكن استغراقهن في الرقص، وربما رغبتهن في نيل مكرمة دسمة من الأناضولي، جعلهن لا يبالين حتى لو فاضت أجسادهن وتحول القبو كله إلى بركة. مررت من جانبهن، وأنا متجه إلى البار، فبدا لي أنهن يضعن عطراً من النوع الذي تزداد رائحته حدةً كلما امتزج بالعرق. أشارت ماريدا إليهن بالكف عن الرقص، فأطعنها مثل تلميذات صغيرات، وانسحبن بهدوء، وحملن حقائبهن اليدوية ودخلن إلى الحمام، مخلفات وراءهن تصفيق بعض النساء المنتشيات بعرضهن الراقص، وتمتمات عدد من الرجال بكلمات إطراء، وهم يرفعون كؤوسهم في الهواء، ورأيت أن الفرصة مواتية في تلك اللحظة للتعرف إلى نسرين، فبسبست في أذن الياسري، وبقيت أنتظر عودتها إلى مكانها، وهيأت في ذهني المدخل المناسب لاستمالتها.