قصتان

الأحد 2023/01/01
لوحة: وليد علاء الدين

جحر السحالي

لم يكن يشعر بشيء حتى وكزه الجندي على كتفه “تحرّك يا زبالة” كان يراقب أياديهم التي تتحرك كالسحالي الصحراوية وهي تتحسس الأذرع والسيقان، سحالي خبيرة تسير على جسمه وتبحث في مخابئه عن إدانة.. ولكنه مُعدم. بريء وتعيس، حمله حظه العاثر إلى هذا المكان لتنتزع السحالي نظارتيه!

لم ينبس بكلمة.. تلاشت عن مجال رؤيته الملامح والمعالم، وأخذ يسبح في غباش المكان. وطغت على عينيه نظرة متوسلة، كان يحاول أن يتبيّن الوجوه، أن يستبطن ما قد يضمره الحراس، أن يرسم تصوراً لما يجري، أن يتنبأ بما قد يحدث. ولكنه غاص عميقاً في ضوء العمى الباهر.

داخل الزنزانة لم يكن ير سوى ظلال سوداء تنضح بالعرق. كتلة بشرية تم حشدها في حيّز ضيق. الهواء المشبع بالرطوبة والأنفاس المُثقلة تربض على صدره، بالكاد يتنفس، وحبات العرق تتفصد على جبينه وكأن مسامات جلده تبكي بصمت.

ما الذي جاء بك إلى هذا المكان؟

لم ينطق بكلمة، لكنّ شفتيه تختلجان ببكاء حارّ.

رفع رأسه باتجاه الصوت. لم يرَ سوى ثلاث بقع داكنة وسط غمامة رمادية. منظر يعرفه جيداً. كيف خطر لمونك أن يرسم لوحته تلك. لا شك بأن لوحة “الصرخة” مُستلهمة من خيال رجل كان للتو قد فقد نظارتيه.

أخذوا نظارتي..

لقد أخذوا الكثير من الأرواح يا رفيقي.

 

ثلاثة أحرف

عندما توفّي والداها إثر حادث مروري، اجتمع أفراد الأسرة في صالة المنزل في حالة حزن هستيري، استغرق إخوتها الأربعة في البكاء، منهم من كان يجهش ومنهم من انهمرت دموعه كالسيل، أما بالنسبة إلى أختها الكُبرى فقد سقطت مغشياً عليها بينما كان أختها الوسطى ترش الماء البارد على وجهها مذكرة إياها بالصبر.

أما بالنسبة إليها وهي آخر العنقود فقد كانت مأخوذة من هول الموقف. ليس بسبب موت والديها المفاجئ وإنما من حفلة البكاء المحتدم والمشاعر الرهيبة التي ملأت المكان، ومن وجوه إخوتها المكفهرة وانهيار شقيقتيها.

حاولت أن تستدر دموعها ولكنها لم تفلح.. وقد خامرها الشعور بالغربة أكثر من أي وقت أمضته في هذا المنزل الذي يعيش أفراده بعلاقات ذات روابط لا تفهمها.

لم ينقذها من تلك الورطة سوى دخول عمتها المفاجئ، عندما اتجهت نحوها لكي تعانقها، لأنها كما يقولون آخر العنقود وابنة أخيها الصغرى والمدللة بطبيعة الحال.

عانقتها وقبلت وجنتيها وجبينها فما كان منها أن انتهزت هذه الفرصة لتخبر عمتها بأنها في حاجة إلى الانفراد بنفسها.

كان ذلك طريقتها الوحيدة للهرب من هذا المأزق.. الجميع ينتحبون بينما لم يكن في وسعها سوى الوقوف كتمثال بارد.

استلقت على فراشها الوثير وأخرجت هاتفها المتنقل للدخول على صندوق الرسائل، حولت لغة الكتابة إلى اللغة الإنجليزية، وأخبرت صديقتها الافتراضية بما حدث. انتقلت الى ألبوم الصور، وأخذت تفتش عن صورة لأبويها، أرفقت الصورة على جميع وسائل التواصل، وقد وضعت في اعتبارها أنه لم يسبق لأحد أن رأى وجه أمها المنقبة، طامسة وجهها بأحد الأدوات الخاصة بتعديل الصور.

وقد كتبت

Rip

ثلاثة أحرف فقط اختصرت الكثير!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.