قفزة هالووش
اسمه هالووش، ولكلٍ من اسمه نصيب، ولكنه يعلم جيداً أن كل أمر لا يكون هو فيه، غير مكتمل. يأتي كالريح الهبوب، يدور حول نفسه لتدور معه كل الأشياء التي يصادفها في طريقه، وترسم أقدامه الحافية المتشققة حفراً على الأرض كدرويش صوفي مجذوب.
يبيت ليلته حيث كان، حين يدركه المغيب يفترش الأرض، ويتوسد بقجته المتسخة وينام قرير العين، وحوله صفائح الزيت والطحينية الفارغة. عندما يستيقظ مع الفجر يصلي ويدنو من أقرب بيت ويدق الباب أو بالأحرى يركلهٌ بقدمه لأن بيوت القرى لا توصد الأبواب بعد الفجر، ولأن يديه تحملان عشرات الصفائح الفارغة والتي تصدر رنيناً معروفاً، وكأن هالووش يعزف بها نغمات لا تزعج أحداً غير ساتي جعفر، الذي يسبه لأنه أيقظه من أحلى نومة، فيرد عليه هالووش ضاحكاً:
– يا راجل قوم صلي، القيامة قربت وأنت لسه تارك الصلاة؟
يشارك أهل الدار شاي الصباح، ولا يكتفي بكوب واحد، بل يرتشف الأول على عجل بصوتٍ مسموع، ثم يمد الكوب لستّ الدار، لتملأه مرة ثانية وثالثة، ليقوم بعدها ويخرج بذات رنين صفائحه، وهو يدندن بلحن ويطرقع بنعاله البلاستيكية وكأنه يعزف بها أيضاً نوتة لا يفهمها سواه.
– يلا يا (هالووش) يلا يا هالووش.
ترتج ساحة الحفل بالهتاف. الجمهور المحيط بدائرة الرقص يعلم بأن كل شيءٍ يبدأ بظهور هالووش وسط الساحة، فعند ظهوره، يكون كل شيٍء قد بلغ منتهاه.
عازف (الطنبور) يشد على أوتار الآلة بأصابعه وتتحرك ريشته بسرعةٍ وإتقان. ويبدع في إخراج نغماتٍ راقصةً لتهتز الأجساد وتعلن انعتاقها من كل قيودها، أما قارع الطبل الثلاثي المحبوس بين فخذيه، فتكاد كفوف يديه أن تخترق جلد الطبلة المشدود والسميك، بقوّة ضرباته المنتظمة المتناغمة مع نغمات الطنبور. تطول الوصلة الموسيقية وكأنها إحدى النوتات العصية لموزارت.
أخيراً يرتفع صوت المطرب الجميل (جمعة جاد) المشهور في تلك الأنحاء، بصوته الشجي القوي، لتلتحم مع الأنغام، وتسافر بعيداً عبر موج النهر وأنسام الليل، الى القرى والجزر والضفاف.
هالووش وحده، يحيل ساحة الحفل، إلى لوحةٍ من الأنس والفرح، بقفزاته المضحكة، وتماوج جسده النحيل حد السقوط، وصرخاته المنفلتة كل حين، لتعلن عن قمة طربه وسكره.. كان قد شرب كل زجاجة عرقي البلح، التّي اختطفها من بين الندماء في بيت العريس، وهرب بها إلى داخل حقل القصب، ولم تثنيه أصوات الوعيد والتهديد التي كانت تصله منهم، وهو يمتص الشراب حتى آخر قطرة. ثم يتمدد على الجدول المار بين أحواض الزرع، غير عابئ ببرودة الأرض الرطبة، ولا هوام الليل التي تعبر من تحته وفوقه، وبين طيات ملابسه الرثة.
يظل هناك حتى يسمع صوت العزف المتفرد، فيتحامل على دوار رأسه ليقف في منتصف الساحة، فيتعالى الهتاف ويتجرأ المحايدون، ويختلط الواعي والسكران، والرجال بالنساء، ويثور الغبار تحت حركة الأقدام وتصفيقها بالأرض. لترتد وتعود بذات الرتم. حذاؤه المهترئ لا يصمد تحت وقع تلك الضربات القوية، فتنقطع آخر عقدة خيطً، صنعها الإسكافي عبده جارة. فيقذف بكل فردةٍ في اتجاه، ويرقص حافياً على السجاد الذي امتلأ بالتراب حتى غاص في الأرض فاختفت ألوانه..
حين تنقطع الموسيقى معلنةً انتهاء الفاصل الأول. يجلس هالووش مفترشاً الأرض بانتظار الفاصل الثاني، غير عابئ بالتراب ولا بالساحة، التي خلت من الراقصين. لكن صوته العالي لا يهدأ، ويستمر في ضجيجه وضحكاته العابثة، ومجون ألفاظه حين ينادي بلغته النوبية على النساء بأسمائهن.
– ووو ستي ليلي لم تعطيني (شبالاً) لأشم رائحة شعرك المعطر بالصندل!
أين أنت يا سعدية؟ أنت الوحيدة البارعة في رقصة الرقبة، فكل النساء مجتمعات، لا يملكن طول رقبتك وليونتها. وآه من جمالك يا فانة لولا زوجك إبراهيم حاجي لكان لي معك شأن آخر.
لا يتوقف هالووش عند حدٍ حتى يَمل، ولا أحد من الرجال سوف يحاسبه على تغزلهِ بزوجتهِ، فقد اعتادوا على أسلوبهِ وهم يعرفون جيداً نقاء سريرته.
وحين يعلن المغني قدوم العروسين. تلملم الفوضى أطرافها، وينسحب هالووش إلى الصف الأخير، مترنحاً ملوحاً بعمامته ويديه، ليستلقي على أيّ أرضٍ، ويرتفع شخيره وينام، حتى تلسعه أشعة الشمس. لينهض ويبحث عن أقرب باب، ليطرقه بذات فوضاه وضجيجه، مطالباً بكوب شاي مترع بالحليب، وقطع من القرقوش والبسكويت.
ورغم ملامحه النوبية، لم يكن أحد يعرف له بلدا ولا أهلا حتى كبر، فهو ينتمي إلى كل القرى شرق النهر وغربه شمال مدينة دنقلا، ولم يسمعه أحدهم يحكي يوماً عن عائلته، وكأنه مقطوع من شجرةٍ، أو أن ملاكاً هبط من السماء وألقى به في هذه الناحية.. كان يجمع صفائح الزيت الفارغة من المتاجر الصغيرة ويبيعها في دنقلا، يتجول راجلاً بين القرى، ولا يستعين بحمار، أو عربة كارو، وأحياناً تمر به شاحنة أو عربةٍ مسرعة، فيصيح منادياً صاحبها، فقد كان يعرف كل سائقي العربات ويعرفونه، ويتوقفون من أجله ضاحكين، ويبادلونه نكاته المحفوظة والمكررة، وكأنهم يسمعونها لأول مرة. يلقي بصفائحه المعقودة مع بعضها بسلك رفيع، إلى سطح العربة ويجلس إلى جوار السائق، منتشياً وممداً ساقيه المتعبتان، في المساحة الصغيرة أمامه. يبحث بعينيه عن كيس تفوح منه رائحة طعام، فيختطفه دون إذن من السائق والذي لا يعترض، بل يشجعه ويعدد له ما يوجد بداخل الكيس، فيبدأ هالووش بازدراد الطعام دون أن يبقي شيئاً منه.
يعقبها بسفةٍ مكورةٍ من نشوق (الصعود) تملأ فراغ شفته السفلى وتبرز دون حياء.
لوحة: معتز الإمام
لم يحد هالووش يوماً عن منهج حياته، ولم يتغير إلا بعد تلك الواقعة، حين صار حديث الساعة، في مراكب النهر وعلى الضفاف، في القرى والجزر، وحتى في واحة القعب التي تتوسد مثل زمردة خضراء قلب صحراء النوبة.
كانت حكاية عجيبة لا تشبه هالووش ولا شخصيته النمطية الهازلة، لكنها ربما تفسر للجميع أن هالووش كان يحملُ قلباً يضجُ بالمشاعر المرهفة، فقد أسّر لصديقه (الأرهيس) محجوب يوماً بأبيات شعرية رصينة ليتغنى بها، وقال له إنه نظمها في حبيبته التي لقبها بسيلة، ولكنه لم يزد على هذا شيئاً.
وفي اليوم نفسه بعد أن وضع لها محجوب لحناً مميزاً، كانت هذه الأبيات على كل لسان نوبي حتى جنوب دنقلا. كان الناس جميعاً يتندرون ويبحثون عن حبيبة هالووش الخفية، بل ويضعون كل الصبايا في القرى اللاتي من الممكن أن يكن ممن وقعت عين هالووش عليهن، فأصبح الحساب عسيراً.. لأنه يدخل كل القرى، ويمر على جميع بيوتها دون فرز. حتى إن لم يكن هناك رجل في أهل ذاك البيت، وحين فتر الناس، تبخرت سيرة الحبيبة من أفواههم، وبقيت في قلبه وفي القصيدة التي يتغنى بها الأرهيس وكل مغني البلد الذين يرقص هالووش نفسه على أنغام موسيقاهم.
ولكن حكاية حبّ هالووش أثارت أمرا كان الجميع قد تناسوه أو اعتقدوا أنه غير مهم، إلا أن عادات المنطقة التي تخشى الغرباء، وتتعامل معهم في كل شيء إلا المصاهرة، أعادت السيرة التي تهامسوا بها فيما بينهم، دون أن يتجرأ أحدهم ويجاهر بها أمامه، ولكن صديقه محجوب فعل ذلك.. في ساعة صفاء وود حين كانوا على سطح المركب الرابض على (قيف) النهر. والقمر بدراً ينشر الضياء، وهم يرقدون على المقاعد الخشبية الطويلة على جانبي المركب.
– يا هالووش يا صاحبي ألا تخبرني عن أهلك؟
ساد صمت طويل، وكأن هالووش لم يسمع سؤال رفيقه، الذي لم يكن يخفي عنه شيئا من أحداث يومه، والتي غالباً ما تكون عن نوادره مع أهل القرى التي يمر بها، أو عن جميلات المنطقة، وعن التجار والمزارعين وأخبارهم، فما الذي يغيب عنه وهو رفيق الطريق الذي لا يفتر؟ ولكنه كان يتحاشى الحديث حول هذا الأمر حتى مع محجوب.
كان ينظر إلى أمواجِ النهر الهادئة وضوء القمر ينعكس عليها، تسير سيرها الأبدي نحو الشمال، نهرهم الذي يغضب حيناً ويثور حيناً آخر، حتّى تظن الجزر الراقدة في قلبه، أنها هالكة لا محالة، لكنه يهدأ ويستكين وينشر الفرح والرخاء، على طول أرض النوبة ذات الحضارة والتاريخ.
تنهد هالووش وقال في حزن دفين:
– أنا ابن هذا النهر يا صديقي، ألا تراني مثله متغير الفصول والأفعال، هادئ وصاخب في ذات الوقت؟
ضحك محجوب ساخراً من التشبيه البليغ لصديقه الذي تحول إلى حكيم، بعد لحظات من الغناء والرقص والمجون على أنغام عزفه وأغنياته النوبية.
كانت أصوات الزغاريد والموسيقى تنتشر مع النسيم، امتلأت الساحة بالراقصين كالعادة، وكان كل شيء يبشر بليلة هانئة والفرح يغمر القلوب. لكن في منتصف الحفل انقطع كل شيء وساد سكون عجيب والتفت الجميع يبحث عن شيء غير معروف، تحولت ابتسامات النساء إلى دموع صامتة وتلطخت الخدود المنعمة بالكحل، وأما الضفائر المرتاحة على الاكتاف فقد انحلّت عقدتها وتناثرت خيوط (الجورسيه) المضمخة بزيت الكركار والخمرة على الأرض بكثافة. أما ستي ليلي فقد جلست على الأرض تنوح دون أن تعلم لم تنوح وما سرّ هذا الحزن والألم الذي يجثم على صدرها، أما جمعة تود فقد بدأ يغني بصوت حزين دون أنغام.
واستفاق السكارى فجأة بعد أن دخلوا الحفل وهم يترنحون ويضربون الأرض بأحذيتهم المهترئة، فاليوم لم يسلبهم أحد قارورة خمرهم.
وأما العريس فقد احتار ووقف مشدوها ونظرات النساء تبرق بالفضول حوله، حين استعصت عليه خيوط الرحط رغم محاولات عدة لقطعها عن خصر عروسه العارية، التي تقف في تحفز وحياء للحظة العبور العظيمة.
تجمد الزمن وتوقف كل شيء وكأن المكان تحول إلى متحف من شمع. ولكن صيحة مهيبة سقطت على آذانهم من جهة النهر، فتحول الصمت إلى هدير لأقدام تركض باتجاه الصوت. وتلك اللحظة أفلح العريس وانقطع الرحط وتناثر الخرز على الأرض، وركض العريس مع الراكضين إلى الشاطئ والعروس تبحث عن شيء يستر عراها لتتبعهم.
كان محجوب يقف فوق سطح مركبه بملابس مبتلة تقطر بالماء وبين يديه فردة نعل يعرفها الجميع وخاصة عبده جارة. لم يكن هالووش في الحفل ولا يلوح جسده النحيل على مركب صديقه حيث ينام في غالب أيامه، وفردة نعله المرقعة بين يدي محجوب.
قال محجوب والحزن يقطر مع الدموع:
– كان منتشياً كالعادة، ينتظر أصوات الغناء في الحفل، حتى أنه رفض مشاركتي الشراب كي يسلب الندماء خمرهم، قال إنه يشعر بفرح يغمر روحه. وحين هبت نسمات الليل ضحك وصاح بكلام لم أفهمه، فقلت له:
– ماذا تقول يا صاحبي؟
ردد وكأنه يحادث شخصاً اّخر
– حاضر حبيبتي أنا قادم إليك.
قفز إلى حافة المركب، ليقع في حضن النيل لم يكن يسبح بل كان التيار يحمل جسده وكأنه طوف خشبي وخلفه صفائح الزيت والطحينية تصدر ذات الرنين المعتاد الذي لم تكن تزعج احداً إلا ساتي جعفر.