قلم الروائي يغوص في الدّم
الشائع هو أن على الرّوائيّ الانتظار ريثما يمر الحدث (ثورة، حرب، انقلاب..)، بدلالة رواية تولستوي “الحرب والسلام” التي كتبت بعد مرور مئة عام على غزو نابليون لروسيا. مثال تولستوي، أصبح مقولة معتمدة تنصح الرّوائيّ بعدم مقاربة حدث آني إلا بعد مرور وقت يتيح له تأمله مليًا. وهكذا حُددت تعرفة روائية بالنسبة إلى الحرب: الانتظار نحو قرن من الزمن.
إن ما يتوفر من معلومات في زماننا عن وقائع أيّ حدث لا يأخذ أكثر من لحظات، ولو كان يجري على بعد الآلاف من الكيلومترات. بينما في زمن الغزو الفرنسي فيأخذ زمنًا بالأيّام، إن لم يكن بالأشهر. من جانب آخر وقائع الغزو الفرنسي لم تدم سوى ذلك الشتاء القاسي. أما الحدث السوري، فمستمر منذ خمس سنوات، ومرشح إلى المزيد. هل ينتظر الكاتب نتيجة هذه الحرب، ريثما تتكشف المؤامرة الكونية المدّعاة، واستراتيجيات الدول الكبرى، ونوايا الدول الداعمة، والخطط العسكرية؟
هذا المنعطف التاريخي، يطرح منعطفًا أيضًا في الكتابة، لا ينتظر نتيجة هذه الحرب، مادامت الضحية غير مجهولة، والقاتل معروف. الهزيمة والانتصار شأن الأيام الآتية والتاريخ. هناك أسئلة آنية، تتركّز حول البشر والعدالة والظلم والحرية والقتل والدين الذي استخدم بحيث شرّع الفتوى بقطع الرؤوس والأيدي والأرجل. هناك مجتمعات تمزقت وتفجرت. واقع لا يمكن تجنبه. الشعر أو القصة والرّواية كلها تعبر عن هذا المخاض الشاق، الطويل والعسير، والشرط الإنساني لولادة جديدة من حرب يشنّها النظام على الشعب، ودكتاتورية تتعيّش على القتل اليومي، وإهدار الكرامة، ووأد الحرية. الرّواية مدعوة لتفسير لماذا ثار هؤلاء الناس، وتحمّلوا هذا الخيار الصعب، والتبصّر في قدرة الإنسان على تحمل وحشية الإجرام اللاعقلانية؟ هل نحن إزاء شعب ينتحر، أم جلاد أعمى لا يرحم؟
ليست خيارات الرّوائيّ معدومة، (إما/أو). إما أن يكتب رواية، أو لا يكتب، تلك هي مهنته وضميره، لا تضع الكتابة خيارًا أمام الكاتب سوى القلم، يكتب وإن لم يتمكّن من نشر ما يكتبه. السؤال هل سيقف المثقف مع شعبه، أم يدع الآخرين يستفردون بالكتابة، أولئك الذين ابتدعوا مواقف زعموا أنها فوق المعارضة والنظام، ساووا بينهما، ثم انحازوا إلى النظام، اللعبة ذاتها، المتاجرة بمعارضة مثالية. هناك في الداخل كتّاب ماتوا تحت التعذيب، أو اضطروا إلى الصمت، تحت وطأة القمع، لم يلجأوا إلى هذه الألاعيب، صمتهم مقدّس ومبارك.
نعم الكتابة ممكنة في هذه الظروف ولدى الرّوائيّ ما يكتب عنه، كتابة قد تكون نوعية، يعرف أن قلمه يغوص في الدّم، ومنحاز إلى الذين يعانون الموت يوميًا ومحاصرون بالتجويع.
الصراع لم يحسم بعد. أما الكاتب فحسم موقفه: مع العدالة ضد الظلم.