فيما كان النعاس يراوده عصر ذلك اليوم، فقد سأله على الهاتف أحد أصدقائه القدامى إذا كان حفل العشاء سيقام في النادي على الثامنة مساء غدا الجمعة، وقد اختلط الأمر عليه، ولم تسعفه ذاكرته بشيء حول ذلك العشاء، ورأى أن أفضل طريقة للتخلص من السؤال الصعب هي الإجابة المقتضبة بالإيجاب، وهو ما فعله. وقد استذكر بسرعة ملامح الصديق اللمّاح الممعن في الغياب، وقد انقطعت صلته به منذ 15 عاماً ونيف، وانتبه إلى أن الولائم تقام هذه الأيام لأسباب كثيرة، ليست جميعها أسباباً واضحة، واستغرب أن يتوجه الصديق السابق إليه بالذات بالاستفسار. ولم يلبث أن تلقى مكالمة هاتفية من إدارة النادي تفيده بأن الاستعدادات قد تمّت على أكمل وجه لإقامة الوليمة في الموعد المحدد مساء غد. شكرهم على الاهتمام قائلاً بعفوية إنه ليس متأكداً إن كان سوف يحضر، فأطلقت السيدة على الطرف الآخر ضحكة رخيّة هانئة، وأثنت على روح الدّعابة لديه “التي تعكس كرم نفسه” كما قالت..
“إذن لا بد أن أحضر” قال لنفسه و”في الوقت الذي لا أشعر به في العادة برغبة في تناول الطعام”. فعزم على الامتناع عن تناول طعام غدائه في الغد على الخامسة مساء، كما يحدث كل يوم تقريباً، كي يحتفظ بشهيته لطعام العشاء.. عشاء الوليمة ووسط جمعٍ من مدعوين ممن يتابعون حركات وسكنات بعضهم بعضاً، ويُسرفون في تبادل المجاملات، وفي الثناء على جودة الطعام، وعلى حُسن اختيار المكان. وقد استذكر في الأثناء أن النادي إياه.. النادي الوطني، منعه من الدخول قبل بضعة أشهر بحجة أنه ليس عضواً فيه، رغم أن النادي يستقبل حين يشاء زبائن من غير أعضائه. لن يعاتبهم على ما جرى فلن يتذكروا تلك الواقعة، وسوف يسارعون لإنكارها، كما سوف يسارع بعض المدعوين للسخرية المكتومة منه. أشياء مُمِلّة مثل هذه تحدث، ومن المهم أن يتفادى المرء وقوعها..
حاول في الوقت المتبقي على الموعد نسيان الأمر، والانشغال عنه بأيّ شيء آخر فلم يفلح. ازدرد بغير شهية طعام غدائه المحفوظ في ثلاجته الصغيرة بعد تسخينه، وسارع لاحتساء كوب شاي لترطيب هواجسه. وضاق بما يحدث فخرج يتمشى، ووجد نفسه في الشارع يغبط الناس المندفعين إلى شواغلهم، والمستغرقين بصورة كلية في مُتَعِهم الصغيرة والكبيرة، غير المدعوّين إلى وليمة الغد.. الناس الأحرار كما وصفهم، الذين يدعون أنفسهم إلى ما يرغبونه فحسب. أما هو فلا فكاك له، لن ينتظر مكالمة ثالثة.. مكالمتان تكفيان. مع ذلك فقد تخيل نفسه وقد عزف عن الاستجابة للدعوة، واستقلّ حافلة إلى مدينة بعيدة يبيت فيها ليلتين، وذلك لتسويغ غيابه عن الحفل. راقته الفكرة التي سوف تتيح له تغيير المرئيات بالانتقال إلى مكان جديد، وكان الوقت ما زال قبيل الغروب.
ولم يلبث أن تخيل نفسه وهو يمضي الرحلة مُتفكّراً بالوليمة، ومنشغلاً بها في أثناء مكوثه بالمدينة الأخرى، وأدرك أنه من الخير له أن لا يبذل الجهد، ولا ينفق النفقات، من أجل أن يبقى الحال على ما هو عليه! ليكن.. ليست هي الوليمة الأولى التي ينضم إليها في حياته. وقد انضم إليها بالفعل في اليوم التالي على الموعد وفي المكان المحددين، وكان المدعوون يفِدون تباعاً بينهم أصدقاء وبعضهم مجرد معارف، وبينهم من يصادفه لأول مرة، وهذا هو حال الولائم الكبيرة في كل مكان، فلماذا الاستغراب؟ لم يستغرب سوى للترحيب المفرط من إدارة النادي به. لعلهم أرادوا الاعتذار عن فعلتهم السابقة بمنعه من الدخول.
وجد نفسه على رأس طاولة مستطيلة طويلة، وقد حظي بمجاورة وزير سابق مكتهل، وصحفية حالية شابة. إنهما في حُكم الأصدقاء. وقد تبادل معهما المجاملات وانهمك معهما في تناول المُقبّلات، وردّ التحيات التي تصدر من هذا المدعو أو ذاك على طرفي المائدة. وقد حرص كبير الندل على الاهتمام به، وسأله إن كان يرغب أن يشرب شيئا، فشكره مكتفيا بالماء المتوفر في زجاجة طويلة أمامه. لكن النادل عاد ووضع أمامه كأسا قائلاً إنها ضيافة من النادي.
ولم يلبث جمْعُ المدعوين أن دخل في انسجام جماعي وتبادُل أحاديث مرحة صاخبة، فيما انشغلت الصحفية بجارٍ لها وكذلك الوزير السابق، ثم هبط الطعام الشهي واشتبك معه المدعوون اشتباكاً حميماً لاهثاً، وانغمس هو بدوره بتناول اللحوم المشوية، ولم يكن قد تناول طعام الغداء. وتصاعد صوت غناء وتصفيق وصوتٌ ناعس لمطربة، وهناك من رقصن في أماكنهن من المدعوات الوقورات.
وخطر له أن يَعُدّ المدعوين، وهو ما لاحظته جارته الصحفية فسارعت للقول إنهم 44 شخصاً. كاد يسألها عن مناسبة الدعوة لكنه أطبق فمه في اللحظة الأخيرة، فلا يُعقل ولا يليق تلبيته الدعوة من دون أن يكون عارفاً بالمناسبة. وقد تبادل الحديث في شؤون سياسية مع الوزير السابق، وهذا قال إن الوضع في عموم المنطقة غير مطمئن وأن المنطقة مستهدفة! وهو ما توقعه ووافق عليه.
ولم يستطع إكمال الحديث فقد علت أصوات المدعوين إذ انتقلوا من تناول الطعام إلى احتساء الشراب. وهو دون أن يقرر ذلك شاركهم في الشراب متمتعاً بضيافة نشطة من كبير الندل. إلى أن بدأ بعض المدعوين الثنائيين في الانسلال خارجين تباعاً، وبعضهم تقدّم منه وصافحه مودّعاً (ليس من بينهم صديقه القديم الذي هاتفه، والذي لمحه في موقع بعيد عن المائدة)، فيما تكفّل من بقي بملء الفراغ. ولم يعتم جاره أن انسحب وصافحه بحرارة شاكراً هذه الفرصة الطيبة.
أما جارته الصحفية ففاتحته أنها سوف تتصل به قريباً جداً لإجراء حوار معه حول الموضوع، ولم يعرف ما هو الموضوع واكتفى بإيماءة استجابة، وما لبثتْ الصحفية أن انتقلتْ إلى مقعد آخر بعد أن أصبح هناك عددٌ كافٍ من مقاعد فارغة خلّفها المغادرون لمن يرغب في تغيير مقعده، وتبديل من يجاوره.
شعر بالنعاس في مقعده وتمنى لو يغمض عينيه ويجد نفسه في سريره، وشعر بغربة شديدة عمّا وعمّن حوله. وهو ما لاحظه كبير الندل الذي اقترب منه منحنياً، ووضع طبقاً أبيض عليه ورقة طولانية تقوّست لشدة خفّتها أمامه. نظر إليها فإذا هي فاتورة. ابتسم للمفاجأة، فالمفاجآت على العموم تروقه، وخاطبه كبير الندل بأن ثمة تنزيلاً خاصاً وقع على قيمة الفاتورة. سأله عن قيمتها، فأجابه: 1222 يورو. وسأله: ألا ينفع الدفع بالعملة المحلية؟ فأجابه كبير الندل: ينفع.. إنما أردنا تسهيل الأمر عليك بالدفع باليورو.
وأردف الرجل ضاحكاً ضحكة ذات مغزى أن المدعوين شربوا كثيراً ومن أفضل الأنواع، مع أنه (كبير الندل) لم يُلبّ مُتعمّدا جميع طلباتهم. ولدهشته فإن النعاس اشتدّ عليه، ولم يجب بشيء حتى أنه لم يرفع ناظريه نحو الرجل المُهندم الواقف، الذي اضطر لدفعه برفق مرتين في منطقة الكتف اليمنى، فاستيقظ قائلاً بأسف إنه لا يحمل هذا المبلغ. فأوضح له الرجل إنهم يرّحبون بالدفع ببطاقة الفيزا. وقد أراد الوصول إلى محفظته في الجيب الداخلي للجاكيت الذي كان قد خلعه ووضعه وراءه على مقعده، وقد التفت إلى الخلف، وفتّش الجيبين الداخليين فاصطدمت يده بالفراغ، فاستولى عليه مجدداً نعاسٌ رصاصيٌ سُرعان ما حمله إلى نومٍ ثقيل تخلّلته كوابيس روتينية، وبعض فواصل استيقاظ أليمة.