قول في الحرية
يعيش “الأنا” في أشكال متعددة من القمع، فأيّ سلطة بالمطلق هي قمع، وتحدد علاقة السلطات بالأنا بوصفها سلطة قامعة، وسأكشف هنا عن تعيينات القمع سلطوياً. كل فرد يعيش تحت ما نسميه النظام المتعالي على الفرد، بمعنى أن الفرد خاضع له خضوعاً ما، وينطوي الفرد على نزعة تحرر من النظام المتعالي الذي سيطر على الأنا. وعندي أن عالم القيم هو نظام متعال، وهذا نظام تكوّن تاريخياً، وهو يحاول منعي من تجاوزه، وإن تجاوزته لديه عقوبات معنوية وربما مادية. إذن نظام القيم بكل أشكالها في المجتمع التقليدي بخاصة هو قامع ويفترض الخضوع، مثلاً مفهوم العفة، مفهوم الشرف، مفهوم المقدس، الدين.. الخ.
ينشأ التناقض عندما يصل الفرد وتنمو لديه رغبة في التحرر من النظام المتعالي فيشعر بالحرية من هذا النظام المتعالي.
الدين نظام متعال لديه سلطة قوية ولديه أوامر أخلاقية وسلوكية، وانتمائي للدين ككائن يجعلني خاضعا لهذا النظام المتعالي الذي لديه وسيلة عقاب دنيوية ولاهوتية. لذا هو أخطر وأصعب من نظام القيم الذي لا يتكئ على أمر إلهي عند معتقديه. أيضاً عندما أشعر أن هذا النظام هو عبء على سلوكي أشعر بحريتي.
خذوا قمع النظام المتعالي للجنس، وهي الغريزة الوحيدة التي فوقها نظام متعال يحدد سلوكها، ونشأت أيديولوجيات كاملة حولها حالت دون حرية الفرد في ممارسة غريزته الجنسية، بينما الغرائز الأخرى طليقة من كل قيد.
كل القيم المتعالية مترابطة بشكل نظام مترابط ولكن الفرد والأنا والذات مع التاريخ نشأ لديه نظام هو متعال وغير متعال اسمه النظام السياسي.
الدولة التي هي هيئة اعتبارية مادية قوية سنت القوانين للالتزام بها ولكنها هي سلطة. وتكون الدولة نظاما متعاليا قمعيا إن كان هناك تناقض بين الدولة ومنشئها، بين المجتمع والدولة، فتصبح الدولة نظاما قمعيا للأنا بامتياز، ولن نفصّل في هذا كثيراً فنحن نعيش تجربة الدولة القمعية بتفاصيلها.
إذن فكرة الحرية هنا لم تنشأ إلا من الشعور بنفي الحرية، والحرية شعور ينشأ من الواقع.. ومن لا يشعر بعبوديته لا يشعر بحريته، فعندما يعي العبد أنه عبد تبدأ أول خطوة لوعي الحرية. وهيغل لديه في كتاب “فينومنولوجيا الروح” فصل اسمه “جدل العبد والسيد” وهو قبل ماركس يطرح نشأة العبد ونشأت السيد بوصفهما شخصان مختلفان بروح المغامرة وروح الحياة، فالعبد لم يغامر ورضي أن يكون عبداً، أما السيد فرضي بأن يغامر فأصبح سيداً. وفي تحليل هذه العلاقة أن السيد صار مدينا بحياته للعبد وواقعيا صار عبداً للعبد لأن حياته أصبحت مستحيلة دون وجود العبد وعمل العبد، هذا نظرياً وديالكتيكياً. وبمجرد أن يعي العبد أن السيد مدين له بعبوديته، يبدأ شعور العبد بأنه ليس عبداً ويبدأ يشعر بالحرية. هيغل يقول: “ليس التاريخ إلا مسار وعي الحرية لذاتها” وهو إذ يرصد مسار وعي الحرية عند الأمم الشرقية يرصد أنها تنطوي على فكرة السيد الأوحد. لذا خلق الشرقي الإله الواحد على شاكلة سيده، فكان الإله سيدا، بينما التطور عند طبقة الأحرار عند اليونان والرومان أن الإله متعدد وبالتالي تعيين الحرية عندهم أوسع.
إذا تركنا الكلام المجرد للانتقال إلى تعيين وعي الحرية عربياً، بالاتكاء على ما تحدثت به حول العلاقة بين الأنا والنظام المتعالي.. فالحرية بتعريفها هي زوال الهوة بين الأنا الظاهر والأنا المخفي، لأن النظام المتعالي يرغم الأنا الحقيقية على الاختفاء، فيظهر الأنا الكاذبة المتكيّفة مع متطلبات قمع القوة القهرية، فتختفي الأنا الأخرى الحقيقية التي تضيق بالقوة القمعية، وفي النظام الدكتاتوري فالأنا الحقيقية دائماً مخفية لأنه لا يمكن إظهار سوى أنا واحدة التي يريدها المستبد، وهي أنا كاذبة.
إذا كانت الحرية هي زوال الهوة بين الأنا المخفية والأنا الظاهرة، فكل سلطة قمعية تجبر الكائن على إخفاء ما يخاف منه. من هنا ارتباط الحرية بالخوف وارتباطها بالشجاعة. المجتمع الأوروبي مجتمع شجاع لأنه لا يوجد كذب، لا يوجد خوف إلا بحدود، لا يوجد أنا ظاهرة وأنا مخفية.
لننتقل إلى التعيين العربي، كيف وعينا نحن العرب فكرة الحرية؟ في القاموس العربي لا يوجد كلمة “حرية” بل يوجد كلمة “حر” وهي مقابل العبد. ولكن الحرية كمفهوم غير موجودة في القاموس، ولن نعود للتاريخ فالمجتمعات عانت تحت نظام متعالٍ، فكيف وعينا الحرية بوصفها خطاباً أيديولوجياً ولم ننتبه لخطورة وعي الحرية في خطابنا هذا إلا متأخرين! المهم أن نعي أهمية الخطاب في الأيديولوجيا… خذوا الأيديولوجيا القومية فقد ربطت الحرية بفكرة “حرية الأمة” من آخر، من الاستعمار، فكرة الاستعمار ولّدت هذا المفهوم وهذه الطريقة في التفكير: “حرية العرب واستقلالهم عن الآخر”، وحرية الأمة هذه تحتاج إلى الطليعة الثورية التي تحقق حرية الأمة؛ الطليعة المتحررة بوعيها من الاستتباع للآخر. وبالتالي لم ينظر للكائن الفرد على أنه حر بذاته بوصفه فرداً، بل بارتباطه مع “الأمة الحرة” التي تحقق حريتها من سيطرة الآخر.
كل الأيديولوجيات الشمولية هي ضد الحرية الفردية، ولم تنتقل من حرية الأمة إلى حرية الفرد إطلاقاً. وبالعكس صار قمع الفرد مترابطا بالدفاع عن حرية الأمة ومن مستلزماتها، وبالتالي فقد الفرد حضوره الذاتي. إن انتقال الكائن إلى الذات أمر معقد.. فما الفرق….؟
كل منا يقول أنا رجل أو امرأة.. لكن انتقال الأنا إلى الفعل هو ما يحول الـ“أنا” إلى “ذات” التي تكون موجودة قبل ذلك لأن انتقالها إلى موضوع في الخارج يحقق وجودها ودون ذلك لا يتحقق.
من هنا تضيق حرية الفرد فصارت حرية للأمة، وكلما ضاقت حرية الأمة ضاقت حرية الفرد ولم يعد الفرد “ذات”. لذلك في كل أيديولوجيا تتحدث عن الكل ينشأ الوعي القطيعي وليس الذات.. والخطاب الماركسي لم يختلف كثيرا لأنه ركز على الطبقة وعلى حرية الطبقة من استغلال طبقة أخرى واعتبرها هي الحرية واعتبر أن كل انزياح عن هذا الهدف الطبقي هو خضوع للمعنى البورجوازي الصغير، وعندما انتقد الشيوعيون سارتر اتهموه بأنه بورجوازي صغير… ولدى الشيوعية لا تتحقق حرية الطبقة إلا بانتصارها على طبقة أخرى وتحقيق العدالة الاجتماعية.
عندما كنت في لينينغراد عرفت ماذا يعني غياب الحرية، فقد كنا نقيم في غرفة فإن تكلمنا ما يعد نقداً، يحذرك الروس بوجود تصنت. ومرة قلت لهم: لينين لا يعرف فلسفة، وهذا رأي الفيلسوف الروسي دوبرينين. ولكن في اليوم التالي استدعاني عميد الكلية وسألني: هل قلت هذا؟ فقلت نعم، فقال: بل قل لا لم أقله.
لهذا فإن حصر الحرية بجانبها الاجتماعي الطبقي أنشأ نظاماً سياسياً متعالياً، ضد الحرية كما أنشأها النظام القومي.
لكن القومية والماركسية هي أيديولوجيات دنيوية قابلة للتمرد عليها ورفضها وتحطيمها ولكن إن ذهبنا للتيار الديني سنجد أن العبودية مطلقة للإله المتعين بالنص وتفسير النص وشرحه وتأويله خضوعا تاماً لهذا النظام المتعالي.
في التيار الشيوعي حاز النص على صفة القداسة، فالبيان الشيوعي مثلا أصبح مقدساً رغم أن إنجلز نفسه قال عنه إنه شاخ في أكثر أجزائه ولكن أبقيته كوثيقة تاريخية، لكن بقي البيان لدى الشيوعيين نصاً مقدساً. ولكن من جهة أخرى يمكن تمزيق هذا النص “المقدس” الأرضي، وقد مزقه غورباتشوف وانتهينا، ولكن المقدس الديني والنص الإلهي المتعالي المطلق في السماء لا يمكن تمزيقه، والحوار مع النظام الأرضي المتعالي نسبيا ممكن، بينما الحوار مع الخاضعين للنص الديني غير ممكن، لأن النص لديهم هو المرجع وليس الكائن، لذا يغيب الكائن وينتهي ويموت، مثلا الحوار حول جواز الحرق في الإسلام يكون من باب “يوجد نص أم لا يوجد نص”، فإن وجد نص فهو مسموح وإن لم يوجد فهو محرم، أي لا يوجد أيّ ارتباط بالحياة، فالقول الفصل هو للنص، فلا اجتهاد مع النص. لذا فكرة الحرية في الدين هي عدم.
الخطاب الليبرالي العربي لا يختلف عن مثيله الغربي مثلا لطفي السيد. ولكن بعض الناس أرادوا أن يلعبوا بهذا الأمر بالاحتفاظ بعقابيل الأيديولوجيا كلها. مثلاً مفكر مهم مثل محمد عابد الجابري في كتابه “نقد الخطاب العربي” قال.. علينا التحرر من سلطتي السلف، السلف العربي والسلف الأوروبي، لتحقيق الاستقلال التاريخي التام للأمة العربية”، ويقصد لا مرجعية إسلامية ولا مرجعية أوروبية، بل إنشاء مرجعية عربية ذاتية، فتحقق الأمة استقلالها التاريخي، وهذا مأخوذ عن غرامشي الذي قال بتحرر الطبقة التاريخي، أي الاستقلال التاريخي للطبقة. ولكن الجابري قال يجب أن نجمع بين ابن خلدون والشاطبي وابن رشد وميشيل فوكو، وهذا لأن الجابري بنيوي يحقب تاريخ الوعي العربي كما ميشيل فوكو، لذا لم يستطع الجابري أن يتحرر لا من السلف العربي ولا من السلف الأوروبي.
مثلا حسن صعب تحدث عن التحرر من سلطة العقل إلى سلطة الفعل فننتقل الى التجربة مع أن طريق الوعي هو الانتقال من التجربة إلى العقل.
عندما أتأمل هيغل أرى أن كل ما نشاهده هو تعيين العقل. لذا عندما رأى هيغل نابليون قال: ها أنا أرى العقل يمتطي حصاناً، أي اعتبر نابليون عقل العالم الذي ينظف أوروبا من وسخها التاريخي.
التعيين السياسي للحرية هي الديمقراطية قولاً واحداً في أعلى صورها الممكنة وليس الواقعية فقط. وراسل يعرّف الديمقراطية بأنها “التوزيع العادل للقوة”، وهذا يعني أن العبودية هي احتكار القوة، فإن عرفنا الديمقراطية بأنها عدم احتكار القوة فهذا تعريف بسيط، ولكن يجب أن يشعر الكائن أنه يمتلك القوة الضرورية لتحقيق وجوده، فالمال قوة وسلطة، وإن لم تمتلك الطبقة العاملة قوة لمواجهة رأس المال ستكون حريتها غائبة.
الكائن ليس مجرد كائن لديه غريزة حب البقاء فقط، بل ولديه وعي للحرية، الحرية حيث “البقاء كما يجب أن يكون البقاء” لذا الانتقال إلى الحرية هو الانتقال الغريزي إلى ثقافة بوصفها تعيين وجود الكائنات لأننا لسنا كائنات بيولوجية ولأن غرائزنا وممارستها أصبحت ثقافة، فالجنس أصبح ثقافة والطعام ثقافة والشم ثقافة.. الخ.
داروين يقول: كل كائن لديه غريزة البقاء ولكن لم يقل بأن لدينا غريزة البقاء كما نريد أن نكون، لا يوجد أعمق من شعار “الشعب يريد” لأنه مرتبط بالإرادة، فأن تريد يعني أنت حر.. ومن هنا العبودية هي سلب الإرادة، بينما الحرية هي تعيين الإرادة.
الديمقراطية هي إذن التوزيع العادل للإرادات بحيث لا تتحكم إحدى الإرادات ببقية الإرادات.. دولة الحربة هي دولة ديمقراطية بالضرورة ودولة الحرية هي دولة تسامح.. أوروبا انتقلت إلى هنا، إلى الدولة بوصفها تعيين لحقل الحرية الفردي والاجتماعي. لذا ما من دولةٍ يمكن أن تحقق الحرية للكائن لأنها أداة سيطرة وقمع وهي تحتكر أدوات القمع ولكن كي يتحقق التوزيع العادل للقوة والإرادة.
دون وعي الحرية على هذا النحو لا يتحقق السلوك المناسب للكفاح من أجل الحرية وإلا سننتقل من الاستبداد إلى حالة أخرى من الاستبداد، والخطر المتأتي من الشموليات خطر كبير لأن هذا النظام يريد أن يبقى متعالياً ومحتكرا للقوة وحده.